المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما سيق الكلام له وأريد به القصد أو الإشارة - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - جـ ٢

[علاء الدين عبد العزيز البخاري - فخر الإسلام البزدوي]

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ)

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ

- ‌[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ كَلِمَةُ كُلٍّ

- ‌[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]

- ‌كَلِمَةُ مَا

- ‌ كَلِمَةُ الَّذِي

- ‌ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ

- ‌[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]

- ‌ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ

- ‌[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]

- ‌ كَلِمَةُ أَيُّ

- ‌ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ

- ‌[بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ]

- ‌(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌[تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز]

- ‌طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ

- ‌ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ

- ‌[يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ]

- ‌ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي

- ‌[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]

- ‌ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ

- ‌إِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ

- ‌قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا

- ‌ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ

- ‌(بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ)

- ‌دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ

- ‌ الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

- ‌(بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي)

- ‌[معانى الْوَاوُ]

- ‌[معانى الْفَاءُ]

- ‌[معانى ثُمَّ]

- ‌[معانى بَلْ]

- ‌[معانى لَكِنْ]

- ‌[معانى أَوْ]

- ‌بَابُ حَتَّى) :

- ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

- ‌[مَعْنَى الْبَاءُ]

- ‌[مَعْنَى عَلَى]

- ‌[مَعْنَى مِنْ]

- ‌[مَعْنَى إلَى]

- ‌[مَعْنَى فِي]

- ‌[حُرُوفِ الْقَسَمِ]

- ‌ اَيْمُ اللَّهِ

- ‌ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ

- ‌ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌ حُرُوفِ الشَّرْطِ

- ‌(بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ)

- ‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

- ‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

- ‌[دَلَالَة الْمُقْتَضِي]

- ‌الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

- ‌ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ

- ‌ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

- ‌ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ

- ‌ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ

- ‌ مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ

- ‌(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)

- ‌[أَقْسَام الْعَزِيمَةُ]

- ‌[أَقْسَام الرُّخَصُ]

- ‌{بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا}

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ)

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ

- ‌[سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ]

- ‌ سَبَبُ الْخَرَاجِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ

- ‌سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ

- ‌سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ)

- ‌(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)

- ‌(بَابُ الْمَشْهُورِ)

- ‌(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)

- ‌[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]

- ‌[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ]

- ‌بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]

الفصل: ‌ما سيق الكلام له وأريد به القصد أو الإشارة

‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى)(أَحْكَامِ النَّظْمِ)

وَهُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الْوُقُوفُ بِعِبَارَتِهِ وَإِشَارَتِهِ وَدَلَالَتِهِ وَاقْتِضَائِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَ‌

‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

مَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ الْكَلَامُ لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدِ

ــ

[كشف الأسرار]

فِي الْمَحِلِّ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا أَنَّهُ مُجْرَى عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَمَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْأَمْوَالِ فَهَذَا الْكَافُ أَيْضًا مُوجِبُهُ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُهُ فَيَكُونُ نِسْبَةً لَهُ إلَى الزِّنَا قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ الْعَامِّ عِنْدَنَا.

وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ الْأَخْبَارِ مُمْكِنٌ فِي حُرْمَةِ الدَّمِ وَوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا نَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ وَلَوْ قُلْنَا بِالْعُمُومِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ]

[مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ]

(بَابُ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ)

قَوْلُهُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِيمَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الضَّمِيرُ فِي لَهُ، وَأُرِيدَ رَاجِعٌ إلَى مَا، وَفِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْكَلَامِ.

وَقَوْلُهُ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ تَعَرَّضَ لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَأُرِيدَ بِهِ قَصْدُ الْعَرَضِ لِلْمَعْنَى وَالْإِشَارَةُ أَيْ الثَّابِتُ بِالْإِشَارَةِ مَا ثَبَتَ بِنَظْمِ الْكَلَامِ أَيْ بِتَرْكِيبِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. إلَّا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى مَا أَيْ لَكِنَّ ذَلِكَ الثَّابِتَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ.

وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْإِشَارَةِ: هِيَ دَلَالَةُ نَظْمِ الْكَلَامِ لُغَةً عَلَى مَا ضُمِّنَ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ مَقْصُودٍ وَهُمَا أَيْ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ أَيْ فِي إثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِنَفْسِ النَّظْمِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي غَيْرِهِ مِثْلُ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا وَغَيْرَ قَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالْإِشَارَةُ قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً وَغَيْرَ قَطْعِيَّةٍ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ: ثُمَّ الْإِشَارَةُ مِنْ النَّصِّ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيضِ وَالْكِنَايَةُ مِنْ الصَّرِيحِ وَالْمُشْكِلُ مِنْ الْوَاضِحِ إذْ لَا يُنَالُ الْمُرَادُ بِهَا إلَّا بِضَرْبِ تَأْوِيلٍ وَتَبَيُّنٍ، ثُمَّ قَدْ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبِهَا بَعْدَ الْبَيَانِ، وَقَدْ لَا يُوجِبُ.

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ أَيْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِمَا قَطْعًا.

، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالْعِبَارَةِ أَحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ.

مِثَالُهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى.

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] .

سِيقَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ مَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ وَعُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ أَحْيَاءً وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ عَلَى الْحَيِّ وَلَكِنْ قَوْله تَعَالَى.

{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] .

عِبَارَةٌ فِي إيجَابِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْعُمُومِ وَالشُّهَدَاءُ أَمْوَاتٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدَلِيلِ جَوَازِ قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ وَتَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتُرَجَّحُ الْعِبَارَةُ عَلَى الْإِشَارَةِ.

هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِشَارَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ أَحْيَاءٌ لَيْسَ الْحَيَاةُ الَّتِي يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَهِيَ الْحِسِّيَّةُ بِلَا شُبْهَةٍ وَكَذَا الْعِبَارَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] .

الدُّعَاءُ لَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْ تَعَطُّفٌ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسْكُنُونَ إلَيْهِ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَقَبِلَ مِنْهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَارُضُ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَتَيْنِ عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

وَالنَّظِيرُ الْمُلَائِمُ «قَوْلُهُ عليه السلام فِي النِّسَاءِ. أَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ. فَقِيلَ مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ قَالَ. تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا شَطْرَ دَهْرِهَا. أَيْ نِصْفَ عُمُرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» سِيقَ الْكَلَامُ لِبَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ وَفِيهِ

ص: 210

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ التَّمْلِيكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِهِ كَالْمَالِكِ بِمَمْلُوكِهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَعَلَيْهِ تُبْنَى مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى انْفِرَادِ الْأَبِ بِتَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِيهَا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ غَنِيًّا وَالْوَالِدُ مُحْتَاجًا لَمْ يُشَارِكْ الْوَلَدَ أَحَدٌ فِي تَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَالِدِ لِمَا قُلْنَا مِنْ النِّسْبَةِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ

ــ

[كشف الأسرار]

إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.

وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ.

«أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ» .

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَقَلُّ الْحَيْضِ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ثَلَاثُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ عِبَارَةٌ فَتَرَجَّحَ عَلَى الْإِشَارَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام «إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلَا فَأَنْتُمْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَلَا لَكُمْ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أَعْطَيْته مَنْ شِئْتُ» .

سِيقَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَكْثَرُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَهَى بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلِهِ لَكَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ.

وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ ظِلِّهِ، وَقَالَ بَعْدَمَا صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ.

وَهُوَ عِبَارَةٌ فَرَجَّحَهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْإِشَارَةِ وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ قَوْلُهُ (فَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ أَوْ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ نُسِبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِلْكًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لِأَبِيهِ بِحَالٍ فَدَلَّ أَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ نَسَبًا فَإِنْ قِيلَ الْوَلَدُ يُنْسَبُ إلَى الْأُمِّ كَمَا يُنْسَبُ إلَى الْأَبِ وَيَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ مِنْ الْأَبِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِالْأَبِ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُمَيَّزُ لَهَا بَيْنَ نَسَبٍ وَنَسَبٍ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْكَفَاءَةِ وَاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا جَانِبُ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ.

أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ أَيْ لَهُ حَقٌّ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ الِابْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ مِلْكٍ فِي الْحَالِ حَتَّى جَازَ لِلِابْنِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَحَلَّ لَهُ وَطْءُ جَارِيَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقُّ مِلْكٍ بِوَجْهٍ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ لَهُ حَقَّ الْمِلْكِ فِي اكْتِسَابِهِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ حَتَّى لَمْ يَحِلَّ وَطْءُ جَارِيَتِهِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَقِّ التَّمَلُّكِ وَحَقِّ الْمِلْكِ.

وَأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِوَلَدِهِ أَيْ بِسَبَبِ وَلَدِهِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَوْ قَذَفَهُ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يُحْبَسُ فِي دَيْنِهِ كَالْمَالِكِ بِمَمْلُوكِهِ أَيْ كَمَا لَا يُعَاقَبُ الْمَالِكُ بِسَبَبِ مَمْلُوكِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ نُسِبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ.

1 -

وَعَلَيْهِ أَيْ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْأَبِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ.

مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَقْرُ بِوَطْئِهَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ الِابْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الِابْنِ لِمَا قُلْنَا. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ ضَرُورَةٍ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ. وَفِيهِ أَيْ وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إشَارَةٌ إلَى انْفِرَادِ الْأَبِ بِتَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ، بِنَاءً عَلَى هَذِهِ

ص: 211

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ وَهِيَ نَفَقُهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِقَوْلِهِ عز وجل {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَذَلِكَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْأَخَ وَالْعَمَّ وَغَيْرَهُمَا وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مُشْتَقٍّ مِنْ الْإِرْثِ مِثْلُ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ عَدَا الْوَالِدِ يَتَحَمَّلُونَ النَّفَقَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ حَتَّى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا لِقَوْلِهِ عز وجل {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَفِي قَوْلِهِ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه

ــ

[كشف الأسرار]

الْمَسْأَلَةِ النِّسْبَةُ أَيْ كَوْنُ الْوَلَدِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةِ أَحَدٍ فِيهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِنِسْبَتِهِ الْمِلْكَ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ الْكَبِيرِ مِثْلَ الِابْنِ الزَّمِنِ وَالْبِنْتِ الْبَالِغَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمُؤْنَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ قَوْلُهُ وَفِيهِ أَيْ فِي هَذَا النَّصِّ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَجْمُوعَ الْآيَةِ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ وَاحِدٍ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى كَذَا إشَارَةٌ أَنَّ النَّفَقَةَ يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ حَتَّى يُجْبَرَ الرَّجُلُ عَلَى نَفَقَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَأَهْلِ الزَّمَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى.

{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] .

وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ.

وَالشَّافِعِيُّ يَبْنِي عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، إلَّا الْوَالِدَانِ وَالْمَوْلُودُونَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ، فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَفِيمَا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ الِاسْتِحْقَاقُ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ.

وَحُمِلَ قَوْلُهُ وَعَلَى الْوَارِثِ عَلَى هِيَ الْمُضَارَّةُ دُونَ النَّفَقَةِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَزَيْدٍ رضي الله عنهما فَإِنَّهُمَا قَالَا: وَعَلَى الْوَارِثِ أَيْ وَارِثِ الْوَلَدِ.

مِثْلُ ذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الَّذِي عَلَى الْأَبِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. ثُمَّ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوُرَّاثُ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَارِثِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ.

وَلِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَقِيلَ وَلَا الْوَارِثُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذَلِكَ فَلَمَّا قَالَ وَعَلَى الْوَارِثِ دَلَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] . وَكَذَا قَوْلُهُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْأَبْعَدِ.

وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَقَطْعُهَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَنْعِ النَّفَقَةِ مَعَ يَسَارِ الْمُنْفِقِ وَصِدْقُ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ لَهُ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ إذَا بَعُدَتْ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهَا وَذَلِكَ أَيْ لَفْظُ الْوَارِثِ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ كَذَا لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَكَانَ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يُسَمَّى وَارِثًا وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِرْثِ وَمَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ فِي كُلِّ مُسَاقٍ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَى الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلِاشْتِقَاقِ أَثَرٌ إلَى الْإِيجَابِ كَمَا فِي السَّارِقِ وَالزَّانِي فَيَكُونُ الْإِرْثُ عِلَّةً لِوُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِعِلَّةِ الْإِرْثِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ فَإِنْ قِيلَ يُفْهَمُ بِسَوْقِ الْكَلَامِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَارِثِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْعِبَارَةِ فَكَيْفَ سَمَّاهُ إشَارَةً. قُلْنَا: نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ سَوْقَهُ لَا يُجَابُ النَّفَقَةُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَوْقَهُ لِبَيَانِ أَنَّ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لِهَذَا الْحُكْمِ فَيَكُونُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ إشَارَةً. وَفِيهِ أَيْ وَفِي قَوْلِهِ {وَعَلَى الْوَارِثِ} [البقرة: 233] . فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ قَوْلُهُ (وَفِي قَوْله تَعَالَى رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ. إشَارَةٌ إلَى) كَذَا قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْمَنْكُوحَاتُ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُمَا مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْرَ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَاتِ فَقَالَ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَالْمُرَادُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ فَضْلُ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِرْضَاعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّفَقَةِ وَاجِبٌ بِالنِّكَاحِ.

وَقِيلَ الْمُرَادُ الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ

ص: 212

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] سِيَاقُ الْكَلَامِ لِإِبَاحَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي اللَّيْلِ وَنَسْخِ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] أَيْ الْكَفَّ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَكَانَ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلْجِمَاعِ اخْتِصَاصٌ وَلَا مَزِيَّةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي النَّهَارِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] بَعْدَ إبَاحَةِ الْجِمَاعِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَحَرْفُ " ثُمَّ " لِلتَّرَاخِي فَتَصِيرُ الْعَزِيمَةُ بَعْدَ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يَنْقَضِي، إلَّا بِجُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى الْفَجْرِ بِالسُّنَّةِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ أَصْلًا فَلَا وَفِي إبَاحَةِ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي الصَّوْمَ فِيمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى الْوَارِثِ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ لَا نَفَقَةُ النِّكَاحِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ فِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وُجُوبِ أَجْرِ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْأَبِ وَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ إذَا كَانَتْ طَعَامًا وَكِسْوَةً لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ مَعَ الْجَهَالَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ مَجْهُولَ الصِّفَةِ وَالنَّوْعِ كَمَا «قَالَ عليه السلام لِهِنْدَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» .

وَمَا يَكُونُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ مَعَ الْجَهَالَةِ يَصْلُحَانِ أُجْرَةً وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الظِّئْرَ فِي الْعَادَةِ كِفَايَتَهَا مِنْ الطَّعَامِ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهِ إلَى وَلَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُونَهَا كِفَايَتَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ لِكَوْنِ وَلَدِهِمْ فِي حِجْرِهَا فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ.

وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ جِنْسِ الثِّيَابِ وَفِي الطَّعَامِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ لَا تُكْسَى كِسْوَةَ الْأَصْلِ وَتُطْعَمُ طَعَامَهُمْ فَكَانَتْ الْكِسْوَةُ مَجْهُولَةً جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ عَادَةً.

1 -

قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ أَوْ وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] الْآيَةَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ طَرَفُ بَيَاضِ النَّهَارِ، وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ طَرَفُ سَوَادِ اللَّيْلِ شَبَّهَ دِقَّتَهُمَا بِالْخَيْطِ. وَمِنْ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ.

وَالْمُرَادُ تَبَيُّنُ ضَوْءِ النَّهَارِ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ.

وَنُسِخَ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَيْ قَبْلَ الْإِبَاحَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِحْلَالِ مِنْ التَّحْرِيمِ فَإِنَّ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ أَوْ رَقَدَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ الْغَدِ وَكَانَ ذَلِكَ صَوْمًا فَنُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مُتَعَمِّدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ عَامِدًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِ وَلَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ لِوُجُوهٍ تُذْكَرُ بَعْدُ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِهِ قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةَ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ فَبَقِيَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مُخْتَصًّا بِالْجِمَاعِ فَقَالَ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُبَاشَرَةَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِيُلَائِمَ الْأَمْرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمَا جُمْلَةً بِقَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] .

أَيْ الْكَفُّ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَ حَظْرُ الْكُلِّ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ لِثُبُوتِهِ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ فَصَارَ الرُّكْنُ هُوَ الْكَفُّ عَنْهَا جُمْلَةً وَصَارَتْ الْجُمْلَةُ تُقَايِضُ هَذَا الْكَفَّ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْجِمَاعِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا اخْتِصَاصٌ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ وَجَبَتْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دَلَالَةً لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ.

وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] ثُمَّ تَفَاوَتَتْ أَرْكَانُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالْمَزِيَّةِ حَتَّى كَانَ السُّجُودُ أَقْوَى مِنْ الرُّكُوعِ وَالْقِيَامِ وَلِهَذَا قَالُوا بِسُقُوطِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ عَنْ الْقَادِرِ عَلَيْهِمَا الْعَاجِزِ عَنْ السُّجُودِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه السلام «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» .

«وَقَوْلُهُ عليه السلام لِثَوْبَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يُدْخِلُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ عَلَيْك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» «وَلِمَنْ سَأَلَ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ أَعِنِّي عَلَى

ص: 213

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ سِيَاقُهَا الْإِيجَابُ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِهَةِ الْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلُ مُتَعَدٍّ مُطَاوِعُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ وَهُوَ الْأَكْلُ فَالْإِطْعَامُ جَعْلُهُ أَكْلًا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ إذَا تَعَدَّتْ بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ لَمْ تَبْطُلْ وَضْعُهَا وَحَقِيقَتُهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطَاوِعُهُ مِلْكًا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيهِ تَمْلِيكًا هَذَا وَاضِحٌ جِدًّا

ــ

[كشف الأسرار]

نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وَبِأَنَّ مَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَالسُّجُودُ هُوَ النِّهَايَةُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ مَزِيَّةَ الْجِمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْأَكْلِ مَعَ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ وَهُوَ الْوُجُوبُ مُتَسَاوِيَةٌ أَيْضًا.

عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَرْكَانَهَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ بَلْ ثَبَتَ كُلُّ رُكْنٍ بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الصَّلَاةِ مُجْمَلًا بِخِطَابٍ عَلَى حِدَةٍ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] . وَنَحْوُهَا. وَفِيهِ أَيْ وَفِي هَذَا النَّصِّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ النَّهَارِ هِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَفْعَالَ الْمَذْكُورَةَ إلَى الِانْفِجَارِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ بِقَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَإِذَا ابْتَدَأَ الصِّيَامَ بَعْدَهُ حَصَلَتْ النِّيَّةُ بَعْدَمَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ فَبِالنَّظَرِ إلَى مُوجِبِ هَذَا النَّصِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْأَدَاءِ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا بِالسُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عليه السلام.

«لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ أَدَّى إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِيهِمَا عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا.

فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالنِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا صَارَتْ أَفْضَلَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْأَدَاءِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ لَا لِإِكْمَالِ الصَّوْمِ كَمَا أَنَّ الِابْتِكَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى لِلْمُسَارَعَةِ لَا لِتَعَلُّقِ كَمَالِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا بِهِ، وَكَذَا الْمُبَادَرَةُ إلَى سَائِرِ الصَّلَاةِ أَوْ لِلْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْخِلَافِ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رحمه الله: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَبَّازَ السَّمَرْقَنْدِيَّ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَكِنْ لِلْخُصُومِ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ وَهُوَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ لَا لِلشَّرْطِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْصِيلِ الشَّرْطِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْتُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ الْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ عَقِيبَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ مُتَّصِلًا بِهِ بِلَا فَصْلٍ لِيَصِيرَ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا وَأَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا بِدُونِ النِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْإِمْسَاكِ الْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ لِيَكُونَ صَوْمًا وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، إلَّا بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُودُهَا لِلْحَالِ مُقَارِنَةً لَهُ وَالْآخَرُ وُجُودُهَا فِي اللَّيْلِ لِتُجْعَلَ بَاقِيَةً حُكْمًا إلَى وَقْتِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ فَتَصِيرَ مُقَارِنَةً فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فَإِذَنْ كَانَتْ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا هَكَذَا ذَكَرَ فِي طَرِيقَتِهِ. وَفِي كَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي الصَّوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لَمَّا كَانَتْ مُبَاحَةً إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَالِاغْتِسَالُ يَكُونُ بَعْدَ الْفَجْرِ يَكُونُ ضَرُورَةً، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ الْمُبَاشَرَةُ قَبْلَ آخِرِ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ لِلْغُسْلِ فَيَكُونُ رَدًّا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَنَابَةَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ مُعْتَمِدِينَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» .

وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَصْبَحَ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الْجَنَابَةَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِأَهْلِهِ فَلَا صَوْمَ لَهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا فِي " بِمَا عَقَدْتُمْ " أَيْ فَكَفَّارَةُ نَكْثِ مَا عَقَدْتُمْ.

وَالْكَفَّارَةُ الْفَعْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكَفِّرَ الْخَطِيئَةَ ثُمَّ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ غَدَاءً وَعَشَاءً مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ عِنْدَنَا وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ غَدَاؤُهُ وَعَشَاؤُهُ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ

ص: 214

فَمَنْ جَعَلَ التَّمْلِيكَ أَصْلًا كَانَ تَارِكًا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ وَمَعْنَى إلْحَاقُ التَّمْلِيكِ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْإِبَاحَةَ جُزْءٌ مِنْ التَّمْلِيكِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّمْلِيكِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ حَوَائِجَ الْمَسَاكِينِ كَثِيرَةٌ يَصْلُحُ الطَّعَامُ لِقَضَاءِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ لِقَضَائِهَا فَأُقِيمَ الْمِلْكُ مَقَامَهَا فَصَارَ التَّمْلِيكُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهَا كُلِّهَا بِاعْتِبَارِ الْخِلَافَةِ عَنْهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَوَائِجِ الْأَكْلُ فَصَارَ النَّصُّ وَاقِعًا عَلَى الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَالْأَوْزَاعِيُّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَيْهِ لَا يَتَأَدَّى، إلَّا بِالتَّمْلِيكِ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ الْإِطْعَامُ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَهَبْته لَك حَتَّى إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ مِلْكًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إبَاحَةً إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الْأَرْضَ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَنَافِعِهَا الَّتِي تُطْعَمُ مَعْنًى بِالزِّرَاعَةِ مَجَازًا.

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خُلَّةِ الْمِسْكِينِ وَإِغْنَاؤُهُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ التَّمْكِينِ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْكِسْوَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ لَا تَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ وَالْإِبَاحَةِ حَتَّى لَوْ أَعَارَ الْمَسَاكِينَ ثِيَابًا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَلَبِسُوا لَا يَجُوزُ فَكَذَا الطَّعَامُ.

وَعُلَمَاؤُنَا رحمهم الله تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إنَّهَا تُشِيرُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلتَّمْكِينِ لَا لِلتَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ أَيْ إلَى مَفْعُولَيْنِ مُطَاوِعُهُ أَيْ لَازِمُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ مُوجِبِ الْأَمْرِ وَالطُّعْمِ الْأَكْلُ فَبِإِدْخَالِ الْهَمْزَةِ فِيهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْلَاسِ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْإِدْخَالِ مِنْ الدُّخُولِ فَكَانَ مَعْنَى الْإِطْعَامِ جَعْلَ الْغَيْرِ طَاعِمًا أَيْ آكِلًا؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ التَّكْفِيرِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ يَصِيرُ هُوَ بِهِ مَطْعَمًا وَيَصِيرُ الْغَيْرُ بِهِ طَاعِمًا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ وَالتَّسْلِيطِ عَلَى الطَّعَامِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ لِيَتِمَّ فِعْلُهُ إطْعَامًا وَيَحْصُلُ بِهِ إتْلَافُ الطَّعَامِ عَيْنِهِ وَيَتِمُّ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ. وَأَنَّ التَّمْلِيكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ الطَّعَامَ إلَى غَيْرِهِ وَاسْتَوْفَى الْغَيْرُ مِنْهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ أَطْعِمْهُ وَلَا يُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ إطْعَامِ الْأَهْلِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ. وَأَنَّهُ حَلَّ ذِكْرُهُ أَضَافَ الْإِطْعَامَ إلَى الْمَسَاكِينِ وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ الْحَاجَةُ وَحَاجَةُ الْمِسْكِينِ إلَى الطَّعَامِ فِي أَكْلِهِ دُونَ تَمَلُّكِهِ فَكَانَ إضَافَةُ الْإِطْعَامِ إلَى الْمَسَاكِينِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَصِيرُ الْمِسْكِينُ بِهِ طَاعِمًا دُونَ التَّمْلِيكِ وَكَذَا التَّمْلِيكُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْجُوعِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ مِنْ تَمْلِيكِ حِنْطَةٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا، إلَّا بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَحَمُّلِ الْمُؤْنَةِ.

وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّمْلِيكُ كَمَا ذَهَبَ حَمْدَانُ بْنُ سَهْلٍ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِطْعَامَ لَازَمَهُ الطُّعْمُ وَهُوَ الْأَكْلُ دُونَ الْمِلْكِ وَفِي التَّمْلِيكِ لَا يُوجَدُ حَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُطْعِمَهُ الْمِسْكِينُ وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ، إلَّا بِأَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا التَّمْلِيكَ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خُلَّةِ الْمِسْكِينِ وَالْإِطْعَامُ قَضَاءُ حَاجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَاجَةُ الْأَكْلِ وَلَهُ حَوَائِجُ كَثِيرَةٌ وَالْمِلْكُ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَهِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَأُقِيمَ الْمِلْكُ مَقَامَ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فَكَانَ التَّمْلِيكُ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا تَقْدِيرًا.

أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمْلِيكَ إلَى الْفَقِيرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ قَامَ مَقَامَ دَفْعِ حَوَائِجِهِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْقِيَمِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ التَّمْلِيكِ فَكَانَ الْجَوَازُ فِيهِ ثَابِتًا بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّمْلِيكُ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ جُمْلَةً أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَمْلِيكَ مَنَوَيْنِ مِنْ الْبُرِّ سَبَبٌ لِقَضَاءِ جَمِيعِ الْحَوَائِجِ.

وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ جُزْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ شَامِلًا لِدَفْعِ حَاجَةِ الْأَكْلِ.

وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ التَّمْلِيكَ إنَّمَا جَازَ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى التَّطَعُّمِ وَالْأَكْلِ

ص: 215

فَاسْتَقَامَ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْكُلِّ الَّذِي هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْنَى وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ هُنَاكَ تَنَاوَلَ التَّمْلِيكَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلَ فِي الْأَوَّلِ كَفَّارَةً وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَجَعَلَ الْعَيْنَ فِي الثَّانِي كَفَّارَةً وَهُوَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ اسْمٌ لِلثَّوْبِ وَبِفَتْحِ الْكَافِ اسْمٌ لِلْفِعْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْعَيْنَ كَفَّارَةً لَا الْمَنْفَعَةُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِعَارَةِ فَصَارَ النَّصُّ هُنَا وَاقِعًا عَلَى التَّمْلِيكِ الَّذِي هُوَ قَضَاءٌ لِكُلِّ الْحَوَائِجِ فِي الْمَعْنَى فَلَمْ يَسْتَقِمْ التَّعْدِيَةُ إلَى مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَاصِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ فِي الثِّيَابِ مُنْقَضِيَةٌ قَبْلَ الْكَمَالِ وَالْإِبَاحَةُ فِي الطَّعَامِ لَازِمَةٌ لَا مَرَدَّ لِفِعْلِ الْأَكْلِ فِيهَا فَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا وَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قِيَاسِ الطَّعَامِ بِالْكِسْوَةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعًا غَلَطًا

ــ

[كشف الأسرار]

وَتَمْكِينٌ لِذَلِكَ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ.

وَالضَّمِيرُ فِي مَقَامِهَا وَعَنْهَا رَاجِعٌ إلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَاسْتَقَامَ تَعْدِيَتُهُ أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الدَّيْنِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وَشِرَاءِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّمْلِيكُ مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مَجَازٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَنَحَّى الْحَقِيقَةُ.

قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزْنَا التَّمْلِيكَ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِطْعَامِ رَدُّ الْجَوْعَةِ وَهُوَ بِالتَّمْلِيكِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ بِرَدِّهَا مَتَى شَاءَ وَالْعَمَلُ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا يَمْنَعُ حَقِيقَتَهُ كَحُرْمَةِ الشَّتْمِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا يَمْنَعُ التَّأْفِيفَ.

قَوْلُهُ (الْكِسْوَةُ كَذَا) ذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ الْكِسْوَةُ اللِّبَاسُ. وَفِي الصِّحَاحِ الْكِسْوَةُ وَاحِدَةُ الْكُسَى. وَإِذَا كَانَ الْكِسْوَةُ اسْمًا لِلثَّوْبِ وَنَفْسُ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ كَفَّارَةً لِأَنَّهَا اسْمٌ لِنَوْعِ عِبَادَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ احْتَجْنَا إلَى زِيَادَةِ فِعْلٍ يَصِيرُ الثَّوْبُ بِهِ كَفَّارَةً كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تَكُونُ عِبَادَةً بِنَفْسِهَا فَزِدْنَا فِعْلًا صَارَتْ الشَّاةُ بِهِ عِبَادَةً وَصَدَقَةً وَهُوَ الْإِيتَاءُ، ثُمَّ الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا، وَقَدْ يَكُونُ إتْلَافًا بِلَا تَمْلِيكٍ كَالتَّحْرِيرِ وَالْكِسْوَةِ لَا تَصِيرُ كَفَّارَةً بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى بَعْدَهُ كِسْوَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْكِسْوَةَ وَهِيَ ثِيَابٌ يُكْتَسَى فَلَمْ يَبْقَ، إلَّا التَّمْلِيكُ.

وَإِذَا أَعَارَهُمْ الثَّوْبَ فَمَا فِيهَا تَمْلِيكُ ثَوْبٍ وَلَا إتْلَافُهُ فَلَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ كَفَّارَةً بَلْ فِيهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمَنَافِعَ كَفَّارَةً إنَّمَا جَعَلَ الثَّوْبَ كَفَّارَةً فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِتْلَافٌ لِلطَّعَامِ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ الطَّعَامُ بِالْإِطْعَامِ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَفِ بِالْفَقِيرِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْفِعْلِ يَصْلُحُ فِعْلَ تَكْفِيرٍ كَالتَّحْرِيرِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ هِبَةً مَجَازًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّا مَتَى جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَطْعَمًا، إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الطَّعَامُ مَأْكُولًا وَأَنَّهُ جَعَلَ الطَّعَامَ مَفْعُولَ إطْعَامِهِ فَمَتَى كَانَ الطَّعَامُ قَائِمًا لَا يَكُونُ مَفْعُولَ الْأَكْلِ وَيَصْلُحُ مَفْعُولَ التَّمْلِيكِ مَعَ قِيَامِهِ فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِطْعَامَ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ وَتَأْثِيرُهُ فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ يَجْعَلُهُ طَاعِمَا كَمَا بَيَّنَّا وَفِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي إذَا كَانَ يُطْعِمُ عَيْنَهُ يَجْعَلُهُ مَمْلُوكًا لِلطَّاعِمِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَصَرُّفًا فِيهَا يَجْعَلُهَا مَطْعُومَةً لِلطَّاعِمِ؛ لِأَنَّ الطَّعْمَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مِنْهُ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَيُجْعَلَ تَصَرُّفًا فِيهَا بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الطُّعْمِ وَمُفْضٍ إلَيْهِ وَلَمْ تُجْعَلْ إبَاحَةً وَإِنْ صَلُحَتْ سَبَبًا لِلطَّعْمِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَصَرُّفٍ فِي الْعَيْنِ وَلِأَنَّهَا قَدْ حَصَلَتْ بِجَعْلِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ طَاعِمًا إذْ أَدْنَى طُرُقُهُ الْإِبَاحَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ تَأْثِيرٍ لَهُ فِي الثَّانِي وَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ كِلَا مَفْعُولَيْهِ كَانَ دَالًّا عَلَى التَّمْلِيكِ فَأَمَّا إذَا حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْهُ فَقَدْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَأَنْ لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، فِي عِلْمِ الْمَعَانِي فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُجْعَلَ تَمْلِيكًا لِعَدَمِ مَحِلِّهِ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا لَا غَيْرَ لِاقْتِصَارِ عَمَلِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ فَفِي النُّصُوصِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ لَا ذِكْرَ مَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ فَلَا يَدُلُّ الْإِطْعَامُ فِيهَا عَلَى التَّمْلِيكِ فَجُعِلَ إبَاحَةً فَأَمَّا فِي قَوْلِك أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَكِلَا مَفْعُولَيْهِ مَذْكُورٌ فَيَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ هِبَةً.

فَإِنْ قِيلَ: الْكِسْوَةُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ أَيْضًا يُقَالُ كَسَاهُ كِسْوَةً بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ

ص: 216

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

الْكَشَّافِ وَالنَّظِيرِيِّ.

وَفِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الْكِسْوَةُ بوشانيدن. وَذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِلْبَاسُ وَهِيَ مَصْدَرٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ هَهُنَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَدَّ بِالْإِعَارَةِ فَكَذَا فِي الطَّعَامِ لَا يَتَأَدَّى بِالْإِبَاحَةِ.

قُلْنَا: إنْ ثَبَتَ هَذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْإِلْبَاسِ وَاللِّبَاسِ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ اللِّبَاسِ مُرَادًا مِنْهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَزَوَالُ مِلْكِ الْمُكَفِّرِ لَا يَحْصُلُ بِالْإِعَارَةِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَهَذَا أَيْ الْإِطْعَامُ يُخَالِفُ الْكِسْوَةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ الْجُمْلَةِ قَاصِرٌ عَنْ دَفْعِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ مُنْقَضِيَةٌ أَيْ مُنْتَهِيَةٌ تَامَّةٌ قَبْلَ الْكَمَالِ أَيْ قَبْلَ كَمَالِ دَفْعِ الْحَاجَةِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّهُ بَعْدَمَا لَبِسَهُ الْمِسْكِينُ يَوْمًا مَثَلًا كَانَتْ الْإِعَارَةُ مُنْتَهِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيَةُ الْجَوَازَ مِنْ التَّمْلِيكِ إلَيْهَا فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَامِلَةً فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ التَّعْدِيَةُ لِكَوْنِهَا جُزْءًا مِنْ الْكُلِّ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ قَاصِرَةً.

بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فِي الطَّعَامِ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ، إلَّا بِالْأَكْلِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِوَجْهٍ. فَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ، أَيْ الْإِعَارَةُ فِي الثَّوْبِ وَالْإِبَاحَةُ فِي الطَّعَامِ لَوْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ لَكَانَتَا مُتَنَاقِضَتَيْنِ أَيْ مُخَالِفَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الطَّعَامِ كُلُّ الْمَنْصُوصِ وَالْإِعَارَةَ فِي الثَّوْبِ جُزْءُ الْمَنْصُوصِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي أَحَدِهِمَا عَدَمُهُ فِي الْآخَرِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتَا مُتَفَاوِتَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي الْإِبَاحَةِ وَقُصُورِهِ فِي الْإِعَارَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ أَيْ الْكِسْوَةِ تُخَالِفُ الْإِطْعَامَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْكِسْوَةِ الْعَيْنُ وَفِي الْإِطْعَامِ الْفِعْلُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُ إلْحَاقُ التَّمْلِيكِ بِالْإِبَاحَةِ فِي الْإِطْعَامِ وَلَا يُمْكِنُ عَكْسُهُ فِي الْكِسْوَةِ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا يُؤَدِّي مَعْنَى التَّمْلِيكِ هَهُنَا وَالتَّمْلِيكُ يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبَاحَةِ هُنَاكَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ فِي الْكِسْوَةِ أَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِلْآخَرِ لَا مُوَافِقٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ كُلٌّ وَالْآخَرُ جُزْءٌ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِعَارَةِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُمَا فِيهِ مُتَوَافِقَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعًا غَلَطًا. أَمَّا فِي الْفَرْعِ فَلِأَنَّهُ قَاسَ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْكِسْوَةُ فَلِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَيْنُ دُونَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّمْلِيكُ ضَرُورَةَ صَيْرُورَةِ الْعَيْنِ كَفَّارَةً وَتَعْدِيَةَ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ إلَى الْفَرْعِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ فَكَانَ غَلَطًا، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِبَاحَةِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ مِمَّا يَكُونُ مُعْتَادًا فِي كُلِّ مَوْضِعِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ أَوْ الْغَدَاءَانِ أَوْ الْعَشَاءَانِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَادَةً. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] .

وَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ هُوَ

ص: 217

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَسَاكِينَ صَارُوا مَصَارِفَ بِحَوَائِجِهِمْ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَضَاءَ الْحَوَائِجِ لِأَعْيَانِ الْمَسَاكِينِ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ إطْعَامَ الطَّاعِمِ الْغَنِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ كَتَمْلِيكِ الْمَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْإِطْعَامِ الْحَاجَةُ إلَى الطُّعْمِ وَثَبَتَتْ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ اسْمَهُمْ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامَ مِثْلُ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي سَاعَةٍ لِوُجُودِ عَدَدِ الْحَوَائِجِ كَامِلَةً فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِسْوَةِ مِسْكِينٍ عَشَرَةُ أَثْوَابَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامَ، وَقَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ حَاجَةُ اللَّبُوسِ وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَ التَّمْلِيكَ عَلَى مَا قُلْنَا، وَقَدْ أَقَمْنَا التَّمْلِيكَ مَقَامَ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا وَالثَّوْبُ قَائِمٌ إذَا اُعْتُبِرَتْ اللَّبُوسُ، وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ جُمْلَةُ الْحَوَائِجِ صَارَ مَالِكًا فِي التَّقْدِيرِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ عَلَى هَذَا مُتَوَاتِرًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَاتِ إذَا قُضِيَتْ لَمْ تَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَجَدُّدِهَا وَلَا تَجَدُّدَ إلَّا بِالزَّمَانِ وَادُنَى ذَلِكَ يَوْمٌ لِجُمْلَةِ الْحَوَائِجِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ الْمَرَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ هُوَ الْمَرَّةُ الَّتِي تُسَمَّى وَجْبَةً وَهِيَ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الزَّوَالِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وَنِصْفَ النَّهَارِ فَكَانَ الْوَسَطُ مَا ذَكَرْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ طَعَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ فَقَالَ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] قَوْلُهُ (وَفِيهِ) أَيْ وَفِي هَذَا النَّصِّ إشَارَةٌ إلَى كَذَا إذَا صُرِفَ الطَّعَامُ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَالْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ وَالْحَاجَةِ لَا يَصِيرُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَصِيرُ شَاهِدَيْنِ بِتَكْرَارِ الْأَدَاءِ.

وَقُلْنَا نَحْنُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَازِ كَمَا قَرَّرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ صَارُوا مَصَارِفَ بِحَوَائِجِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَتْ بِهَتْكِ حُرْمَتِهِ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَكُنْ الْفَقِيرُ مُسْتَحِقًّا لَهَا بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِرِزْقِهِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ صَارُوا مَصَارِفَ صَالِحَةً لِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ.

ثَبَتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ بِالْفِعْلِ أَيْ بِإِيجَابِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ إطْعَامَ الطَّاعِمِ الْغَنِيَّ أَيْ إطْعَامَ مَنْ قَدْ طَعِمَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأَكْلِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ لَا بُدَّ لِلْإِطْعَامِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَكْلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ الْجَائِعِ لَمَّا كَانَ إطْعَامُ الشَّبْعَانِ مُتَعَذِّرًا وَإِنْ صُرِفَ الطَّعَامُ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ لَا لِأَعْيَانِهِمْ وَإِنْ ذُكِرَ الْعَدَدُ لِبَيَانِ عَدَدِ الْحَوَائِجِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ قَضَاءُ عَشْرِ حَاجَاتٍ.

وَثَبَتَ أَيْضًا أَيْ وَثَبَتَ أَنَّهُمْ صَارُوا مَصَارِفَ لِحَوَائِجِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسَاكِينِ أَيْ بِإِضَافَةِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى صِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ وَهِيَ الْمَسْكَنَةُ.

فَدَلَّ ذَلِكَ أَيْ دَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ لَا أَعْيَانُ الْمَسَاكِينِ عَلَى كَذَا.

وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالدَّفْعِ إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الَّذِي ارْتَكَبَ بِأَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي يَوْمٍ رُبَّمَا عَجَلَتُهُ مُنْيَتُهُ فَيَبْقَى ذَنْبُهُ غَيْرَ مُكَفَّرٍ لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْمَعْنَى الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ أَوْ يُوجِبُ خَلَلًا فِيهِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَى مِسْكِينٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّ هَذَا دَفَعَ إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ كَالرَّأْسِ الْوَاحِدِ وَالنِّصَابُ الْوَاحِدُ يَصِيرُ مُتَعَدِّدًا بِتَجَدُّدِ الْمُؤْنَةِ وَالنَّمَاءِ.

وَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعَدَدِ وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَتَقْلِيلُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ لَا يَحْصُلُ بِتَكْرَارِ الْوَاحِدِ شَهَادَتَهُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.

يُوَضَّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةَ أُمَنَاءَ مِنْ شَعِيرٍ لَمَا صَلُحَتْ أَنْ يَصِيرَ أَرْبَعِينَ مَنًّا تَقْدِيرًا بِأَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى الْفَقِيرِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، ثُمَّ يُؤَدِّيهَا إلَى فَقِيرٍ آخَرَ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى أَنْ تَتِمَّ الْكَفَّارَةُ جَازَ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِسْكِينًا آخَرَ حُكْمًا لِمَا عُرِفَ أَنَّ لِتَجَدُّدِ الْوَصْفِ تَأْثِيرًا فِي تَبَدُّلِ الْعَيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَيْ عَدَدُ الْحَوَائِجِ كَامِلَةً فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يُوجَدُ فِي كِسْوَةِ مِسْكِينٍ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ إلَى آخِرِهِ. أَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَسَقَطَ

ص: 218