المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ)

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ

- ‌[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ كَلِمَةُ كُلٍّ

- ‌[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]

- ‌كَلِمَةُ مَا

- ‌ كَلِمَةُ الَّذِي

- ‌ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ

- ‌[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]

- ‌ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ

- ‌[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]

- ‌ كَلِمَةُ أَيُّ

- ‌ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ

- ‌[بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ]

- ‌(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌[تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز]

- ‌طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ

- ‌ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ

- ‌[يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ]

- ‌ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي

- ‌[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]

- ‌ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ

- ‌إِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ

- ‌قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا

- ‌ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ

- ‌(بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ)

- ‌دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ

- ‌ الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

- ‌(بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي)

- ‌[معانى الْوَاوُ]

- ‌[معانى الْفَاءُ]

- ‌[معانى ثُمَّ]

- ‌[معانى بَلْ]

- ‌[معانى لَكِنْ]

- ‌[معانى أَوْ]

- ‌بَابُ حَتَّى) :

- ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

- ‌[مَعْنَى الْبَاءُ]

- ‌[مَعْنَى عَلَى]

- ‌[مَعْنَى مِنْ]

- ‌[مَعْنَى إلَى]

- ‌[مَعْنَى فِي]

- ‌[حُرُوفِ الْقَسَمِ]

- ‌ اَيْمُ اللَّهِ

- ‌ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ

- ‌ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌ حُرُوفِ الشَّرْطِ

- ‌(بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ)

- ‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

- ‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

- ‌[دَلَالَة الْمُقْتَضِي]

- ‌الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

- ‌ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ

- ‌ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

- ‌ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ

- ‌ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ

- ‌ مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ

- ‌(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)

- ‌[أَقْسَام الْعَزِيمَةُ]

- ‌[أَقْسَام الرُّخَصُ]

- ‌{بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا}

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ)

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ

- ‌[سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ]

- ‌ سَبَبُ الْخَرَاجِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ

- ‌سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ

- ‌سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ)

- ‌(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)

- ‌(بَابُ الْمَشْهُورِ)

- ‌(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)

- ‌[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]

- ‌[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ]

- ‌بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]

الفصل: ‌ دلالة النص

حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَجُوزُ الْأَدَاءُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا فِي عَشْرَةِ سَاعَاتٍ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْيَوْمُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ فِي حُكْمِ التَّمْلِيكِ مِثْلُ الثَّوْبِ وَالْإِبَاحَةِ لَا يَصِحُّ، إلَّا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَبَضَ الْمِسْكِينُ كِسْوَتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا جُمْلَةً أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي غَيْرِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالتَّفْرِيقِ.

وَأَمَّا‌

‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

فَمَا ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّظَرِ لُغَةً

ــ

[كشف الأسرار]

اعْتِبَارُهَا وَوَجَبَ إقَامَةُ سَبَبٍ ظَاهِرٍ مَقَامَهَا، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الطَّعَامِ سَبَبًا ظَاهِرًا لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَهُوَ تَجَدُّدُ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ غَالِبًا فَأَقَمْنَاهُ مَقَامَهُ وَفِي الْكِسْوَةِ لَا يَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ وَنَحْوِهِ، إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا يَتَجَدَّدُ بِهِ الْحَاجَةُ إلَيْهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ وَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُقَامُ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَأَقَمْنَا تَجَدُّدَ الْيَوْمِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ الطَّعَامُ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فِي الْكِسْوَةِ أَيْضًا وَأَنْ يُوجَدْ فِي الْكِسْوَةِ مَا يُوجَدُ فِي الطَّعَامِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله: وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُدَّةُ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَى الْكِسْوَةِ مَعْلُومَةً شُرِطَ نَفْسُ التَّفْرِيقِ بِأَقَلَّ مَا تُيَسِّرُ الْعِبَادَةُ عَنْهُ وَذَلِكَ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا سَاعَاتٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ.

حَتَّى قَالَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ صَارَ هَالِكًا وَكَذَا قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا رَاجِعٌ إلَيْهِ أَيْضًا لِلْعَشَرَةِ أَيْ لِلْأَثْوَابِ الْعَشَرَةِ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ الزَّمَانَ الَّذِي اعْتَبَرُوهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهَا أَيْ السَّاعَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ أَيْ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ فِي حُكْمِ التَّمْلِيكِ مِثْلُ الثَّوْبِ فَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي عَشْرِ سَاعَاتٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْ مُحَمَّدٌ مَا لَوْ فَرَّقَ الْفِعْلَ أَيْ الْإِطْعَامَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَا إشْكَالَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُسْتَوْفَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ طَعَامُ عَشَرَةٍ فَأَمَّا فِي التَّمْلِيكِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ فَإِذَا فَرَّقَ الدَّفَعَاتِ جَازَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ كَمَا يَجُوزُ فِي الْأَيَّامِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ لِتَفَرُّقِ الْفِعْلِ وَإِنْ انْعَدَمَ تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ سَدُّ الْخُلَّةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ طَاعِمٌ يَمْلِكُهُ وَإِطْعَامُ الطَّاعِمِ لَا يَتَحَقَّقُ.

وَبَعْدَمَا اسْتَوْفَى فِي وَظِيفَتِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا يَحْصُلُ سَدُّ خُلَّتِهِ بِصَرْفِ وَظِيفَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى لِمَا سَنَذْكُرُ. وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَجَدُّدَ الْأَيَّامِ فِيهِ أُقِيمَ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا. وَلَا يَلْزَمُ إلَى آخَرَ تَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَ كِسْوَتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ عَنْ الْكِسْوَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ أَحَدِهِمَا حَصَلَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِ فَلَمْ يَجُزْ الْآخَرُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا قَبَضَ كِسْوَتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ.

فَقَالَ أَوْ آكِلٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُؤَدِّي، إلَّا كِسْوَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مُكَلَّفٌ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالتَّفْرِيقِ أَيْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُؤَدِّي بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ فِي حَالٍ لَا يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ فَيُكَلَّفُ بِالتَّفْرِيقِ.

[دَلَالَةُ النَّصِّ]

قَوْلُهُ (وَأَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ) أَيْ الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَمَا ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً.

قَالَ الشَّيْخُ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى: وَلَا نَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُهُ ظَاهِرُ النَّظْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَارَةِ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ الْكَلَامُ كَالْإِيلَامِ مِنْ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ الضَّرْبِ لُغَةً لَا شَرْعًا بِدَلِيلِ

ص: 219

وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهَذَا مَا ظَهَرَ وَمِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ لُغَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِظَاهِرِ اللُّغَةِ مِثْلُ الضَّرْبِ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْقُولَةٍ وَمَعْنَى مَقْصُودٍ وَهُوَ الْإِيلَامُ وَالتَّأْفِيفُ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْقُولَةٍ وَمَعْنَى مَقْصُودٍ وَهُوَ الْأَذَى وَالثَّابِتُ بِهَذَا الْقِسْمِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ، إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ دُونَ الْإِشَارَةِ حَتَّى صَحَّ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّ كُلَّ لُغَوِيٍّ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِالضَّرْبِ لُغَةً.

وَذَكَرَ أَيْضًا فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ دَلَالَةُ النَّصِّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللُّغَةِ مَجَازِهَا وَحَقِيقَتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَعْرِيفَ دَلَالَةِ النَّصِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَلَا نُعِيدُهُ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهَذَا أَيْ بِمَعْنَى النَّظْمِ مَا ظَهَرَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ كَلِمَةُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا لِلْبَيَانِ أَيْ تَبَيَّنَ وَفَهِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْكَلَامِ لَا مِنْ اللَّفْظِ نَفْسِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى مَا وَلُغَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْصُودِ لَا بِظَاهِرِهِ أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَكُونُ مَقْصُودًا لُغَةً بِظَاهِرِ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لَهُ الْكَلَامُ مِثْلُ الضَّرْبِ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْقُولَةٍ أَيْ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلتَّأْدِيبِ وَمَعْنَى مَقْصُودٌ وَهُوَ الْإِيلَامُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ إلَّا الْإِيلَامُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فَضَرَبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِفَوَاتِ مَعْنَى الْإِيلَامِ هُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ اسْتِعْمَالُ آلَةِ التَّأْدِيبِ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالْوَضْعِ وَمَعْنَى الْإِيلَامِ هُوَ الْمَفْهُومُ لُغَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَا مِنْ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلْإِيلَامِ فَالثَّابِتُ بِمَعْنَى الْإِيلَامِ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَكَذَا التَّأْفِيفُ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ إظْهَارُ التَّبَرُّمِ وَالسَّآمَةِ بِالتَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ أُفٍّ.

وَمَعْنَى مَقْصُودٍ وَهُوَ الْإِيذَاءُ فَإِظْهَارُ التَّبَرُّمِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ وَالْإِيذَاءُ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَالثَّابِتُ بِهِ هُوَ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِيذَاءِ لَا بِصُورَةِ التَّأْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْإِيذَاءُ فِي الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ فَوْقَ الْإِيذَاءِ فِي التَّأْفِيفِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِيهَا بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً وَكَانَ النَّصُّ بِمَعْنَاهُ دَالًّا عَلَى تَحْرِيمِهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَ دَلَالَةَ النَّصِّ لَا عَيْنَ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا لَفْظًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ لُغَةً كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ مُضَافًا إلَى النَّصِّ كَأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَهُ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ هَذَا الْقِسْمَ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ دُونَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ وُجِدَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَفِي الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ، إلَّا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ فَتَقَابَلَ الْمَعْنَيَانِ وَبَقِيَ النَّظْمُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْإِشَارَةِ فَتَرَجَّحَتْ بِذَلِكَ.

1 -

وَمِثَالُ تَعَارُضِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ لِلْجِنَايَةِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] الْآيَةَ؛ لَأَنْ تَجِبُ بِالْعَمْدِ وَلَا عُذْرَ فِيهِ كَانَ أَوْلَى وَيُعَارِضُهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ جَزَائِهِ جَهَنَّمَ إذْ الْجَزَاءُ اسْمٌ لِلْكَامِلِ التَّامِّ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مَعَهُ كَانَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ فَلَمْ يَكُنْ كَامِلًا تَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الْخَطَأِ لَمَّا وَجَبَتْ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَعَرَفْنَا بِلَفْظِ الْجَزَاءِ أَنَّ مِنْ مُوجِبِ النَّصِّ انْتِفَاءَ الْكَفَّارَةِ فَرَجَّحْنَا الْإِشَارَةَ عَلَى الدَّلَالَةِ، حَتَّى صَحَّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مِثْلُ النَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةُ الِاسْتِثْنَاءُ مُعْتَرِضٌ.

وَمِثَالُ إثْبَاتِ الْحُدُودِ بِهَا إيجَابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الرَّدْءِ؛ لِأَنَّ

ص: 220

وَلَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ بِالرَّأْيِ نَظَرًا لَا لُغَةً حَتَّى اخْتَصَّ بِالْقِيَاسِ الْفُقَهَاءُ وَاسْتَوَى أَهْلُ اللُّغَةِ كُلُّهُمْ فِي دَلَالَاتِ الْكَلَامِ مِثَالُهُ أَنَّا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاقَعْت امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ الْجِنَايَةِ وَالْمُوَاقَعَةُ عَيْنُهَا لَيْسَتْ بِجِنَايَةٍ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاقِعٍ عَلَى مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ، إلَّا أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ لُغَةً مِنْ هَذَا الْمَسَائِلِ هُوَ الْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ وَإِنَّمَا أَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَنْ حُكْمِ الْجِنَايَةِ فَكَانَ بِنَاءً عَلَى مَعْنَى الْجِنَايَةِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ وَالْمُوَاقَعَةُ آلَةُ الْجِنَايَةِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ أَشَدُّ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَقْوَى فِي الْجِنَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الشَّتْمِ مَعَ التَّأْفِيفِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لَا بِظَاهِرِهِ لَمْ نُسَمِّهِ عِبَارَةً وَلَا إشَارَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً لَا رَأْيًا سَمَّيْنَاهُ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا

ــ

[كشف الأسرار]

عِبَارَةَ النَّصِّ الْمُحَارَبَةُ وَصُورَةُ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَمَعْنَاهَا لُغَةً قَهْرُ الْعَدُوِّ وَالتَّخْوِيفُ عَلَى وَجْهٍ يَنْقَطِعُ بِهِ الطَّرِيقُ وَهَذَا مَعْنًى مَعْلُومٌ بِالْمُحَارَبَةِ لُغَةً وَالرَّدْءُ مُبَاشِرٌ لِذَلِكَ كَالْمُقَاتِلِ وَلِهَذَا اشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرِّدْءِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَإِيجَابُ الرَّجْمِ عَلَى غَيْرِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرُجِمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرْجَمْ لِأَنَّهُ مَاعِزٌ وَصَحَابِيٌّ بَلْ لِأَنَّهُ زَنَى فِي حَالَةِ الْإِحْصَانِ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.

قَوْلُهُ (وَلَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ) إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ مَوْضِعٍ وَمَوْضِعٍ فَصَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ.

وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ شُرِعَتْ مَاحِيَةً لِلْآثَامِ الْحَاصِلَةِ بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ أَيْضًا لِمَا عُرِفَ، وَكَذَا الْحُدُودُ شُرِعَتْ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَلَى الْجِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهَا وَفِيهَا مَعْنَى الطُّهْرَةِ أَيْضًا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ وَآثَامِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ إزَالَةُ آثَامِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يَصْلُحُ جَزَاءً لَهَا وَزَاجِرًا عَنْهَا وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الرَّأْيِ.

بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّصُّ لُغَةً فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ. وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لَمَّا صَارَ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِهِ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالشُّبْهَةِ الْمَانِعَةِ اخْتِلَالُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ فِي نَفْسِهِ لَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي طَرِيقِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ لِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِإِخْبَارِ الْأُحَادِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ إثْبَاتِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ فِي مَجَالِسِ الْحُكَّامِ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ صَدَرَتْ عَمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ.

قَوْلُهُ (مِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ. وَقَوْلُهُ دُونَ الْقِيَاسِ رَدٌّ لِمَا ادَّعَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا وَقَالُوا: إنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ صِحَّةَ الْمُقَايَسَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ أَثْبَتُّمْ الْكَفَّارَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَاقِعِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْكُمْ مُنَاقَضَةً قَالَ مَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.

وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت. فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْت؟ فَقَالَ: وَاقَعْت أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً؛ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ، إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ؛ فَقَالَ عليه السلام صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَقَالَ هَلْ أَتَيْت مَا أَتَيْت، إلَّا مِنْ الصَّوْمِ، فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ فَأُتِيَ بِصَدَقَاتِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ: خُذْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: أَعْلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ عليه السلام كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» . وَزِيدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «يُجْزِيك وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَك» . بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالدَّلَالَةِ

ص: 221

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

لَا بِالْقِيَاسِ أَنَّ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاقَعْت امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوَاقَعَةَ عَيْنًا لَمْ تَكُنْ جِنَايَةً؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى مُوَاقَعَةِ امْرَأَتِهِ لَكِنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تُؤَدِّي إلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ يُفْهَمُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُشْتُهِرَ فَرِيضَةُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَاشْتُهِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ عَرَفَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ الْمُوَاقَعَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ السُّؤَالِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ وَاقَعْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لُغَةً الْإِفْطَارُ كَمَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] الْمَنْعُ عَنْ الْإِيذَاءِ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ عَنْ السُّؤَالِ فَكَانَ جَوَابُهُ بَيَانًا لِحُكْمِ الْجِنَايَةِ الَّذِي هُوَ الْغَرَضُ مِنْ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السُّؤَالِ خُصُوصًا عَنْ أَفْصَحِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ لَا بَيَانِ نَفْسِ الْوِقَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ آلَةٌ لِلْجِنَايَةِ.

، ثُمَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْوِقَاعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِفِعْلٍ لَهُ صُورَةٌ وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَهِيَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْعِهِ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَمَنْعِهِ مِنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ أَشَدُّ قَهْرًا لَهُ مِنْ مَنْعِهِ عَنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُ إلَيْهَا أَكْثَرُ وَشَهْوَةُ الْفَرْجِ تَابِعَةٌ لَهَا، وَلِهَذَا شُرِعَ الصَّوْمُ فِي النَّهَارِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ اقْتِضَاءِ هَذِهِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ هَذِهِ الشَّهْوَةِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الصَّوْمِ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَفْحَشُ لِوُرُودِهَا عَلَى مَعْنًى هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبَابِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْوِقَاعِ لِوُرُودِهَا عَلَى مَعْنًى هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّبَعِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى التَّبَعِ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَقْوَى بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ مِنْ التَّأْفِيفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّا أَثْبَتْنَا الْكَفَّارَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ.

فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ هُوَ الَّذِي يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْنَى اللُّغَةِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ فَيَكُونُ الْفَقِيهُ فِي إصَابَتِهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ هَهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ مِمَّا يَشْتَبِهُ عَلَى الْفَقِيهِ الْمُبَرَّزِ الْعَالِمِ بِطُرُقِ الْفِقْهِ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ؟ قُلْنَا: الشَّرْطُ فِي الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ ثَابِتًا لُغَةً بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ مِمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي سُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ ثَابِتٌ لُغَةً مَفْهُومٌ لِأَهْلِ اللِّسَانِ بِلَا شَكٍّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ، إلَّا أَنَّ الثَّابِتَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى الْبَعْضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِنَفْسِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَمْ بِالْجِنَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْآلَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَهِيَ الْوِقَاعُ لَا لِخَفَاءِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ.

فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا كَحُرْمَةِ الضَّرْبِ الثَّابِتَةِ بِنَصِّ التَّأْفِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا كَثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا

ص: 222

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

وَخَفِيًّا فَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَإِلَّا كَانَ قِيَاسًا لَا دَلَالَةً.

فَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْجِمَاعِ بِالدَّلَالَةِ إلَّا بِإِثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ إذْ لَا بُدَّ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ مِثْلُهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ فَوْقَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ لِلْوِقَاعِ مَزِيَّةً فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ احْتِرَامِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْ إتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ لِكَوْنِ الْآدَمِيِّ أَشَدَّ احْتِرَامًا مِنْ الْمَالِ وَلِمَنَافِعِ الْبُضْعِ حُرْمَةُ الْآدَمِيِّ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا مُوجِبَةً قَتْلَ النَّفْسِ لِذِي الْإِحْصَانِ وَالْأَلَمَ الشَّدِيدَ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ بِالْوِقَاعِ أَشَدَّ حُرْمَةً مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْأَكْلِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ.

وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالْجِمَاعِ وَارِدَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَالْجِنَايَةُ بِالْأَكْلِ غَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ الصَّوْمِ وَالْأَكْلُ نَقِيضُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُعْتَادِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنْ الْجِمَاعِ فَتَابِعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ الرُّكْنُ فِي الْبَابِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَصَارَ ذَلِكَ نَقِيضًا لَهُ فَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنْ الْجِمَاعِ فَمَحْظُورٌ إذْ الصَّوْمُ لَيْسَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ مَعْنًى كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَسْجِدِ نَقِيضُهُ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلُّبْثِ وَالْجِمَاعُ مَحْظُورُهُ غَيْرَ أَنَّ الصَّوْمَ يَفْسُدُ بِالْمَحْظُورِ كَمَا يَفْسُدُ بِالْمُنَاقِضِ، ثُمَّ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالْمَحْظُورِ فَوْقَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالنَّقِيضِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِالْمَحْظُورِ تُرَدُّ عَلَى الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَبْقَى عِنْدَ وُرُودِ الْمَحْظُورِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهَا الْجِنَايَةُ، ثُمَّ تَبْطُلُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا وُرُودُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِالنَّقِيضِ فَغَيْرُ مُتَصَوَّرٍ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْعِبَادَةِ فَإِنَّ وُجُودَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْآخَرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا عِنْدَ وُجُودِ النَّقِيضِ فَتَنْعَدِمُ الْعِبَادَةُ سَابِقَةً عَلَى وُجُودِ النَّقِيضِ، ثُمَّ يُوجَدُ النَّقِيضُ وَلِهَذَا قُلْت مَنْ أَصْبَحَ مُجَامِعًا لِأَهْلِهِ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ مَحْظُورًا فِيهِ لَا نَقِيضًا فَيَنْعَقِدُ، ثُمَّ يَنْعَدِمُ بَعْدَ وُجُودِهِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا لِأَهْلِهِ فَصَارَ فِي التَّحْقِيقِ طَارِيًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا لَهُ فِي الصُّورَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجِنَايَةَ الْوَارِدَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِإِبْطَالِهَا فَوْقَ الْجِنَايَةِ الَّتِي لَمْ تُصَادِفْ الْعِبَادَةَ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجِمَاعَ فِعْلٌ يُوجِبُ فَسَادَ صَوْمَيْنِ صَوْمِ الرَّجُلِ وَصَوْمِ الْمَرْأَةِ لَوْ كَانَتْ صَائِمَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لَا يُوجِبُ إلَّا فَسَادَ صَوْمِ وَاحِدٍ فَكَانَ الْجِمَاعُ أَقْوَى

وَرَابِعًا: أَنَّ فِي الْجِمَاعِ دَاعِيَيْنِ طَبْعُ الرَّجُلِ وَطَبْعُ الْمَرْأَةِ وَفِي الْأَكْلِ دَاعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ طَبْعُ الْأَكْلِ فَشَرْعُ الزَّاجِرِ فِيمَا لَهُ دَاعِيَانِ لَا يَكُونُ شَرْعًا فِيمَا لَهُ دَاعٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي اللِّوَاطَةِ مَعَ الزِّنَا.

وَخَامِسُهَا: أَنَّ غَلَبَةَ الْجُوعِ مَتَى تَنَاهَتْ أَبَاحَتْ الْإِفْطَارَ فَبِوُجُودِ بَعْضِهَا وُجِدَ بَعْضُ الْمُبِيحِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَصْلُحُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ وَفِي الْجِمَاعِ لَوْ تَنَاهَى الشَّبَقُ لَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ فَوُجُودُ بَعْضِهِ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فَصَلُحَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ.

أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ أَشَدُّ احْتِرَامًا مِنْ الطَّعَامِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ الَّتِي شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ لَهَا هِيَ حُرْمَةُ إفْسَادِ الصَّوْمِ لَا حُرْمَةُ

ص: 223

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ فِي عُذْرِ النَّاسِي وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي الْوَطْءِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِعْلٌ مَعْلُومٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ إمَّا صُورَتُهُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ خِلْقَةً وَطَبِيعَةً وَكَانَ ذَلِكَ سَمَاوِيًّا مَحْضًا فَأُضِيفَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَصَارَ عَفْوًا، هَذَا مَعْنَى النِّسْيَانِ لُغَةً وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ فَعَلِمْنَا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي نَظِيرِهِ فَإِنْ قِيلَ هُمَا مُتَفَاوِتَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى الْوَاقِعَةِ بَلْ يُضَعِّفُهُ عَنْهَا فَصَارَ كَالنِّسْيَانِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ قُلْنَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَزِيَّةٌ فِي أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ وَفِيهِ قُصُورٌ فِي حَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ الْبَشَرَ وَأَمَّا الْمُوَاقَعَةُ فَقَاصِرَةٌ فِي أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ وَلَكِنَّهَا كَامِلَةٌ فِي حَالِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ تَغْلِبُ الْبَشَرَ فَصَارَ سَوَاءً فَصَحَّ الِاسْتِدْلَال، وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام

ــ

[كشف الأسرار]

إتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَنَافِعِ بُضْعِ مَمْلُوكَةٍ لِلرَّجُلِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ بِأَنْ زَنَى لَا يَنْمَحِي حُرْمَةُ إتْلَافِهَا بِالْكَفَّارَةِ وَلَوْ زَنَى نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَنَافِعِ وَإِنْ وُجِدَ فَإِفْسَادُ الصَّوْمِ لَمْ يُوجَدْ وَفِي الطَّعَامِ إيجَابُهَا عِنْدَنَا لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ أَيْضًا لَا لِحُرْمَةِ إتْلَافِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ لَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ وَلَوْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْجِمَاعُ نَقِيضُ الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ جَمِيعًا لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْكُلَّ بِاللَّيْلِ وَأَمْرُهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْكُلِّ فِي النَّهَارِ فَيَفُوتُ الصَّوْمُ بِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَكَوْنِ الِامْتِنَاعِ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ أَصْلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا فِي تَفْوِيتِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادِهِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْمَأْثَمُ إفْسَادِ الصَّوْم، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْإِفْسَادِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَأْثَمِ.

وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْجِمَاعِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إلَّا فَسَادُ صَوْمِهِ وَإِنَّمَا فَسَدَ صَوْمُهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ قَضَاءُ شَهْوَتِهَا وَلِهَذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ أَيْضًا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِالتَّمْكِينِ فِي بَابِ الزِّنَى أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً أَوْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِلصَّوْمِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَالْجِمَاعُ هَهُنَا لَمْ يُوجِبْ إلَّا فَسَادَ صَوْمِ وَاحِدٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ وَاحِدٍ لَا بِإِفْسَادِ صَوْمَيْنِ.

وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ تَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي مَسْأَلَةِ اللِّوَاطَةِ مَعَ الزِّنَا فَأَمَّا جِهَةُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَمُخْتَلِفَةٌ وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهِ لِلْغَلَبَةِ أَوْ الْقُوَّةِ وَهُمَا جَمِيعًا لِقَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ دُونَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ فَإِنَّهَا تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ عَادَةً وَبَقِيَتْ مَا دَامَ الرُّوحُ فِي الْبَدَنِ وَشَهْوَةُ الْفَرْجِ لَا تَتَجَدَّدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَتَنْقَطِعُ بِاسْتِيلَاءِ الْكِبْرِ، وَكَذَا الْإِنْسَانُ يَصْبِرُ عَنْ الْوِقَاعِ دَهْرًا طَوِيلًا وَلَا يَصْبِرُ عَنْ الْأَكْلِ، إلَّا قَلِيلًا فَكَانَتْ شَهْوَةُ الْبَطْنِ أَغْلَبُ وَأَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِشَرْعِ الزَّاجِرِ، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ قِيَامُهُ بِاثْنَيْنِ كَانَ حُصُولُهُ أَقَلَّ مِمَّا إذَا كَانَ قِيَامُهُ بِوَاحِدٍ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إنْ قَصَدَ الْعِصْيَانَ فَالْآخَرُ لَا يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَا هَيَجَانُ الشَّهْوَةِ الَّذِي لَا يَقَعُ الْجِمَاعُ إلَّا بِهِ مِنْ الشَّخْصَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ شَرْعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ.

1 -

وَعَنْ الْخَامِسِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَنَاهِيَ الْجُوعِ مُبِيحٌ بَلْ الْمُبِيحُ خَوْفُ التَّلَفِ وَكَيْفَ يَكُونَ الْجُوعُ مُبِيحًا لِلْإِفْطَارِ وَالصَّوْمُ مَا شُرِعَ، إلَّا لِحِكْمَةِ الْجُوعِ بَقِيَ أَنَّ خَوْفَ التَّلَفِ شَرْطُهُ تَنَاهِي الْجُوعِ وَلَكِنْ بَعْضُ الْعِلَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا فَبَعْضُ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِبْرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كَذَا فِي طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي كَذَا يَعْنِي مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي أَكَلْت وَشَرِبْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك فَتِمَّ عَلَى صَوْمِك» . لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِعْلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارِيًّا كَالسُّقُوطِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ نَسِيَ يَنْسَى. مَعْلُومٌ بِصُورَتِهِ وَهِيَ الْغَفْلَةُ

ص: 224

«لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَأَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ بِالسَّيْفِ وَلِهَذَا الْفِعْلِ مَعْنًى مَقْصُودٌ وَهُوَ الْجِنَايَةُ بِالْجُرْحِ وَمَا يُشْبِهُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

عَنْ الشَّيْءِ بَعْدَمَا كَانَ حَاضِرًا فِي الذِّهْنِ، وَصُورَةُ كُلِّ شَيْءٍ تَنَاسُبُهُ.

وَمَعْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَيْ النَّاسِيَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ خِلْقَةً أَيْ وَاقِعٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ لَفْظَ الصُّورَةِ.

فَقَالَ: النِّسْيَانُ مَعْنًى مَعْلُومٌ لُغَةً وَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ طَبْعًا عَلَى وَجْهٍ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ. فَكَانَ ذَلِكَ أَيْ عُذْرُ النِّسْيَانِ، فَأُضِيفَ أَيْ الْفِعْلُ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِسَبَبِ هَذَا الْعُذْرِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَصَارَ عَفْوًا.

هَذَا مَعْنَى النِّسْيَانِ لُغَةً وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ يَعْنِي كَوْنَ النَّاسِي مَطْبُوعًا عَلَى النِّسْيَانِ يُفْهَمُ لُغَةً مِنْ النِّسْيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لَهُ كَالْإِيذَاءِ مِنْ التَّأْفِيفِ إذْ لَا حَاجَةَ فِي فَهْمِهِ إلَى اجْتِهَادٍ وَاسْتِنْبَاطٍ بَلْ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَعَمِلْنَا بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ طَبْعًا فِي نَظِيرِهِ أَيْ نَظِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَعْدُولَ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله: الْجِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ فِي مُنَافَاةِ رُكْنِ الصَّوْمِ أَوْ دُونِهِ فَلَا يَبْقَى مُنَافِيًا مَعَ النِّسْيَانِ اسْتِدْلَالًا بِالْأَكْلِ.

فَإِنْ قِيلَ هُمَا مُتَفَاوِتَانِ أَيْ الْمَنْصُوصُ وَالْجِمَاعُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَوَقْتُ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْأَكْلِ وَالصَّوْمُ يَزِيدُ فِي شَهْوَتِهِ فَيُبْتَلَى الْإِنْسَانُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ غَالِبًا وَلَا يَحُوجُهُ إلَى الْمُوَاقَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْجِمَاعِ عَادَةً وَلِلصَّوْمِ أَثَرٌ فِي إزَالَةِ هَذِهِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ الصَّوْمَ وِجَاءٌ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . فَكَانَ النِّسْيَانُ فِيهِ مِنْ النَّوَادِرِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ. وَصَارَ أَيْ الْجِمَاعُ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ كَالنِّسْيَانِ فِي الصَّلَاةِ أَيْ مِثْلُ الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَكَذَا هَذَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَمَسَّكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله: فَجَعَلَ النِّسْيَانَ عُذْرًا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالنَّصِّ وَلَمْ يَجْعَلْهُ عُذْرًا فِي الْجِمَاعِ. وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

وَأَجَابَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَهِيَ أَنَّ لِلْأَكْلِ غَلَبَةَ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ السَّبَبِ وَلِلْجِمَاعِ غَلَبَةَ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ إذَا غَلَبَتْ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْجِمَاعِ لِوُجُودِ الدَّاعِي فِي الْفَاعِلِ وَالْمَحَلِّ فَثَبَتَ أَنَّ لِلْجِمَاعِ غَلَبَةَ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ وَلِلْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ أَسْبَابِهِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُ الْأَكْلِ غَالِبًا فِي ذَاتِهِ فَالْغَلَبَةُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ الذَّاتِ فَوْقَ مَا تَنْشَأُ مِنْ السَّبَبِ فَلَمَّا عُفِيَ عَنْهُ فَلَأَنْ يُعْفَى عَنْ الْجِمَاعِ كَانَ أَوْلَى.

وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ وَارِدًا فِي الْآخَرِ كَمِنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: اجْعَلْ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً، ثُمَّ يَقُولُ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا وَقَوْلُهُ عليه السلام.

«لَا قَوَدَ، إلَّا بِالسَّيْفِ» .

يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا قَوَدَ يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ.

وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ يَجِبُ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ لِلْقِصَاصِ طَرَفَيْنِ طَرَفُ الِاسْتِيفَاءِ وَطَرَفُ

ص: 225

وَالْحُكْمُ جَزَاءٌ يَبْتَنِي عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنَايَةِ وَكَانَ ثَابِتًا بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَاخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَعْنَاهُ مَا لَا تُطِيقُ الْبِنْيَةُ احْتِمَالَهُ فَتَهْلِكُ جُرْحًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ حَتَّى قَالَا: يَجِبُ الْقَوَدُ بِالْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا عَنْ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَصِيَانَةَ حَيَاتِهَا وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهَا بِمَا لَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَلَا تَبْقَى

ــ

[كشف الأسرار]

الْوُجُوبِ.

فَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الِاسْتِيفَاءِ يَكُونُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِالْقَاتِلِ مِثْلُ مَا فَعَلَ بِالْمَقْتُولِ مِنْ الْخَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالرَّضْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا.

وَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الْوُجُوبِ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْمُوَالَاةِ.

وَرَجَّحَ الْإِمَامُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَقَالَ: الْقَوَدُ اسْمٌ لِقَتْلٍ هُوَ جَزَاءُ الْقَتْلِ كَالْقِصَاصِ، إلَّا أَنَّ الْقَوَدَ خَاصٌّ فِي جَزَاءِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصُ عَامٌّ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا قَتْلَ قِصَاصًا، إلَّا بِالسَّيْفِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا قَوَدَ يَجِبُ، إلَّا بِالسَّيْفِ.

قُلْنَا: الْقَوَدُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ دُونَ مَا يَجِبُ شَرْعًا وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ كَانَ مَجَازًا كَنَفْسِ الْقَتْلِ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ حَقِيقَةً لَا عَنْ الْوَاجِبِ.

وَلِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ يَجِبُ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَإِنَّمَا السَّيْفُ مَخْصُوصُ الِاسْتِيفَاءِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ خَرَّجَ الشَّيْخُ مَسْأَلَةَ الْمُثَقَّلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» هُوَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْآلَةِ اقْتَضَتْ فِعْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ بِأَخْذِ السَّيْفِ وَقَبْضِهِ فَكَانَ الضَّرْبُ هُوَ الْمُرَادُ.

وَلِهَذَا الْفِعْلِ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ مَعْنًى مَقْصُودٌ يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً وَهُوَ الْجِنَايَةُ بِالْجُرْحِ وَمَا يُشْبِهُهُ كَالتَّأْفِيفِ لَهُ مَعْنًى مَقْصُودٌ وَهُوَ الْإِيذَاءُ بِإِظْهَارِ التَّضَجُّرِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، ثُمَّ مَا يُشْبِهُ الْجُرْحَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله اسْتِعْمَالُ آلَةِ الْجُرْحِ مِثْلُ سِنْجَاتِ الْمِيزَانِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الثِّقَلِ وَعِنْدَهُمَا اسْتِعْمَالُ مَا لَا يُطِيقُ الْبَدَنُ احْتِمَالَهُ مِثْلُ الْحَجَرِ الْعَظِيمِ وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ.

وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْقَوَدُ جَزَاءٌ يَبْتَنِي عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنَايَةِ يَعْنِي شُرِعَ الْحُكْمُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِلْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ يُشِيرَانِ إلَى الْمُسَاوَاةِ أَيْضًا وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَأْسِيسُ الْجَوَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: عَنْ كَلَامِهِمَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

فَكَانَ أَيْ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَوَدِ ثَابِتًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ مُتَعَلِّقًا بِهِ دُونَ صُورَةِ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ كَتَعَلُّقِ حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ بِذِكْرِ السَّيْفِ لُغَةً هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَعْنَاهُ أَيْ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ لُغَةً مَا لَا تُطِيقُ الْبِنْيَةُ احْتِمَالَهُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَيَكُونُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ.

فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِمَعْنًى مُخْتَلِفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَيْفَ يُعَدُّ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ.

قُلْنَا: لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ الْقَوَدَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام.

«لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» ثَابِتٌ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَإِنَّ هَذَا مَعْنًى فُهِمَ مِنْهُ لُغَةً إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مُجَرَّدُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِنَايَةُ الْمُنْتَهِيَةُ فِي الْكَمَالِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ لَكِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ مَفْهُومٌ لُغَةً، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قُتِلَ إنْسَانًا مَعْصُومًا بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ أَوْ الْخَشَبِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا تُطِيقُ الْبِنْيَةُ احْتِمَالَهُ لَا يَجِبُ

ص: 226

مَعَهُ.

فَأَمَّا الْجُرْحُ عَلَى الْبَدَنِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ إنَّمَا الْبَدَنُ وَسِيلَةٌ فَمَا يَقُومُ بِغَيْرِ الْوَسِيلَةِ كَانَ أَكْمَلَ وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ هُوَ مَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ بِالْعَوَارِضِ فَلَا يَجِبُ النَّاقِصُ أَصْلًا بَلْ الْكَامِلُ يُجْعَلُ أَصْلًا، ثُمَّ تَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى النَّاقِصِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ النَّاقِصُ أَصْلًا خُصُوصًا فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا

ــ

[كشف الأسرار]

الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله: يَجِبُ الْقِصَاصُ وَهَذَا إذَا لَمْ يَجْرَحْ فَإِنْ جَرَحَ الْحَجَرُ أَوْ الْخَشَبُ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي الْحَدِيدِ يَجِبُ الْقَوَدُ جَرَحَ أَوْ لَمْ يَجْرَحْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَتَلَهُ جَرْحًا يَجِبُ الْقَوَدُ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ.

قَالُوا: إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عُقُوبَةً يَعْنِي بَعْدَمَا ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ وَزَجْرًا عَنْ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَصِيَانَةَ حَيَاتِهَا يَعْنِي قَبْلَ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ شَرْعَهُ زَاجِرٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَانْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ تَنَاوُلُهَا بِمَا لَا يَحِلُّ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ.

وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ وَلَا تَبْقَى مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بِذَلِكَ فَقَدْ اُنْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا. فَأَمَّا الْجُرْحُ عَلَى الْبَدَنِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ يَعْنِي فِي تَعَلُّقِ الْعُقُوبَةِ، إنَّمَا الْبَدَنُ أَيْ الْجُرْحُ عَلَى الْبَدَنِ وَسِيلَةٌ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشِرْ إلَى النَّفْسِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يَكُونُ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ كَانَ أَكْمَلَ فَمَا يَكُونُ جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ وَهُوَ الْقَتْلُ بِحَجَرِ الرَّحَى وَالْأُسْطُوَانَة الْعَظِيمَةِ مَثَلًا كَانَ أَكْمَلَ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ الْجُرْحِ لِأَنَّ مَا لَا يَلْبَثُ وَلَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهِ وَالْفِعْلُ الْجَارِحُ مُزْهِقٌ لَهُ بِوَاسِطَةِ الْجِرَاحَةِ فَالْجُرْحُ وَسِيلَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ وَمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنَفْسِهِ أَبْلَغُ مِمَّا يَكُونُ عَامِلًا بِوَاسِطَةِ السِّرَايَةِ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَتَمَّ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ وَهُوَ عَدَمُ احْتِمَالِ الْبِنْيَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ كَمَا فِي الضَّرْبِ مَعَ التَّأْفِيفِ وَكَمَا يَثْبُتُ فِي الْقَتْلِ بِالرُّمْحِ وَالسِّكِّينِ وَالنُّشَّابَةِ بِالدَّلَالَةِ.

يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هُنَاكَ قَدْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِفِعْلٍ لَا يَكُونُ قَتْلًا لَا مَحَالَةَ، كَقَطْعِ الْأُصْبُعِ وَالْغَرْزِ بِالْإِبْرَةِ وَالضَّرْبِ بِسِنْجَاتِ الْمِيزَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فَلَمَّا وَجَبَ الْقِصَاصُ بِهَذَا الْفِعْلِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَلَأَنْ يَجِبَ بِإِلْقَاءِ حَجَرِ الرَّحَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مَعَهُ الْحَيَاةُ أَصْلًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَوْ قَتَلُوا بِالْحَدِيدِ وَبِالْحَجَرِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ كَالْقِصَاصِ، ثُمَّ لَمْ يَقَعْ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْجُرْحِ وَالدَّقِّ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ.

وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَاهُ أَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ هُوَ مَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ.

لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ الْكَمَالُ يَعْنِي إذَا صَارَ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى شَيْءٍ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ لِلْكَامِلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لِلنَّاقِصِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ يَلْحَقُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَلْحَقُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُ شُبْهَةَ الْعَدَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ.

فَالْأَصْلُ فِي الزِّنَا وُقُوعُهُ فِي مَحَلٍّ مُحْتَرَمٍ خَالٍ عَنْ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحِلِّ، ثُمَّ تَعَدَّى أَحَدُ حُكْمَيْهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ إلَى مَا هُوَ نَاقِصٌ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ مَوَاضِعُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَمْ يَتَعَدَّ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّبَهِ.

وَكَذَا الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ

ص: 227

وَهُنَا الْكَامِلُ فِيمَا قُلْنَا مَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا هُوَ الْكَامِلُ فِي النَّقْضِ عَلَى مُقَابَلَةِ كَمَالِ الْوُجُودِ قَوْلُهُمَا: إنَّ الْبَدَنَ وَسِيلَةٌ وَهْمٌ وَغَلَطٌ؛ لِأَنَّا نَعْنِي بِهَذَا الْجِنَايَةَ عَلَى الْجِسْمِ لَكِنَّا نَعْنِي بِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ خِلْقَةً فَالْقِصَاصُ مُقَابِلٌ بِذَلِكَ أَمَّا الْجِسْمُ فَفَرْعٌ وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا يَقْبَلُ الْجِنَايَةَ وَمَعْنَى الْإِنْسَانُ خِلْقَةٌ بِدَمِهِ وَطَبَائِعِهِ فَلَا يَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، إلَّا بِجُرْحٍ يُرِيقُ دَمًا وَيَقَعُ عَلَى مَعْنَاهُ قَصْدًا فَصَارَ هَذَا أَوْلَى خُصُوصًا فِي الْعُقُوبَاتِ

ــ

[كشف الأسرار]

لِأَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْبَابِ، ثُمَّ تَعَدَّى إلَى النَّاقِصِ وَهُوَ التَّقْبِيلُ وَالْمَسُّ لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ ثَبَتَ فِي الْكَامِلِ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِدَلِيلِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ.

تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] عَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّفْسِيرِ فَجُعِلَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، ثُمَّ تَعَدَّى إلَى النَّاقِصِ مِنْهُ وَهُوَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَالدِّيَةَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. وَهُنَا الْكَامِلُ مِمَّا قُلْنَا أَيْ مِنْ مَعْنَى الْجِنَايَةِ مَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا بِتَخْرِيبِ الْجُثَّةِ وَبَاطِنًا بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِفْسَادِ طَبَائِعِهِ الْأَرْبَعِ.

هَذَا هُوَ الْكَامِلُ فِي النَّقْضِ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْآدَمِيِّ بِاعْتِدَالِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَانَ التَّفْوِيتُ الْكَامِلُ بِإِفْسَادِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُجْعَلُ هَذَا الْكَامِلُ أَصْلًا فِي قَوْلِهِ عليه السلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ بِالنَّصِّ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْكَمَالِ فِيهِ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ مُجَرَّدِ عَدَمِ احْتِمَالِ الْبِنْيَةِ إيَّاهُ مَعَ سَلَامَةِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَجَعْلُهُ أَصْلًا فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ نَاقِضٌ لِكَوْنِهِ قَتْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.

وَدَلِيلُ النُّقْصَانِ حُكْمُ الذَّكْوَةِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مُجَرَّدُ عَدَمِ احْتِمَالِ الْبِنْيَةِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يَحِلُّ وَلَوْ جَرَحَهُ يَحِلُّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ.

وَقَوْلُهُمَا الْبَدَنُ وَسِيلَةٌ وَهْمٌ وَغَلَطٌ؛ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهَذَا أَيْ بِفِعْلِ الْقَتْلِ أَوْ بِاشْتِرَاطِ الْجُرْحِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْجِسْمِ أَيْ عَلَى الْبَدَنِ لِيَنْدَفِعَ بِقَوْلِكُمْ: الْجُرْحُ وَسِيلَةٌ وَتَبَعٌ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْوَسِيلَةِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِهَا، بَلْ نَعْنِي الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَهِيَ دَمُهُ وَطَبَائِعُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْقِصَاصُ مُقَابَلٌ بِذَلِكَ أَيْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] أَمَّا الْجِسْمُ فَفَرْعٌ يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا نُرِيدُ أَنَّ الْبَدَنَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْإِنْسَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ.

وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا يَقْبَلُ الْجِنَايَةَ يَعْنِي مِنْ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الطَّبَائِعُ الْأَرْبَعُ لَا يَتَكَامَلُ، إلَّا بِجُرْحٍ يُخَرِّبُ الْبِنْيَةَ وَيُرِيقُ الدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَاقَ الدَّمَ فَقَدْ اتَّصَلَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِهِ قَصْدٌ أَوْ الْمَجْمُوعُ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا مَعْنَى الْإِنْسَانِ بِالْإِرَاقَةِ قَصْدًا فَيَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ. وَلِهَذَا كَانَ الْغَرْزُ بِالْإِبْرَةِ فِي الْمَقْتَلِ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مُسِيلٌ لِلدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا الْحِلَّ فِي الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ تَسْيِيلُ جَمِيعِ الدَّمِ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الطَّاهِرُ مِنْ النَّجَسِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ عِنْدَ التَّيَسُّرِ.

فَصَارَ هَذَا أَيْ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ. أَوْلَى مِمَّا قَالَاهُ. خُصُوصًا فِي الْعُقُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا مَا ذَكَرُوا مِنْ مَسْأَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ مَا وَجَبَ قِصَاصًا وَإِنَّمَا وَجَبَ جَزَاءً عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَيِّ قَتْلٍ كَانَ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلُوا بِالسَّوْطِ يَجِبُ أَيْضًا فَأَمَّا الْقَتْلُ قِصَاصًا فَقَدْ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى فِعْلٍ كَامِلٍ بِصِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَفِي الْعَمْدِيَّةِ خَلَلٌ وَقُصُورٌ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ سَلَامَةَ الظَّاهِرِ شُبْهَةً

ص: 228

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا أَوْجَبَا حَدَّ الزِّنَا بِاللِّوَاطَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ وَمَعْنَاهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ وَزِيَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُرْمَةِ فَوْقَهُ وَفِي سَفْحِ الْمَاءِ فَوْقَهُ وَفِي الشَّهْوَةِ مِثْلُهُ وَهَذَا مَعْنَى الزِّنَا لُغَةً.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْكَامِلَ أَصْلٌ فِي كُلِّ بَابٍ خُصُوصًا فِي الْحُدُودِ وَالْكَامِلُ فِي سَفْحِ الْمَاءِ مَا يُهْلِكُ الْبَشَرَ حُكْمًا وَهُوَ الزِّنَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

فَلَمْ يُوجِبْ مَعَهَا الْقِصَاصَ وَهَذَا مِنْهُ اسْتِقْصَاءٌ فِي الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ أَوْ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ فِي تَفْسِيرِ عَمْدِ الْقَتْلِ عِنْدَ النَّاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا فِي اللِّوَاطَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَالْبَاءُ الْأُولَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَالثَّانِيَةُ لِلِاسْتِعَانَةِ يَعْنِي أَوْجَبَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ حَدَّ الزِّنَا بِسَبَبِ اللِّوَاطَةِ فَقَالَا اللِّوَاطَةُ وَإِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَيُرْجَمَانِ إنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ وَيُجْلَدَانِ إنْ لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ وَلَكِنْ يَجِبُ فِيهَا أَشَدُّ التَّعْزِيرِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ اعْتَادَ ذَلِكَ، كَذَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ رحمه الله فِي فَتَاوَاهُ نَاقِلًا عَنْ الرَّوْضَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْغُلَامِ أَمَّا فِي وَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَيُوجِبُ الْحَدَّ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ وَمَنْكُوحَتِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُقْتَضٍ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ. تَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الزِّنَا شَرْعًا وَلُغَةً اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى يُسَمَّى قُبُلًا عَلَى سَبِيلِ الْحُرْمَةِ. وَمَعْنَاهُ أَيْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اقْتِضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْمَحِلِّ لَا لِقَصْدِ الْوَلَدِ؛ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى سِفَاحًا.

وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْ مَعْنَى الزِّنَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ وَزِيَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ فِعْلَ اللِّوَاطَةِ فِي الْحُرْمَةِ فَوْقَ الزِّنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ فَصَارَ نَظِيرَ الزِّنَا بِالْأُمِّ فَإِنَّهُ أَفْحَشُ مِنْ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا لَا تَنْكَشِفُ بِوَجْهٍ.

وَفِي سَفْحِ الْمَاءِ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْلِ فِي الزِّنَا مَعْدُومٌ قَصْدًا وَفِي اللِّوَاطَةِ مَعْدُومٌ قَصْدًا أَوْ زِيَادَةً؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَصْلُحُ لِلنَّسْلِ فَيَكُونُ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لِلْمَاءِ فَإِنَّهُ بَذْرٌ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي مَحَلٍّ لَا يَنْبُتُ يَكُونُ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لَهُ مِنْ إلْقَائِهِ فِي مَحَلٍّ يَنْبُتُ عَلَى قَصْدِ أَنْ لَا يَنْبُتَ لِمَانِعٍ مِنْ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ.

وَفِي الشَّهْوَةِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الِاشْتِهَاءِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ وَغَيْرِهِمَا مَحْسُوسَةٌ فِي هَذَا الْمَحِلِّ كَمَا هِيَ مَحْسُوسَةٌ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالطَّبْعِ دُونَ الشَّرْعِ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ وَأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ يَجِبُ فِيهَا بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَبْتَنِي عَلَى الْفِطْرِ بِاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ.

وَفِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِطْرُ حَتَّى يُنْزِلَ؛ لِأَنَّهُ دُونَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فِي اللِّوَاطَةِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ كَمَا فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَنِيِّ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْغُسْلِ وَفِي جِمَاعِ الْبَهِيمَةِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِنْزَالِ فَثَبَتَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ مِنْ الزِّنَا إلَى اللِّوَاطَةِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمَحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ كَتَبَدُّلِ اسْمِ الطِّرَارِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ السَّارِقِ فِي حَقِّهِ بَعْدَ وُجُودِ كَمَالِ الْعِلَّةِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ تَعَدَّى مِنْ مَاعِزٍ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُفَارِقُهُ بِاسْمِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَهَذَا مَعْنَى الزِّنَا لُغَةً أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الزِّنَا ثَابِتٌ لُغَةً لَا اجْتِهَادًا إذْ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَكَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ ثَابِتًا بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: عَنْ هَذَا أَيْ عَمَّا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِهِمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ

ص: 229

فَأَمَّا تَضْيِيعُ الْمَاءِ فَقَاصِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِالْعَزْلِ وَلَا تَفْسُدُ الْفِرَاشُ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا كَامِلٌ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ الْوُجُودِ بِالشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَأَمَّا هَذَا الْفِعْلُ فَقَاصِرٌ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَيْهِ شَهْوَةُ الْفَاعِلِ فَأَمَّا صَاحِبُهُ فَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ دَاعٍ إلَيْهِ بَلْ الطَّبْعُ مَانِعٌ فَفَسَدَ الِاسْتِدْلَال بِالْكَامِلِ عَلَى الْقَاصِرِ فِي حُكْمٍ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرْمَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ بِدُونِ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْحَدِّ أَلَا تَرَى أَنَّ شُرْبَ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ كَمَالِ الْحُرْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله

ــ

[كشف الأسرار]

الْمَحِلَّيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ قَاصِرٌ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الزِّنَا إنَّمَا تَعَلَّقَ بِسَفْحِ الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْفِرَاشِ وَإِهْلَاكِ الْبَشَرِ حُكْمًا لَا بِمُجَرَّدِ السَّفْحِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ تَرْبِيَتِهِ عَلَى الزَّانِي لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَلَا عَلَى الْأُمِّ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَيَهْلِكُ؛ وَلِذَا سَمَّى تَرْبِيَتَهُ إحْيَاءً قَالَ عليه السلام «مَنْ أَخَذَ لَقِيطًا فَقَدْ أَحْيَاهُ» وَلِهَذَا لَوْ أَكْرَهَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَاءِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْإِقْدَامُ حَتَّى لَوْ أَقْدَمَ يَأْثَمُ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ، وَفِي اللِّوَاطَةِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا وُجِدَ مُجَرَّدُ تَضْيِيعِ الْمَاءِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِالْعَزْلِ فِي الْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَفِي الْمَنْكُوحَةِ الْحُرَّةِ بِإِذْنِهَا وَالْمَنْكُوحَةِ الْأَمَةِ بِإِذْنِهَا أَوْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا.

وَلَيْسَ فِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الرَّجُلِ إذْ الرَّجُلُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا فَكَانَ قَاصِرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ هَذَا النُّقْصَانُ بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَالَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُقَايَسَةً وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِمَا ذَكَرْتُمْ فَإِنَّهُ لَوْ زَنَى بِعَجُوزٍ أَوْ بِعَقِيمٍ لَا زَوْجَ لَهَا يَجِبُ الْحَدُّ وَلَمْ يُوجَدْ إفْسَادُ الْفِرَاشِ وَلَا إهْلَاكُ الْوَلَدِ. وَكَذَا زِنَاءُ الْخَصِيِّ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا مَاءَ لَهُ لِيُؤَدِّيَ إلَى فَسَادِ الْفِرَاشِ وَإِهْلَاكِ الْوَلَدِ.

قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْجِنْسُ لَا الْإِفْرَادُ وَجِنْسُ الزِّنَا لَا يَخْلُو عَنْ إفْسَادِ الْفِرَاشِ وَإِهْلَاكِ الْوَلَدِ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ عَلَى أَنَّ مَحَلِّيَّةَ الْمَاءِ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلًا فِي الْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِوَطْئِهِمَا وَكَذَا الْخَصِيُّ لَا يَنْعَدِمُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْمَاءِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَوْ انْعَدَمَ الْمَاءُ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا فِي الصَّبِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّنَا كَامِلٌ بِحَالٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ.

وَتَقْرِيرُهُ بِعِبَارَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ أَنَّ الْحُدُودَ شُرِعَتْ زَوَاجِرُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِنَايَاتِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إلَيْهِ، فَأَمَّا فِيمَا يَنْزَجِرُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ بِطَبْعِهِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ كَشُرْبِ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ فِي اللِّوَاطَةِ لَيْسَتْ كَالْحَاجَةِ إلَى الزَّاجِرِ فِي الزِّنَا.

أَمَّا فِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ فَلِأَنَّ الْحَدَّ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَجِبُ اسْتِدْلَالًا بِالزِّنَا وَالزَّانِيَةُ إنَّمَا تَحْمِلُهَا الشَّهْوَةُ عَلَى الزِّنَا فَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ هَهُنَا فَيَمْتَنِعُ بِطَبْعِهِ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ أَشَدُّ الِامْتِنَاعِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ فَشَرْعُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي جَانِبِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ طَبْعَهُ وَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إلَى هَذَا الْفِعْلِ وَلَكِنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهِ وَبِآخَرَ لَا يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَيْهِ وَفِي الزِّنَا يَقُومُ بِاثْنَيْنِ طَبْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِلٌ إلَيْهِ فَكَانَ أَغْلَبَ وُجُودًا أَوْ أَسْرَعَ حُصُولًا فَكَانَ أَحْوَجَ إلَى الزَّاجِرِ فَشَرْعُ الزَّاجِرِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِهِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ يَعْنِي فِي الزِّنَا بِدُونِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَهِيَ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ الْوُجُودِ وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ إهْلَاكُ الْبَشَرِ حُكْمًا

ص: 230

قَالَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْقَتْلِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْخَطَأُ فَكَانَ دَلَالَةً عَلَى وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ لِعَدَمِ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ إذَا صَارَتْ كَاذِبَةً فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى فَصَارَتْ دَلَالَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَعْنَى النَّصِّ لَكِنْ قُلْنَا: هَذَا الِاسْتِدْلَال غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ فِيهَا شَبَهٌ بِالْعُقُوبَاتِ لَا تَخْلُو الْكَفَّارَةُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِسَبَبٍ دَائِرٍ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ.

وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ كَبِيرَةٌ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ سَبَبًا كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا مَعَ رُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ حَرَامٌ مَحْضٌ

ــ

[كشف الأسرار]

وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِإِيجَابِ حَدِّ الزِّنَا.

يَعْنِي هِيَ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ حَتَّى تُرَجِّحُوا اللِّوَاطَةَ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ فَتُوجِبُوا فِيهِ الْحَدَّ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى بَلْ الْمُعْتَبَرَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي وَهِيَ فِي اللِّوَاطَةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَنَّ شُرْبَ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ كَمَالِ الْحُرْمَةِ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ آكَدُ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ الْخَمْرِ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لَا يَنْكَشِفُ بِحَالٍ وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُوجِبُهُ مَعَ أَنَّ حُرْمَتَهَا تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِوُجُودِ دُعَاءِ الطَّبْعِ فِي الْخَمْرِ وَعَدَمِهِ فِي الْبَوْلِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ اسْتِدْلَالًا بِالْقَتْلِ الْخَطَإِ وَالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَقَالَ: الْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْخَطَإِ لِارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً أَيْ سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ لَا لِلْخَطَأِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْحُقُوقِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ وَلَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ الْمُسْقِطِ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْعَمْدِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَقْوَى كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ازْدِيَادَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ بَلْ يُؤَكِّدُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ خَطَأً فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ أَوْجَبَهَا الْعَمْدُ لِازْدِيَادِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَتْ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الَّتِي عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا كَاذِبَةً بِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ، وَإِذَا وَجَبَتْ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهَا كَذْبَةً مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَظْرَ الْغَمُوسِ مِنْ جِنْسِ حَظْرِ الْمَعْقُودَةِ إذَا حَنِثَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ حَظْرٌ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، إلَّا أَنَّهُ فِي الْغَمُوسِ آكَدُ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْيَمِينَ نَوْعَانِ يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوُهُ، ثُمَّ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مَاضٍ عَلَى الْكَذِبِ تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِشَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَوُجِدَ الشَّرْطُ فَكَذَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا تَحَقَّقَ الْكَذِبُ فِيهَا.

وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى ثَابِتٌ لُغَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ يَعْرِفُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْإِثْمِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْجِنَايَةِ.

وَعِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ سَوَاءٌ وَجَبَ الْقَوَدُ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَقَتْلِ الْأَبِ وَلَدَهُ عَمْدًا وَقَتْلِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ عَمْدًا وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ مُسْلِمًا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ عَمْدًا وَكَذَا فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَكَذَا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ: وَأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابٍ مَحْظُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ حُكْمُهَا الثَّوَابُ وَنَيْلُ الدَّرَجَاتِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ الْجَنَابَةُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابٍ مُبَاحَةٍ كَالنِّصَابِ لِلزَّكَاةِ وَالْوَقْتِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.

وَعُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ: وَأَنَّهُمَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْظُورَاتٍ مَحْضَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ شُرِعَتْ زَاجِرَةً مَحْضَةً وَإِنَّمَا يَجِبُ الزَّجْرُ عَنْ الْمَعَاصِي لَا عَنْ الْمُبَاحِ.

وَكَفَّارَاتٌ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ عِبَادَةٍ وَعُقُوبَةٍ. أَمَّا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا فَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ الْإِجْزَاءُ كَالْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتُ تَجِبُ

ص: 231

وَأَمَّا الْخَطَأُ فَدَائِرٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَالْيَمِينُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ وَالْكَذِبُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ

ــ

[كشف الأسرار]

ابْتِدَاءً تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمَّا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا فَلِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَا شُرِعَ الصَّوْمُ خَالِيًا عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذَّنْبَ وَتَمْحُوهُ وَلَنْ يَقَعَ التَّكْفِيرُ إلَّا بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهَا شَرْطًا وَفُوِّضَ أَدَاؤُهَا إلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِيُؤَدِّيَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَالْعُقُوبَاتُ تُقَامُ كُرْهًا وَجَبْرًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى صِفَتَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِيَكُونَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْإِبَاحَةِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ أَبَدًا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْمُؤَثِّرِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ.

وَكَذَا الْغَمُوسُ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِدُونِ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةٌ فَمَعَ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ أَوْلَى فَكَانَ الْعَمْدُ وَالْغَمُوسُ بِمَنْزِلَةِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا فَلَا يَصْلُحَانِ سَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ الْمَحْضَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ مِثْلُ الْقَتْلِ بِحَقٍّ وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ سِوَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فَلَأَنْ لَا يَصْلُحَ الْمَحْظُورُ الْمَحْضُ كَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْخَطَأُ فَدَائِرٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ أَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ رَمْيٌ إلَى الصَّيْدِ أَوْ إلَى كَافِرٍ وَهُوَ مُبَاحٌ. وَبِاعْتِبَارِ تَرْكِ التَّثَبُّتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَحِلِّ هُوَ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا مَعْصُومًا فَيَصْلُحُ سَبَبًا لَهَا. وَكَذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَعْقُودَةِ صِفَتَا الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَلِهَذَا شُرِعَتْ فِي بَيْعَةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِفُونَ فِي الْبَيْعَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ وَلَا يُؤْثِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وَعَلِيٌّ رضي الله عنه كَانَ يَحْلِفُ فِي الْمُبَايَعَةِ لِلْبَعْضِ وَهِيَ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أَيْ بَذْلُهُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَقَوْلُهُ {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أَيْ امْتَنِعُوا عَنْ الْيَمِينِ وَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْهَا

وَالثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ يُحْلَفُ بِهَا فِي الْخُصُومَاتِ وَتَلْزَمُنَا شَرْعًا فَكَانَتْ مُبَاحَةً، إلَّا أَنَّهَا تَأْخُذُ مَعْنَى الْحَظْرِ بِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْكَذِبُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَيْ الْحِنْثُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَكَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَهَذَا الْوَجْهُ يُشِيرُ إلَى الْيَمِينِ مَعَ الْحِنْثِ سَبَبٌ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ سَبَبٌ وَالْحِنْثُ شَرْطٌ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ ذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَّارَةِ بِوَصْفِ الْجِنَايَةِ مُنْفَرِدًا غَلَطٌ وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ صَحِيحٍ.

وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْإِفْطَارُ سَبَبٌ فِي رَمَضَانَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ الْفِطْرُ وَأَنَّهُ جِنَايَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ يَحْصُلُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ مَشْرُوعٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الصَّوْمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْفِطْرِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى أَنَّ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ شَبَهُ الْعُقُوبَةِ رَاجِحٌ عَلَى مَا عُرِفَ فَجَازَ إيجَابُهَا بِمَا يَتَرَجَّحُ مَعْنَى الْحَظْرِ فِيهِ، كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ.

وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَمَّا الْفِطْرُ فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا أَمَّا الْإِبَاحَةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ

ص: 232

وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَتَلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْخَطَأِ وَهِيَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا فَتَثْبُتُ بِشُبْهَةِ السَّبَبِ كَمَا ثَبَتَ بِحَقِيقَتِهِ وَذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي الْكِتَابِ شِبْهَ الْعَمْدِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَ نَصًّا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ

ــ

[كشف الأسرار]

يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَأَمَّا الْحَظْرُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ وَبِهِ تَرْتَفِعُ النُّقُوضُ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا عَمْدًا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. وَفِي الْأَسْرَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَلَا تَلْزَمُ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ مَعَ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ فِي نَفْسِهِ مَحْظُورٍ بِصَوْمِهِ كَجِمَاعِ الْأَهْلِ وَأَكْلِ خُبْزِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ تَمَحُّضُ الْحَظْرِ لِحَقِّ الْفِطْرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْفِطْرِ لَا شُبْهَةُ إبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ حَتَّى إذَا زَنَى فِي رَمَضَانَ وَذَلِكَ الزِّنَا حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ الصَّوْمِ وَحَرَامٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَجَبَ بِكَوْنِهِ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ الْحَدُّ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ وَبِسَبَبِ الْمَعْنَى الْآخَرِ كَفَّارَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْغَاءِ حُرْمَةِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ فِي نَفْسِهِ لَوْلَا الصَّوْمُ.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ لَا بِالْجِمَاعِ نَفْسِهِ وَالْإِفْطَارُ بِاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ وَالِاقْتِضَاءُ فِي نَفْسِهِ حَلَالٌ وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَمْ يَصِرْ حَرَامًا مُحْصَنًا لِمَا حَلَّ فِي نَفْسِهِ لِوُجُودِهِ فِي مَحَلِّهِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهَا طَاعَةٌ مَحْضَةٌ، وَقَدْ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكَبِيرَةِ الْمَحْضَةِ فَمَا هُوَ طَاعَةٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنْ الْجِنَايَةِ وَنَقْضٌ لَهَا وَنَقْضُ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِهِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَى دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حُرْمَةَ مَا ارْتَكَبَهُ قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَتَلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ) يَعْنِي وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا قُلْنَا الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا مَحْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ شُبْهَةُ الْخَطَإِ فَإِنَّهُ مِنْ خَطَإِ الْعَمْدِ عِنْدَهُ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ عليه السلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» عَلَى مَا عُرِفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُثَقَّلَ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ آلَةُ التَّأْدِيبِ أَلَا تَرَى أَنَّ إجْرَاءَهُ لِلتَّأْدِيبِ بِهَا وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلتَّأْدِيبِ مُبَاحًا فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ بِاعْتِبَارِ الْآلَةِ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا خَطَأَ الْعَمْدِ أَيْ شِبْهُ الْعَمْدِ كَانَ مَحْظُورًا مِنْ حَيْثُ الْعَمْدِيَّةُ وَمِنْ حَيْثُ الْخَطَأُ لَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ إبَاحَةِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ.

وَالْكَفَّارَةُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا لِرُجْحَانِ جِهَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا فَيَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْخَطَأِ كَمَا يَثْبُتُ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْ جَعَلَ مُحَمَّدٌ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ شَبَهَ الْعَمْدِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَإِنَّمَا أَكَّدَ الشَّيْخُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْجَصَّاصِ وَبِدَلَالَةِ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لَا تَجِبُ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْإِيضَاحِ وُجِدَتْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَا كَفَّارَةَ فِي شَبَهِ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَإِنَّ الْإِثْمَ كَامِلٌ مُتَنَاهٍ وَتَنَاهِيهِ يَمْنَعُ شَرْعَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ.

1 -

قَوْلُهُ (وَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَكُونَ عَمْدًا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ يَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله -

ص: 233

فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابَلُ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى نَافَى الدِّيَةَ فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ مَحْضٌ خَالِصٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَالْعُقُوبَةُ جَزَاءٌ لِلْفِعْلِ الْمَحْضِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَجَرِ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَعَمَّ الْقَوَدَ وَالْكَفَّارَةَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَجِبُ بِالْعَمْدِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ السَّهْوُ دَلِيلًا عَلَى الْعَمْدِ لِمَا قُلْنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا

ــ

[كشف الأسرار]

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَرُدُّ إشْكَالًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ أُسْتَاذِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ تَنْتَفِي عَنْ الدَّمِ بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ بَقِيَتْ فِي ذِمَّةٍ فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِهَذَا يَرِثُ الْحَرْبِيُّ وَلَا يَرِثُ الذِّمِّيُّ وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِصْمَةِ يَثْبُتُ التَّقَوُّمَ فِي نَفْسِهِ حِينَ اسْتَأْمَنَ كَمَا يُثْبِتُ التَّقَوُّمَ فِي مَالِهِ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ فَصَارَ حَالُهُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ كَحَالِ الذِّمِّيِّ فَكَمَا يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا، فَكَذَلِكَ يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُثَقَّلِ أَثَّرَتْ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ كَمَا أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّبْهَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَلَمْ تُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ. فَأَجَابَ وَقَالَ: الشُّبْهَةُ هَاهُنَا فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ دَمَ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمَاثِلُ دَمَ الْمُسْلِمِ فِي الْعِصْمَةِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مُسْتَأْمَنًا آخَرَ أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، كَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.

فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ أَيْ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ مُقَابَلٌ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الدِّيَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الْمَحَلِّ مَعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ بَدَلَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ لَمَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهُ كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ لِمَالِكِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا إذْ الْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَالْقِيمَةُ بَدَلُ الْمَحِلِّ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مُقَابَلًا بِالْمَحَلِّ بِوَجْهٍ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ عِنْدَنَا جَزَاءُ الْفِعْلِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْمَقْتُولِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَيُقْتَلُ جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ بَدَلَ الْمَحَلِّ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الشُّبْهَةِ كَافٍ لِانْتِفَاءِ الْقِصَاصِ.

فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ مَحْضٌ خَالِصٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ أَيْ لَا يَدُورُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ إذْ الْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمَحْضِ لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ عَنْ الْمَحِلِّ بِوَجْهٍ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْمَحَلِّ.

وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَجَرِ أَيْ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْقَتْلِ خِلْقَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَوَضْعُ الْآلَةِ لِتَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي فِعْلِ الْعَبْدِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ. فَعَمَّتْ الْقَوَدَ وَالْكَفَّارَةَ أَيْ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْخَطَإِ وَالْمَعْقُودَةَ لَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَالْغَمُوسِ قُلْنَا: السُّجُودُ الْمَشْرُوعُ فِي السَّهْوِ لَا يَجِبُ بِالْعَمْدِ أَيْ

ص: 234