الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الرُّخَصُ فَأَرْبَعَةٌ نَوْعَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ وَنَوْعَانِ مِنْ الْمَجَازِ أَحَدُهُمَا أَتَمُّ مِنْ الْآخَرِ أَمَّا أَحَقُّ نَوْعَيْ الْحَقِيقَةِ فَمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَقِيَامُ حُكْمِهِ جَمِيعًا فَهُوَ الْكَامِلُ فِي الرُّخْصَةِ مِثْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ إجْرَاؤُهَا وَالْعَزِيمَةُ فِي الصَّبْرِ حَتَّى يُقْتَلَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ قَائِمَةٌ لِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ لَكِنَّهُ رُخِّصَ لِعُذْرٍ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ بِالْقَتْلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بَاقٍ وَلَا يَفُوتُ صُورَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ صَحَّ، وَلَيْسَ التَّكْرَارُ رُكْنًا لَكِنْ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ هَتْكٌ لِحَقِّهِ ظَاهِرًا فَكَانَ لَهُ تَقْدِيمُ حَقِّ نَفْسِهِ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ، وَإِنْ شَاءَ بَذَلَ نَفْسَهُ حِسْبَةً فِي دِينِهِ لِإِقَامَةِ حَقِّهِ فَهَذَا مَشْرُوعٌ قُرْبَةً فَبَقِيَ عَزِيمَةً وَصَارَ بِهَا مُجَاهِدًا
ــ
[كشف الأسرار]
بِبَعْضِ الْمَالِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ بِالرُّجُوعِ فَكَذَا إذَا أَتَى بِبَعْضِ الْعَمَلِ وَصَارَ مُسْلَمًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَهُ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ الصَّدَقَةِ يَبْقَى صَدَقَةً بِدُونِ مَا لَمْ يُوجَدْ، وَالْقَدْرُ الْمَوْجُودُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَبْقَى قُرْبَةً بِدُونِ الْبَاقِي فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ هَاهُنَا، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الصَّدَقَةِ.
فَأَمَّا إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ فَرَخَّصَهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَظْرِ وَلِذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ أَفْضَلَ وَذَلِكَ كَمَنْ صَلَّى الْفَرْضَ وَرَأَى بِقُرْبِهِ صَبِيًّا كَادَ يَحْتَرِقُ أَوْ يَغْرَقُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ أُبِيحَ لَهُ قَطْعُ الْفَرْضِ وَاسْتِنْقَاذُ الصَّبِيِّ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الْهَلَاكِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَقِّ الْآدَمِيِّ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يُرَخَّصُ لَهُ الْإِفْطَارُ احْتِرَازًا عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ، وَصِحَّةُ الْخَلْوَةِ مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا بَلْ هِيَ فَاسِدَةٌ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي طَرِيقَتِهِ.
وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي النَّفْلِ قَائِمًا، وَإِتْمَامُهُ قَاعِدًا أَوْ نِيَّةُ الْأَرْبَعِ مَعَ التَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَفَارَقَا النَّذْرَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَا وَرَاءَ الرَّكْعَتَيْنِ وَصِفَةُ الْقِيَامِ لَيْسَا بِشَرْطَيْنِ لِبَقَاءِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ وُجُوبَ الْبَاقِي لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ، وَإِبَاحَةَ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ وَاقْتِدَاءَهُ بِالْمُتَنَفِّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ نَفْلٌ.
وَأَمَّا فَضْلُ الْمَظْنُونِ فَالْقِيَاسُ فِيهِ مَا قَالَهُ زُفَرُ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ عِبَادَةً فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَّا عُلَمَاءَنَا اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الشُّرُوعُ صَادَفَ الْوَاجِبَ فَيَلْغُو؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَكَرَّرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ ظُهْرُ الْيَوْمِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ عِنْدَهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي الْوَاجِبِ فَكَانَ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ أَوْ صَوْمِ الْقَضَاءِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَجِبُ بِهَذَا الشُّرُوعِ وَالْإِفْسَادِ شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّ جَمِيعَ الْقُرَبِ يَلْزَمُ حِفْظُهَا وَيَضْمَنُ بِإِفْسَادِهَا بَلْ يَجِبُ عِبَادَةُ نَفْلٍ الْتَزَمَهَا وَحَصَّلَهَا بِاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْقُرْبَةُ حَصَلَتْ لَهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لِلْعُهْدَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ صِيَانَتُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ فِعْلُهُ عِبَادَةً أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي قَصَدَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَالنَّفَلُ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً بِدُونِ الْقَصْدِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ نَفْلًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ نَظَرًا لَهُ فَجَعَلَهُ مُنْعَقِدًا فِيمَا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَلَا يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا فِيمَا لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الصِّيَانَةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ كَالْقُرَبِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لَمَّا شُرِعَتْ نَظَرًا لَهُ تُجْعَلُ مَشْرُوعَةً فِيمَا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ الصِّحَّةُ بَعْدَ الْأَدَاءِ، وَلَمْ تُجْعَلْ مَشْرُوعَةً فِيمَا لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ، وَهُوَ الْوُجُوبُ. وَالسُّنَنُ كَثِيرَةٌ يَعْنِي لَا احْتِيَاجَ إلَى إيرَادِ النَّظَائِرِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُ الْفُرُوعِ.
[أَقْسَام الرُّخَصُ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الرُّخَصُ) ، وَلَمَّا إذَا كَانَتْ الرُّخَصُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَأَعْذَارُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الرُّخَصِ فَانْقَسَمَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ أَرْبَعَةٍ. أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ مِنْ حَقِّ الشَّيْءِ إذَا ثَبَتَ أَيْ أَحَدُهُمَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقَّ لَك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا أَيْ أَنْتَ خَلِيقٌ بِهِ يَعْنِي فِي إطْلَاقِ اسْمِ الرُّخْصَةِ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. أَتَمُّ مِنْ الْآخَرِ أَيْ أَكْمَلُ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا. فَمَا اُسْتُبِيحَ أَيْ سَقَطَتْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ مَعَ الْقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَقِيَامِ حُكْمِهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شُرِعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخْصَةِ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ حَقِيقَةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَتْ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَذَلِكَ مِثْلُ التَّرَخُّصِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ، وَلَكِنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الصَّبْرِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ ثَابِتَةٌ مُصَمَّتَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ قَائِمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ وَهُوَ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّيَّةُ صِفَاتِهِ وَجَمِيعِ مَا أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الْعَبْدَ رُخِّصَ لَهُ الْإِجْرَاءُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ فِي ذَاتِهِ يَفُوتُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ صُورَةً بِتَخْرِيبِ الْبَيِّنَةِ، وَمَعْنًى بِزُهُوقِ الرُّوحِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ بَاقٍ، وَلَا تَفُوتُ صُورَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ مَرَّةً وَصُدِّقَ بِقَلْبِهِ حَتَّى صُحِّحَ إيمَانُهُ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ ثَانِيَةً إذْ التَّكْرَارُ فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْإِيمَانِ، وَلَمَّا صَارَ حَقُّهُ مُؤَدًّى لَمْ يَفُتْ حَقُّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بُطْلَانُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِهَذَا كَانَ التَّقْدِيمُ حَقَّ نَفْسِهِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ تَرَخُّصًا، وَإِنْ شَاءَ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي دِينِ اللَّهِ لِإِقَامَةِ حَقِّهِ حِسْبَةً أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَعَدَالَةً فِيمَا يُدَّخَرُ لِلْآخِرَةِ فَهَذَا أَيْ الْبَذْلُ مَشْرُوعٌ قُرْبَةً كَالْجِهَادِ أَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَهْتِكْ حُرْمَةَ دِينِهِ كَانَ فِيهِ إعْلَاءُ دِينِ اللَّهِ عز وجل، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْجِهَادِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولٌ فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ لِلْآخَرِ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَتَّى قُتِلَ كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ.
وَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ عَمَّارٍ وَخُبَيْبٍ رضي الله عنهما «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَمَا وَرَاك يَا عَمَّارُ قَالَ شَرٌّ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْت مِنْك وَذَكَرْت آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» أَيْ فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى التَّرَخُّصِ.
أَوْ فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَنَّهُ يَأْمُرُ أَحَدًا بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي لَوْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ لِمَا قُلْت فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ.، وَأَخَذُوا خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَجَعَلُوا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ وَيَسُبَّ مُحَمَّدًا، وَهُوَ يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ وَيَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام بِخَيْرِ فَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَجَابُوهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَوْجَزَ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَوْجَزْت كَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي أَخَافُ الْقَتْلَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يُلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَكُونَ هُوَ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ يَقْتُلُونَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَا أَرَى هَاهُنَا إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ فَأَقْرِئْ
وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ رُخِّصَ لَهُ فِي التَّرْكِ لِمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُرْمَةِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ فِي بَذْلِ نَفْسِهِ إقَامَةً لِلْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ تَفَرَّقَ جَمْعُ الْفَسَقَةِ، وَمَا كَانَ غَرَضُهُ إلَّا تَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَبَذَلَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ فَصَارَ مُجَاهِدًا بِخِلَافِ الْغَازِي إذَا بَارَزَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ جَمْعَهُمْ لَا يَتَفَرَّقُ بِسَبَبِهِ فَيَصِيرُ مُضَيِّعًا لِدَمِهِ لَا مُحْتَسِبًا مُجَاهِدًا. وَكَذَلِكَ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ رُخِّصَ لَهُ لِرُجْحَانِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا لِقِيَامِ الْحُرْمَةِ، وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَصَبَرَ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى مَاتَ وَكَذَلِكَ صَائِمٌ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ وَمُحْرِمٌ أُكْرِهَ عَلَى جِنَايَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ.
ــ
[كشف الأسرار]
رَسُولَك مِنِّي السَّلَامَ اللَّهُمَّ أَحْصِ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَاجْعَلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَلَمَّا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ تَحَوَّلَ وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ «وَجَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليهما السلام يُقْرِئُ سَلَامَ خُبَيْبٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ وَالْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (قَوْلُهُ) ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ أَيْ، وَكَالْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فِي أَنَّهُ إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] .
وَأَنَّهُ إنْ فَعَلَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَرْضٌ مُطْلَقٌ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] . وَإِذَا تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَا الْعَكْسُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُرْمَةِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ. لِمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ يَفُوتُ حَقُّهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَوْ تُرِكَ يَفُوتُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً بِمُبَاشَرَةِ الْمَحْظُورِ وَتَرْكِ الْمَنْعِ عَنْهُ لَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ بَاقٍ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْغَازِي إذَا بَارَزَ) ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ أَوْ يَنْكَأُ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ النَّيْلَ مِنْ الْعَدُوِّ بِصُنْعِهِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَشَّرَ بَعْضَهُمْ بِالشَّهَادَةِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى يَوْمَ أُحُدٍ كَتِيبَةً مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبٌ أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ ثُمَّ رَأَى كَتِيبَةً أُخْرَى وَقَالَ مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبٌ أَنَا لَهَا فَقَالَ أَنْتَ لَهَا، وَأَبْشِرْ بِالشَّهَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ وَقُتِلَ هُوَ» ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطْمَعْ فِي نِكَايَةٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ؛ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَلَا يَكُونُ عَامِلًا لِرَبِّهِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ.
وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ جَمْعُهُمْ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ مُعْتَقِدُونَ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْكِئَ فِعْلُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا الْقَوْمُ كُفَّارٌ لَا يَعْتَقِدُونَ حَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَتْلُهُ لَا يُنْكِئُ فِي بَاطِنِهِمْ فَيُشْتَرَطُ النِّكَايَةُ ظَاهِرًا لِإِبَاحَةِ الْإِقْدَامِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نِكَايَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُجَرِّئَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ بِفِعْلِهِمْ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ لِفِعْلِهِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ فَكَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ النِّكَايَةَ فِيهِمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَطْمَعُ النِّكَايَةَ فِي إرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَإِدْخَالِ الْوَهْنِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ وُجُوهِ النِّكَايَةِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ أَحَدٍ يَبْذُلُ نَفْسَهُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ نَكَأَتْ الْقُرْحَةُ قِشْرَتَهَا وَنَكَأْت فِي الْعَدُوِّ وَنَكَأَ إذَا قَتَلْت فِيهِمْ أَوْ جَرَحْت وَقَالَ اللَّيْث وَلُغَةٌ أُخْرَى نَكَيْت فِي الْعَدُوِّ نِكَايَةً
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَمَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ مِثْلُ الْمُسَافِرِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِنَاءً عَلَى سَبَبِ تَرَاخِي حُكْمِهِ، فَكَانَ دُونَ مَا اعْتَرَضَ عَلَى سَبَبِ حِلِّ حُكْمِهِ وَإِنَّمَا يُكْمِلَ الرُّخْصَةَ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَعَنْ أَبِي عُمَرَ وَنَكَيْت فِي الْعَدُوِّ لَا غَيْرُ. وَعَنْ الْكِسَائِيّ كَذَلِكَ، وَلَمْ أَجِدْهُ مُعَدًّى بِنَفْسِهِ إلَّا فِي جَامِعِ الْغُورِيِّ قَالَ يَعْقُوبُ نَكَيْت الْعَدُوَّ إذَا قَتَلْت فِيهِمْ وَجَرَحْت قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ بِوُدِّكَ أَهْلَهُ
…
وَلَمْ تَنْكَ بِالْبُوسَى عَدُوَّك فَابْعُدْ
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ هَذَا) أَيْ، وَكَثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ ثُبُوتُهُ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِهِ مَالَ غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ رُخِّصَ لَهُ ذَلِكَ لِرُجْحَانِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَفُوتُ فِي النَّفْسِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَحَقُّ غَيْرِهِ لَا يَفُوتُ مَعْنًى لِانْجِبَارِهِ بِالضَّمَانِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ، وَهُوَ الْمِلْكُ وَحُكْمُهُ، وَهُوَ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ قَائِمَانِ فَإِنَّ حُرْمَةَ إتْلَافِ مَالِهِ لِمَكَانِ عِصْمَتِهِ وَاحْتِرَامِهِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلُّ بِالْإِكْرَاهِ فَكَانَ فِي الصَّبْرِ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ مُقِيمًا فَرْضَ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ صِيَانَةً لِحَقِّ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَيَكُونُ مُثَابًا كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهَا نَصًّا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِفْطَارِ، وَإِفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْإِتْلَافِ هَاهُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ صَائِمٌ أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ أَوْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ بِمَخْمَصَةٍ يُرَخِّصُهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ أَصْلًا وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَفُوتُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الْقَضَاءُ فَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ حَقَّ نَفْسِهِ. وَإِنْ صَبَرَ، وَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَسْقُطْ فَكَانَ لَهُ بَذْلُ نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ عز وجل، وَفِيهِ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَإِعْزَازِهِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمَا الْإِفْطَارَ بِقَوْلِهِ. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِمَا كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَالْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ مِثْلُ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ لَهُ الدَّلَالَةُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الدَّفْعَ عَنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ قَالَ عليه السلام «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) ، وَهُوَ الَّذِي دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ رُخْصَةً فَمَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ أَيْ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ مُوجِبًا لِحِكْمَةٍ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ. إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ عَنْهُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ قَائِمٌ كَانَتْ الرُّخْصَةُ حَقِيقَةً، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ كَانَ هَذَا الْقِسْمُ دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ كَمَالَ الرُّخْصَةِ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا مَعَ السَّبَبِ فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ مَعَ الْبَيْعِ الْبَاتِّ وَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ مَعَ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ فَإِنَّ الْحُكْمَ، وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ ثَابِتٌ فِي الْبَاتِّ مُتَرَاخٍ عَنْ السَّبَبِ الْمَقْرُونِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - مِثْلُ الْمُسَافِرِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلصَّوْمِ الْمُحَرِّمِ لِلْفِطْرِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهِيدِ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ الْعَامُّ
لَكِنَّ السَّبَبَ لَمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ كَانَ الْقَوْلُ بِالتَّرَاخِي بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ رُخْصَةً فَأُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ
ــ
[كشف الأسرار]
نَحْوَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى كَانَ فَرْضًا إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ وَتَرْكُ الصَّوْمِ تَرَاخَى فِي حَقِّهِ إلَى إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَدْنَى حَالًا مِنْهَا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِفْطَارِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ السَّبَبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ الرُّخْصَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْعَزِيمَةِ أَدْنَى حَالًا مِنْ الرُّخْصَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَزِيمَةِ بِالْأَدْنَى؛ لِأَنَّ كَمَالَهَا وَانْتِقَاصَهَا بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ وَانْتِقَاصِهَا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخَذَتْ شَبَهًا بِالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ، وَهُوَ الْوُجُوبُ وَحُرْمَةُ الْإِفْطَارِ لَمَّا تَرَاخَى لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَلَمْ يُعَارِضْ الرُّخْصَةَ، وَهِيَ إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ وَتَرْكُ الصَّوْمِ حُرْمَةٌ فَكَانَتْ شَبِيهًا بِالْإِفْطَارِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَمْ يَكُنْ رُخْصَةً مَحْضَةً حَقِيقَةً.
لَكِنَّ السَّبَبَ لَمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ السَّبَبِ تَرَاخَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ إذْ لَوْ كَانَ مُعَلَّقًا لَمَا جَازَ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَلَكَانَ السَّبَبُ غَيْرَ تَامٍّ فِي الْحَالِ لِمَا مَرَّ. كَانَ الْقَوْلُ بِتَرَاخِي الْوُجُوبِ وَحِلِّ الْإِفْطَارِ بَعْدَمَا تَمَّ السَّبَبُ رُخْصَةً حَقِيقَةً فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ دُونَ الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ مَدْخَلٌ لِلْمَجَازِ يُوَجَّهُ، وَفِي الثَّانِي لِلْمَجَازِ مَدْخَلٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَرَاخِي الْحُكْمِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا لَلَزِمَهُ الْأَمْرُ بِالْفِدْيَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ بِعُذْرٍ يَرْفَعُ الْإِثْمَ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ الْحَلِفُ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ، وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ زَمَانِ الْقَضَاءِ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِالْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي الْحَالِ.
ثُمَّ الشَّيْخُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَجُوزُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ إدْرَاكِ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ صَامَ فِي السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَصُمْ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم. قَالُوا إنَّ اللَّه تَعَالَى عَلَّقَ الْوُجُوبَ فِي حَقِّهِ بِإِدْرَاكِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْمُقِيمِ قَبْلَ رَمَضَانَ وَقَدْ قَالَ عليه السلام. «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» . وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَوْ صَامَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] . لِبَيَانِ التَّرْخِيصِ بِالْفِطْرِ فَيَنْتَفِي بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَوَازِ كَثْرَةٌ.
وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ (وَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى أَيْ) الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنْ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ بِكَمَالِهِ لَمَّا كَانَ قَائِمًا وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ بِالْأَجَلِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ التَّعْجِيلِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ كَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّرَفُّهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلِتَرَدُّدٍ فِي الرُّخْصَةِ يَعْنِي الْيُسْرَ لَمْ يَتَعَيَّنْ
وَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا لِكَمَالِ سَبَبِهِ وَلَتَرَدَّدَ فِي الرُّخْصَةِ حَتَّى صَارَتْ الْعَزِيمَةُ تُؤَدِّي مَعْنَى الرُّخْصَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلِذَلِكَ تَمَّتْ الْعَزِيمَةُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَعْرَضَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَجَعَلَ الرُّخْصَةَ أَوْلَى اعْتِبَارًا لِظَاهِرِ تَرَاخِي الْعَزِيمَةِ إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَتِيلًا بِالصَّوْمِ فَيَصِيرُ قَاتِلًا نَفْسَهُ بِمَا صَارَ بِهِ مُجَاهِدًا وَفِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ فَلَمْ يَكُنْ نَظِيرُ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِقَتْلِ الظَّالِمِ حَتَّى أَقَامَ الصَّوْمَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مُضَافٌ إلَى الظَّالِمِ فَلَمْ يَصِرْ الصَّابِرُ مُغَيِّرًا لِلْمَشْرُوعِ فَصَارَ مُجَاهِدًا، وَأَمَّا أَتَمُّ نَوْعَيْ الْمَجَازِ فَمَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَاقِطٌ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا فَلَمْ يَكُنْ رُخْصَةً إلَّا مَجَازًا مِنْ حَيْثُ هُوَ نَسْخٌ تَمَحَّضَ تَخْفِيفًا
ــ
[كشف الأسرار]
فِي الْفِطْرِ بَلْ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعُ يُسْرٍ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْسَرُ مِنْ التَّفَرُّدِ بِهِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ بِخِلَافِ قَصْرِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ. فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ تُؤَدِّي أَيْ تُحَصِّلُ مَعْنَى الرُّخْصَةِ وَتُفْضِي إلَيْهِ، وَهُوَ الْيُسْرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَلِذَلِكَ أَيْ لِتَأْدِيَتِهَا مَعْنَى الرُّخْصَةِ تَمَّتْ الْعَزِيمَةُ أَيْ كَمُلَتْ بِحُصُولِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ مَعَ تَحَقُّقِ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ إقَامَةُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَزِيمَةَ كَانَتْ نَاقِصَةً بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ حُكْمِهَا إلَى زَمَانِ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ أَوْلَى كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إلَّا أَنَّ هَذَا التَّأَخُّرَ ثَبَتَ رِفْقًا بِالْمُسَافِرِ وَتَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَفِي الصَّوْمِ نَوْعُ يُسْرٍ أَيْضًا فَانْجَبَرَ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِهَذَا الْيُسْرِ فَتَمَّتْ، وَكَمُلَتْ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ أَعْرَضَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ أَيْ عَنْ تَرْجِيحِ الْعَزِيمَةِ، وَجَعَلَ الرُّخْصَةَ أَيْ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ اعْتِبَارًا لِظَاهِرِ تَرَاخِي الْعَزِيمَةِ أَيْ تَرَاخِي حُكْمِهَا فَإِنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الصَّوْمِ لَمَّا تَأَخَّرَ إلَى إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ عَدَمِ الْجَوَازِ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَقَرَّرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَالْأَدَاءُ قَبْلَهُ يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ فِي حَقِّ عَدَمِ الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّأْخِيرِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه السلام: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. ثُمَّ الْأَفْضَلُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ الْقَصْرُ فَكَذَا الْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ يَكُونُ أَفْضَلَ.
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ يَتَرَخَّصُ بِالْفِطْرِ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ «وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّوْمِ حَتَّى شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ أَفْطَرَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ وَالصَّوْمُ أَحَبُّ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفْضَلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ الصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ مَا هُوَ الْأَيْسَرُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى يَعْنِي إذَا أَضْعَفَهُ الصَّوْمُ فَحِينَئِذٍ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، وَلَوْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ لَزِمَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَوْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ الصَّوْمِ صَارَ قَتِيلًا بِالصَّوْمِ، وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِفِعْلِ الصَّوْمِ فَيَصِيرُ قَاتِلًا نَفْسَهُ بِمَا صَارَ بِهِ مُجَاهِدًا، وَهُوَ الصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إقَامَةُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ عَنْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ كَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي يُجَاهِدُ بِهِ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَ حَرَامًا.، وَفِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهِ إمَّا التَّأْخِيرُ أَوْ جَوَازُ التَّعْجِيلِ عَلَى
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَمَا سَقَطَ عَنْ الْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ فَمِنْ حَيْثُ سَقَطَ أَصْلًا كَانَ مَجَازًا وَمِنْ حَيْثُ بَقِيَ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِحَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ دُونَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِثَالُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ مَشْرُوعٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي بَابِ السَّلَمِ أَصْلًا تَخْفِيفًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ تَعْيِينُهُ فِي السَّلَمِ مَشْرُوعًا وَلَا عَزِيمَةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْيُسْرِ مُتَعَيِّنٌ لِوُقُوعِ الْعَجْزِ عَنْ التَّعْيِينِ فَوُضِعَ عَنْهُ أَصْلًا
ــ
[كشف الأسرار]
وَجْهٍ يُضْمَنُ يَسِيرًا فَأَمَّا التَّعْجِيلُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَكَانَ فِعْلُهُ تَغْيِيرًا لِلْمَشْرُوعِ.
أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ لِتَرْتَاضَ النَّفْسُ لِخِدْمَةِ خَالِقِهَا عَلَى مَا مَرَّ فِي أَبْوَابِ الْأَمْرِ فَإِذَا أَدَّى إلَى الْهَلَاكِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الِارْتِيَاضُ لِلْخِدْمَةِ فَكَانَ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ. فَلَمْ يَكُنْ نَظِيرُ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الظَّالِمِ أَيْ لَا يَكُونُ الْمُسَافِرُ فِيمَا ذُكِرَ مِثْلَ الْمُقِيمِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْفِطْرِ بِالْقَتْلِ الصَّابِرِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُقْتَلَ إقَامَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هُنَاكَ صَدَرَ مِنْ الْمُكْرَهِ وَأُضِيفَ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّابِرُ مُغَيِّرًا لِلْمَشْرُوعِ بِفِعْلِهِ بَلْ هُوَ فِي الصَّبْرِ مُسْتَدِيمٌ لِلْعِبَادَةِ مُظْهِرٌ لِلطَّاعَةِ وَذَلِكَ عَمَلُ الْمُجَاهِدِينَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ إذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْسَنَ إلَيْهِ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَبِالتَّعْجِيلِ مَعَ الْهَلَاكِ صَارَ رَادًّا عَفْوًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمُبْتَدِئًا مِنْ نَفْسِهِ بِالْإِحْسَانِ لَا مُقِيمًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يَحْسُنُ شَرْعًا وَعَقْلًا. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْمُسَافِرَ أَوْ الْمَرِيضَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ فَامْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا بَلْ يَكُونُ شَهِيدًا لِكَوْنِهِ مُقِيمًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إذْ حَقُّهُ لَمْ يَسْقُطْ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ، وَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ أَصْلًا لَمَا وَجَبَ الْبَذْلُ إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ نُصُوصٌ عَلَى إلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِهِمَا بِتَرْكِ الْإِفْطَارِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام «مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» . وَقَوْلِهِ عليه السلام «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» . وَالْمُرَادُ حَالَةَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ فِي إبَاحَةِ الِامْتِنَاعِ، وَفِعْلُ الصَّوْمِ فِي حَالِ عَدَمِ خَوْفِ التَّلَفِ فَدَلَّتْ عَلَى إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَكُونُ الْأَدَاءُ وَاجِبًا، وَلَا يَكُونُ مُقِيمًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِامْتِنَاعِ فَيَكُونُ آثِمًا وَالْإِكْرَاهُ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ نَظِيرُ خَوْفِ التَّلَفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ تَسْمِيَةُ مَا حُطَّ عَنَّا مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا، وَلَا عَلَى غَيْرِنَا لَا يُسَمَّى رُخْصَةً أَصْلًا، وَهِيَ لَمَّا وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِنَا فَإِذَا قَابَلْنَا أَنْفُسَنَا بِهِمْ كَانَ السُّقُوطُ فِي حَقِّنَا تَوْسِعَةً وَتَخْفِيفًا فَحَسُنَ إطْلَاقُ اسْمِ الرُّخْصَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ تَجَوُّزًا لَا تَحْقِيقًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ مَعَ الْحُكْمِ مَعْدُومٌ أَصْلًا بِالرَّفْعِ وَالنَّسْخِ، وَالْإِيجَابُ عَلَى غَيْرِنَا لَا يَكُونُ تَضْيِيقًا فِي حَقِّنَا، وَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ.
وَالْإِصْرُ الْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ وَالْأَحْكَامُ الْمُغَلَّظَةُ كَقَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ. وَالْأَغْلَالُ الْمَوَاثِيقُ اللَّازِمَةُ لُزُومَ الْغُلِّ كَذَا فِي غَيْرِ الْمَعَانِي. وَفِي الْكَشَّافِ: الْإِصْرُ الثِّقَلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَيْ يَحْبِسُهُ لِثِقَلِهِ، وَهُوَ مُثْقِلٌ لِثِقَلِ تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ نَحْوُ اشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ.، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ مِثْلُ لَمَّا كَانَ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنْ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ نَحْوِ بَتِّ الْقَضَاءِ بِالْقِصَاصِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً مِنْ غَيْرِ شَرْعِ الدِّيَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ، وَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ، وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَتَحْرِيمِ الْعُرُوقِ فِي اللَّحْمِ وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا قَامَتْ تُصَلِّي لَبِسُوا الْمُسُوحَ وَغَلُّوا أَيْدِيَهُمْ إلَى أَعْنَاقِهِمْ وَرُبَّمَا ثَقَبَ الرَّجُلُ تَرْقُوَتَهُ وَجَعَلَ فِيهَا طَرَفَ السَّلْسَلَةِ، وَأَوْثَقَهَا إلَى السَّارِيَةِ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ) وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَنْوَاعِ الرُّخَصِ فَمَا سَقَطَ عَنْ الْعِبَادِ بِإِخْرَاجِ السَّبَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الرُّخْصَةِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ السَّاقِطِ
وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ الْمُضْطَرُّ إلَيْهِمَا رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ سَاقِطَةٌ حَتَّى إذَا صَبَرَ صَارَ آثِمًا
ــ
[كشف الأسرار]
مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ فَمِنْ حَيْثُ سَقَطَ فِي مَحَلِّ الرُّخْصَةِ أَصْلًا كَانَ نَظِيرَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَكَانَ مَجَازًا إذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عَزِيمَةٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَقِيَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ أَخَذَ شَبَهًا بِالْحَقِيقَةِ فَضَعُفَ وَجْهُ الْمَجَازِ فَكَانَ دُونَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَلَكِنَّ جِهَةَ الْمَجَازِ غَالِبَةٌ عَلَى شَبَهِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْمَجَازِ بِالنَّظَرِ إلَى مَحَلِّ الرُّخْصَةِ وَشَبَهَ الْحَقِيقَةِ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا فَكَانَ جِهَةُ الْمَجَازِ أَقْوَى.
رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» . كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَمْلِكُونَهُ ثُمَّ يَشْتَرُونَهُ بِثَمَنٍ رَخِيصٍ وَيُسَلِّمُونَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَالنَّبِيُّ عليه السلام نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلْحَاجَةِ فَشُرِطَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي عَامَّةِ الْبِيَاعَاتِ لِتَثْبُتَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ثُمَّ سَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ فِي السَّلَمِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا حَتَّى كَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ لَا مُصَحِّحَةً لَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى مَقَاصِدِهِمْ مِنْ الْأَثْمَانِ قَبْلَ إدْرَاكِ غَلَّاتِهِمْ مَعَ تَوَصُّلِ صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ إلَى مَقْصُودِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَكَانَتْ رُخْصَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ سَقَطَ أَصْلًا فِيهِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَمْ تَبْقَ مَشْرُوعَةً كَالْأَصْرَارِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَكِنْ لَهَا شَبَهٌ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُ السَّلَمِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَوْ تَسْمِيَتُهُ رُخْصَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا لِمَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ عليه السلام لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» «وَلِنَهْيِهِ عليه السلام عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» .
وَقَوْلُهُ، وَلَا عَزِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَشْرُوعًا تَأْكِيدًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ عَدَمَ بَقَائِهِ مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ أَوْ تَقْدِيرُهُ لَمْ يَبْقَ عَزِيمَةً، وَلَا مَشْرُوعًا.، وَهَذَا أَيْ سُقُوطُ الْعَيْنِيَّةِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِ الْيُسْرِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّعْيِينِ مُتَحَقِّقٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِطَرِيقِ السَّلَمِ دَلِيلُ الْعَجْزِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا لَمَا بَاعَ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، وَلَبَاعَهُ مُسَاوَمَةً لَا سَلَمًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ التَّعْيِينُ مَشْرُوعًا أَصْلًا كَشَرْطِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ) ، وَمِثْلُ السَّلَمِ الْمُكْرَهُ أَيْ فِعْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ مَجَازًا بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ كَذَلِكَ الْمُكْرَهُ أَوْ الْمُضْطَرُّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ مُرَخَّصٌ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى مَفْعُولٍ مِنْ جِنْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَنَّهَا تَصِيرُ مُبَاحَةً أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ الْفِعْلُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ إبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ آثِمًا عِنْدَنَا. وَفِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَتَنَاوَلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ يَحْنَثُ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَنَا. تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] .
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] .
لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ إلَّا صِيَانَةً لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ عَنْ فَسَادِ الْخَمْرِ وَنَفْسِهِ عَنْ الْمَيْتَةِ فَإِذَا خَافَ بِهِ فَوَاتَ نَفْسِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ وَكَانَ إسْقَاطًا لِحُرْمَتِهِ فَإِذَا صَبَرَ لَمْ يَصِرْ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُضَيِّعًا دَمه إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ فَمَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَجَاعَةٍ غَيْرِ مَائِلٍ إلَى مَا يَؤُمُّهُ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ فَوْقَ سَدِّ الرَّمَقِ تَلَذُّذًا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يَغْفِرُ لَهُ مَا أَكَلَ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حِينَ اُضْطُرَّ إلَيْهِ. رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ فِي الرُّخْصَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَدَلَّ إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى قِيَامِ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ رَحْمَةً عَلَى عِبَادَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ. وَبِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَاءٌ عَلَى صِفَاتٍ فِيهَا مِنْ الْخَبَثِ وَالضَّرَرِ، وَلَا تَنْعَدِمُ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَبَقِيَتْ مُحَرَّمَةً كَمَا كَانَتْ وَرُخِّصَ الْفِعْلُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
فَاسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَقَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَتْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا كَانَتْ.
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبُ مَنْ جَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا شَرْعًا فَيُقَالُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُحَرَّمَةٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مُبَاحَةٌ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِالنَّصِّ أَيْضًا. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] . فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ.؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْحَظْرِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْغَضَبِ إذْ التَّقْدِيرُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ فَيَنْتَفِي الْغَضَبُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَدُلُّ انْتِفَاؤُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْحِلِّ. وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَتَهُ أَيْ حُرْمَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَنَحْوَهُمَا. مَا ثَبَتَتْ إلَّا صِيَانَةً لِعَقْلِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَدِينِهِ عَنْ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِسَبَبِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] . وَنَفْسِهِ أَيْ بَدَنِهِ عَنْ تَعَدِّي خَبَثِ الْمَيْتَةِ وَنَظَائِرِهَا إلَيْهِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَإِذَا خَافَ بِهِ أَيْ بِالِامْتِنَاعِ فَوَاتَ نَفْسِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ فِي فَوَاتِ الْكُلِّ فَوَاتَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً.
فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ أَيْ مَعْنَى الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ. فَكَانَ هَذَا أَيْ إطْلَاقُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إسْقَاطًا لِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِذَا صَبَرَ لَمْ يَصِرْ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بَلْ صَارَ مُضَيِّعًا دَمَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحُرْمَةِ فَكَانَ آثِمًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ دَخَلَ النَّارَ. إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرُّخْصَةُ مِثْلَ سُقُوطِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ بَلْ كَانَتْ دُونَهُ فِي الْمَجَازِيَّةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ سَاقِطَةٌ أَوْ بِقَوْلِهِ فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاضْطِرَارَ الْمُرَخِّصَ لِلتَّنَاوُلِ يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ وَعَسَى يَقَعُ التَّنَاوُلُ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الرَّمَقِ وَبَقَاءُ الْمُهْجَةِ إذْ مِثْلُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذِهِ الْمَخْمَصَةِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ هَذَا الِاضْطِرَارِ الْمُرَخِّصِ، وَالتَّنَاوُلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِهَذَا التَّفَاوُتِ، وَفِي التَّيْسِيرِ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قُلْنَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ بِالسَّفَرِ أَنَّهُ رُخِّصَ إسْقَاطًا حَتَّى لَا يَصِحَّ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُسَافِرِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا إسْقَاطًا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الرُّخْصَةِ وَمَعْنَاهَا أَمَّا الدَّلِيلُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ \انقصر وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» سَمَّاهُ صَدَقَةً وَالتَّصَدُّقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ مَنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ إذَا عَفَا فَمَنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لِلْيُسْرِ
ــ
[كشف الأسرار]
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] أَيْ غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. رَحِيمٌ بِشَرْعِ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ الْكِبَارِ فَكَيْفَ يُؤَاخِذُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَتَعَبَّدُهُمْ بِهِ.
وَقِيلَ غَفُورٌ بِالْعَفْوِ عَمَّنْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. رَحِيمٌ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بِإِزَاحَةِ الْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الْمَضَرَّةِ رَحِيمٌ بِإِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ لِلْمَعْذُورِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِنْ وَقْتِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مَا قُلْنَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ بِالسَّفَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْقَصْرُ رُخْصَةٌ حَقِيقَةٌ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ حَتَّى لَوْ فَاتَ الْوَقْتُ يَقْضِي أَرْبَعًا سَوَاءٌ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَوْ فِي الْحَضَرِ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] . شُرِعَ بِلَفْظِ لَا جُنَاحَ، وَأَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ الْإِيجَابِ.
وَبِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبُ الْأَرْبَعِ وَالسَّفَرُ سَبَبٌ لِلْقَصْرِ لَا عَلَى رَفْعِ الْأَوَّلِ وَتَغْيِيرِهِ فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ صَحَّ وَيَلْزَمُهُ الْأَرْبَعُ، وَلَوْ ارْتَفَعَ لِمَا لَزِمَهُ كَمُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ إلَّا أَنَّ الْقَصْرَ سَبَبٌ عَارِضٌ فَمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَهَذَا كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْجُمُعَةِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَكَذَا الْمُسَافِرُ يَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ.
وَكَذَا الْمُسَافِرُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَّرَ، وَإِنْ شَاءَ عَجَّلَ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ أَصْلُ الْفَرْضِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَقْتِ إلَّا أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالتَّرْكِ وَالتَّأْخِيرِ. وَعِنْدَنَا الْقَصْرُ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ أَيْ الْقَصْرُ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ إسْقَاطٌ لِلْعَزِيمَةِ، وَهِيَ الْأَرْبَعُ.
حَتَّى لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُسَافِرِ أَيْ أَدَاءُ مَا سَقَطَ عَنْهُ كَمَا لَوْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَبْقَ مُوجِبًا إلَّا رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ الْأُخْرَيَانِ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا وَخَلْطُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ قَصْدًا لَا يَحِلُّ، وَأَدَاءُ النَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِلْفَرْضِ فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَلَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا أَيْ هَذِهِ الرُّخْصَةَ إسْقَاطًا لِلْعَزِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الرُّخْصَةِ أَيْ بِدَلِيلٍ يُثْبِتُ الرُّخْصَةَ وَاسْتِدْلَالًا بِمَعْنَى هَذِهِ الرُّخْصَةِ. أَمَّا الدَّلِيلُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيِّ قَالَ سَأَلْت عُمَرَ رضي الله عنه مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إنَّهَا صَدَقَةٌ. وَالضَّمِيرُ أَوْ اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إلَى الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ أَوْ إلَى الْقَصْرِ، وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] . أَوْ لِتَأْوِيلِهِ بِالرُّخْصَةِ أَيْ هَذِهِ الرُّخْصَةُ صَدَقَةٌ.
فَالشَّافِعِيُّ رحمه الله تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ عليه السلام أَنَّ الْقَصْرَ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ لَا تَثْبُتُ، وَلَا تَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فَاقْبَلُوا فَقَبْلَ الْقَبُولِ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ.
فَالشَّيْخُ أَدْرَجَ فِي تَقْرِيرِهِ رَدَّ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ سَمَّاهُ أَيْ الْقَصْرُ صَدَقَةٌ وَالتَّصْدِيقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ فَاعْمَلُوا بِهَا وَاعْتَقَدُوهَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ قَبِلَ الشَّرَائِعَ
وَقَدْ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ بِيَقِينٍ فَلَا يَبْقَى الْإِكْمَالُ إلَّا مُؤْنَةً مَحْضَةً لَيْسَ فِيهَا فَضْلُ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ فَالْقَصْرُ مَعَ مُؤْنَةِ السَّفَرِ مِثْلُ الْإِكْمَالِ كَقَصْرِ الْجُمُعَةِ مَعَ إكْمَالِ الظُّهْرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ أَصْلًا
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ اعْتَقَدَهَا. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ وَجْهٍ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ. وَتَمْلِيكُهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا مَحْضًا حَتَّى لَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ تَصَدَّقْتُ بِالدَّيْنِ عَلَيْك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ أَوْ سَكَتَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَإِنْ قَالَ لَا أَقْبَلَ يَرْتَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَدْيُونِ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ التَّصَدُّقُ بِهِ إسْقَاطًا مَحْضًا بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُهُ بِالْحَظْرِ كَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُرَدُّ بِالرَّدِّ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يَقْبَلُهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِآخَرَ، وَهَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ لَك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك إذَا صَدَرَ مِنْ الْعِبَادِ قَدْ يَقْبَلُ الرَّدَّ حَتَّى لَوْ قَالَ الْآخَرُ لَا أَقْبَلُ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِذَا صَدَرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ لَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا أَوْجَبَهُ، وَأَثْبَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا مِثْلُ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْوَارِثِ فَإِذَا قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ.
وَالتَّمْلِيكُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَقْبَلُهُ إذَا صَدَرَ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ، وَهَبْت مِلْكَ الطَّلَاقِ أَوْ النِّكَاحِ مِنْك أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك أَوْ يَقُولُ وَلِيُّ الْقِصَاصِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهَبْت الْقِصَاصَ لَك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك فَتَطْلُقُ الْمَرْأَةُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِسْقَاطُ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَالتَّصَدُّقُ الصَّادِرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَهُوَ شَطْرُ الصَّلَاةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ، وَلَا يَتَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْإِسْقَاطُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْقَاطَ تَصَدُّقًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] .
1 -
وَمِنْ الدَّلِيلِ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ، وَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ. وَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ أَنْتَ أَكْمَلْت وَقَالَ لِلْآخَرِ أَنْتَ قَصَرْت كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ كَالْمُقْصِرِ فِي الْحَضْرَةِ» . كَذَا أَوْرَدَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَأَسْنَدَهُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ فَأَمَّا قَصْرُ الذَّاتِ فَثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ (قَوْلُهُ) وَقَدْ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ بِيَقِينٍ.
إذَا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي شَيْءٍ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الرُّخْصَةِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ يُسْرًا فَالْعَزِيمَةُ إمَّا إنْ تَضَمَّنَتْ فَضْلَ ثَوَابٍ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ تَضَمَّنَتْ ثَوَابَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَتْ يُسْرًا آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الرُّخْصَةِ كَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ تَضَمَّنَ يُسْرَ مُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلُ ثَوَابٍ، وَلَا نَوْعُ يُسْرٍ فَسَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالرُّخْصَةِ وَتَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِيهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ
وَالثَّانِي أَنَّ التَّخْيِيرَ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا كَانَ رُبُوبِيَّةً، وَإِنَّمَا لِلْعِبَادِ اخْتِيَارُ الْأَرْفَقِ فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا كَانَ رُبُوبِيَّةً، وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ تَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ جَبْرًا بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَرْفَقَ عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَمْ نَجْعَلْ رُخْصَةَ الصَّوْمِ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ بِالتَّأْخِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] لَا بِالصَّدَقَةِ بِالصَّوْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَا يَتَضَمَّنُ إلَّا كَمَالَ فَضْلِ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الثَّوَابِ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ لَا فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] . اعْتَبَرَ حُسْنَ الْعَمَلِ لَا كَثْرَتَهُ وَقَالَ عليه السلام «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ» . أَيْ طَاقَتُهُ فَجَعَلَ جُهْدَهُ أَفْضَلَ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا دِرْهَمًا وَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ ثُمَّ الْمُسَافِرُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا عَلَيْهِ كَالْمُقِيمِ فَكَانَ كَالْجُمُعَةِ وَالْفَجْرِ مَعَ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَا فَضْلَ لِظُهْرِ الْمُقِيمِ عَلَى فَجْرِهِ، وَلَا لِظُهْرِ الْعَبْدِ عَلَى جُمُعَةِ الْحُرِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ قَوْلُهُ (وَالثَّانِي أَنَّ التَّخْيِيرَ) كَذَا ذَكَرَ الْخَصْمُ أَنَّ ثُبُوتَ الْقَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ.
فَإِنْ اخْتَارَ الْقَصْرَ كَانَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ ذَلِكَ كَانَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا.، وَفِيهِ فَسَادٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا تَخْيِيرٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا بِالْعَبْدِ وَالِاخْتِيَارُ الْخَالِي عَنْ الرِّفْقِ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ جل جلاله فَإِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ أَوْ مَضَرَّةٍ تَنْدَفِعُ عَنْهُ فَإِثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا التَّخْيِيرِ لِلْعَبْدِ يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَكُونُ فَاسِدًا وَثَانِيهِمَا أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصْبُ شَرِيعَةٍ وَحُكْمٍ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْعَبْدِ، وَمُعَلَّقًا بِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ شَرْعِيَّةُ الْقَصْرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّكُمْ إنْ اخْتَرْتُمْ ذَلِكَ وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا مَتَى عُلِّقَتْ بِرَأْيِهِمْ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا فِي الْحَالِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِذَا شَاءَ الْعَبْدُ كَانَ الثُّبُوتُ مُضَافًا إلَى الْمَشِيئَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ نَصْبِ الشَّرِيعَةِ إلَّا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الرُّسُلِ فَإِضَافَتُهُ إلَى غَيْرِهِمْ تُؤَدِّي إلَى الشَّرِكَةِ فِي خَاصَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْ الرِّسَالَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ أَدْرَجَ فِي كَلَامِهِ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَالَ التَّخْيِيرُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا بِالْعَبْدِ كَانَ رُبُوبِيَّةً؛ لِأَنَّ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا قَبْلَ اخْتِيَارِهِ كَانَ هَذَا تَخْيِيرًا لَهُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ جَرِّ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ، وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِيَارِ لَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا بَلْ الثَّابِتُ أَحَدُهُمَا وَثُبُوتُ الْآخَرِ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ هَذَا تَعْلِيقًا لِلشَّرْعِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ تَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ جَبْرًا حَتَّى نَفَّذَ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْرَ مَا أُرِيدَ مِنْهَا مِنْ إبَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ وُجُوبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ اخْتِيَارٌ فِي ذَلِكَ فَلَوْ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ أَدَّى إلَى الشَّرِكَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ الْمَشْرُوعُ بِالسَّفَرِ تَعَلُّقُ الْقَصْرِ بِقَوْلِ الْعَبْدِ، وَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ. قُلْنَا إنَّ الْمَشْرُوعَ الَّذِي اُبْتُلِينَا بِفِعْلِهِ هُوَ الصَّلَاةُ لَا الْقَصْرُ فَإِنَّهُ سُقُوطٌ وَالْعِبْرَةُ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يَكُونُ صَيْرُورَةُ الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا إلَيْنَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ إلَيْنَا الْأَدَاءُ لَا غَيْرُ هَذَا أَصْلُ الشَّرْعِ، وَإِلَى الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ الْعِلَلِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ إقَامَةٍ دُونَ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ثُمَّ الْأَدَاءُ بَعْد ثُبُوتَ الْأَحْكَامِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلَا تَرَى ابْتِدَاءَ كَلَامٍ رَدًّا لِمَا عَلَّقَ الْخَصْمُ السُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ أَيْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَنَحْوُهَا مِثْلُ التَّخْيِيرِ الثَّابِتِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . الْآيَةَ وَالتَّخْيِيرُ الثَّابِتُ فِي الْحَلْقِ بِعُذْرٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . فَإِنَّهُ أَيْ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ التَّخْيِيرُ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَةَ التَّصَدُّقِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى الْإِسْقَاطِ فِي الْقَصْرِ لَمْ نَجْعَلْ رُخْصَةَ الصَّوْمِ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ فِيهِ بِلَفْظِ التَّأْخِيرِ لَا بِالصَّدَقَةِ بِالصَّوْمِ
وَإِنَّمَا إسْقَاطُ الْبَعْضِ مِنْ هَذَا نَظِيرُ التَّأْخِيرِ وَالْحُكْمُ هُوَ التَّأْخِيرُ، وَالْيُسْرُ فِيهِ مُتَعَارِضٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ لِسَبَبِ السَّفَرِ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ بِشَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْيُسْرِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى أَيَّامِ الْإِقَامَةِ يَتَعَذَّرُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ وَيَخِفُّ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الرِّفْقُ بِمَرَافِقِ الْإِقَامَةِ، وَالنَّاسُ فِي الِاخْتِيَارِ مُتَفَاوِتُونَ فَصَارَ التَّخْيِيرُ لِطَلَبِ الرِّفْقِ فَصَارَ الِاخْتِيَارُ ضَرُورِيًّا وَلِلْعَبْدِ اخْتِيَارٌ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا مُطْلَقُ الِاخْتِيَارِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ إلَهِيٌّ وَصَارَ الصَّوْمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَقَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ الَّذِي وُعِدْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صِيَامُ سَنَةٍ فَفَعَلَ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بِظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي دَرْكِ حُدُودِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ــ
[كشف الأسرار]
وَإِنَّمَا إسْقَاطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا أَيْ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ نَظِيرُ التَّأْخِيرِ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِلَا مَشِيئَةٍ مِنَّا، وَلَا رَأْيٍ فَكَذَا الْقَصْرُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ السَّبَبِيَّةِ وَبَقِيَ مُوجَبًا كَمَا كَانَ حَتَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ إذَا أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ جَازَ التَّعْجِيلُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ مِمَّا يَقْبَلُ التَّعْجِيلَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحُلُولِ؛ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ لِلتَّيْسِيرِ، وَالْيُسْرُ مُتَعَارِضٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ. وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْيُسْرِ؛ لِأَنَّ الْبَلِيَّةَ إذَا عَمَّتْ طَابَتْ. فَصَارَ الِاخْتِيَارُ ضَرُورِيًّا أَيْ ثَبَتَ ضَرُورَةُ طَلَبِ الرِّفْقِ وَالْعَبْدُ أَهْلٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. فَأَمَّا مُطْلَقُ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ رِفْقٍ فَلَا أَيْ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إلَهِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا.
وَصَارَ الصَّوْمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ السَّبَبِ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ أَيْضًا.، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ فَقَالَ الْعَزِيمَةُ فِي الصَّوْمِ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِالصَّوْمِ إلَّا بَعْدَ إدْرَاكِهَا فَلَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَكَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ الْحُكْمُ إلَى زَمَانِ الْإِقَامَةِ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ فِي الْحَالِ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى.
ثُمَّ شَرَعَ فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَقَالَ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أُذِنَ الْعَبْدُ فِي الْجُمُعَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَهُوَ الظُّهْرُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا الْجُمُعَةُ، وَهَذَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَيْنًا عِنْدَ الْإِذْنِ كَمَا فِي الْحُرِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ الْأَصْلُ حَتَّى لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْإِذْنِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحُرِّ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَابِتٌ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الظُّهْرَ وَالْجُمُعَةَ مُخْتَلِفَانِ فَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلرِّفْقِ بِخِلَافِ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا وَاحِدٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا أَنَّ أَدَاءَ أَحَدَيْهِمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ وَعَكْسُهُ وَيُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ لِلظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ إنْ شَاءَ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ شَاءَ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ السَّعْيِ وَالْخُطْبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَعْنِي كَمَا لَا يَلْزَمُ تَخْيِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى مَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ تَخْيِيرُ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ صِيَامُ سَنَةٍ فَفَعَلَ، وَهُوَ مُعْسِرٌ يُخَيَّرُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ مَعَ أَنَّهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَوْمُ السَّنَةِ وَالثَّلَاثَةِ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى أَيْ مُخْتَلِفَانِ مَعْنًى، وَإِنْ اتَّفَقَا صُورَةً؛ لِأَنَّ صَوْمَ السَّنَةِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ، وَصَوْمَ الثَّلَاثِ كَفَّارَةٌ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَمِينِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ فَصَحَّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلْأَرْفَقِ عِنْدَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ الدُّخُولِ.
فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ وُقُوعَهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ كَذَا فَلَا تَخْيِيرَ بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ لَا غَيْرُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَيْ مَسْأَلَةِ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ هُمَا سَوَاءٌ أَيْ الْقَصْرُ وَالْإِكْمَالُ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ