المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ)

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ

- ‌[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ كَلِمَةُ كُلٍّ

- ‌[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]

- ‌كَلِمَةُ مَا

- ‌ كَلِمَةُ الَّذِي

- ‌ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ

- ‌[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]

- ‌ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ

- ‌[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]

- ‌ كَلِمَةُ أَيُّ

- ‌ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ

- ‌[بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ]

- ‌(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌[تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز]

- ‌طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ

- ‌ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ

- ‌[يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ]

- ‌ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي

- ‌[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]

- ‌ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ

- ‌إِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ

- ‌قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا

- ‌ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ

- ‌(بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ)

- ‌دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ

- ‌ الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

- ‌(بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي)

- ‌[معانى الْوَاوُ]

- ‌[معانى الْفَاءُ]

- ‌[معانى ثُمَّ]

- ‌[معانى بَلْ]

- ‌[معانى لَكِنْ]

- ‌[معانى أَوْ]

- ‌بَابُ حَتَّى) :

- ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

- ‌[مَعْنَى الْبَاءُ]

- ‌[مَعْنَى عَلَى]

- ‌[مَعْنَى مِنْ]

- ‌[مَعْنَى إلَى]

- ‌[مَعْنَى فِي]

- ‌[حُرُوفِ الْقَسَمِ]

- ‌ اَيْمُ اللَّهِ

- ‌ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ

- ‌ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌ حُرُوفِ الشَّرْطِ

- ‌(بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ)

- ‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

- ‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

- ‌[دَلَالَة الْمُقْتَضِي]

- ‌الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

- ‌ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ

- ‌ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

- ‌ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ

- ‌ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ

- ‌ مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ

- ‌(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)

- ‌[أَقْسَام الْعَزِيمَةُ]

- ‌[أَقْسَام الرُّخَصُ]

- ‌{بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا}

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ)

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ

- ‌[سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ]

- ‌ سَبَبُ الْخَرَاجِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ

- ‌سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ

- ‌سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ)

- ‌(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)

- ‌(بَابُ الْمَشْهُورِ)

- ‌(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)

- ‌[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]

- ‌[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ]

- ‌بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]

الفصل: ‌(باب خبر الواحد)

(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا لَا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِنَا وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فَاسْتَقَامَ أَنْ يَثْبُتَ غَيْرُ مُوجِبِ عِلْمِ الْيَقِينِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمَأْثَمُ. وَقِسْمٌ لَا يُخْشَى عَلَى جَاحِدِهِ الْمَأْثَمُ، وَلَكِنْ يُخَطَّأُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْأَخْبَارِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا فِي كُلِّ قَرْنٍ كَانَ لِكُلِّ مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ الصِّدْقِ أَنْ يُخَطِّئَ صَاحِبَهُ، وَلَكِنْ لَا يُؤَثَّمُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَالْإِثْمُ فِي الْخَطَأِ مَوْضُوعٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.

[بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ]

(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ) وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً وَمَعْنًى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ أَمَّا ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِيهِ صُورَةً فَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالرَّسُولِ عليه السلام لَمْ يَثْبُتْ قَطْعًا.، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مَا تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَيْ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَيْ أَوْ الِاثْنَانِ. لَا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ يَعْنِي لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ وَالِاشْتِهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ فَقُبِلَ خَبَرُ الِاثْنَيْنِ دُونَ الْوَاحِدِ. وَبَعْضُهُمْ قَبِلَ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا فَسَوَّى الشَّيْخُ بَيْنَ الْكُلِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا أَيْ لَا يُوجِبُ عِلْمَ يَقِينٍ، وَلَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ عَقْلًا مِثْلَ الْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ سَمْعًا مِثْلَ الْقَاشَانِيِّ، وَأَبِي دَاوُد وَالرَّافِضَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ سَمْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . أَيْ لَا تَتْبَعْ مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ. قَالُوا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْعِلْمَ ذُكِرَ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ أَصْلًا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ نَوْعَ عِلْمٍ، وَهُوَ عِلْمُ غَالِبِ الظَّنِّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] . فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ؛ لِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ فَهُوَ مُحَرَّمُ الِاتِّبَاعِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ عَقْلًا بِقَوْلِهِ، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَيْ مَنْ يَتَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ الرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إثْبَاتِ مَا شَرَعَهُ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ فَأَيُّ ضَرُورَةٍ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ إلَى مَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. كَيْفَ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا فِي سَفْكِ دَمٍ أَوْ اسْتِحْلَالِ بُضْعٍ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ فَنَظَرَ أَنَّ السَّفْكَ وَالْإِبَاحَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَكُونَانِ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالْجَهْلِ، وَمَنْ شَكَكْنَا فِي إبَاحَةِ بُضْعِهِ وَسَفْكِ دَمِهِ لَا يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالشَّكِّ فَيَقْبُحُ مِنْ الشَّارِعِ حَوَالَةُ الْخَلْقِ عَلَى الْجَهْلِ، وَاقْتِحَامُ الْبَاطِلِ بِالتَّوَهُّمِ بَلْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرٍ فَلْيُعَرِّفْنَا أَمْرَهُ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ إمَّا مُمْتَثِلُونَ أَوْ مُخَالِفُونَ. بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُقْبَلُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا أَيْ قَبُولَهُ فِيهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّا نَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ كُلِّ حَقٍّ لَنَا بِطَرِيقٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الِاعْتِمَادَ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْقِيَاسِ فِي

ص: 370

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعَمَلَ، وَلَا عَمَلَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْآحَادُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِثْلُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ وَلَا حَظَّ لِذَلِكَ إلَّا الْعِلْمُ قَالُوا: وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ عَلَى الْخُصُوصِ لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْوَطْءِ تَعَلَّقَ مِنْ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَدَلِيلُنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَاضِحٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] وَكُلُّ وَاحِدٍ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ حُجَّةً لَمَا أَمَرَ بِبَيَانِ الْعِلْمِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْأَحْكَامِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَقَالَ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا وَقَعَتْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ يُعْمَلُ بِهِ يُحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ ضَرُورَةً.؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُثْبِتٌ وَالْإِظْهَارُ دُونَ الْإِثْبَاتِ.

وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مِنْهُمْ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْقِيَاسَ حُجَّةً مِثْلُ النَّظَّامِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ) كَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي حَكَمَ أَهْلُ الصَّنْعَةِ بِصِحَّتِهَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا، وَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الِاسْتِدْلَالِيَّ تَمَسَّكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ لَمَا جَازَ اتِّبَاعُهُ لِنَهْيِهِ تَعَالَى عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . وَذَمِّهِ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي قَوْلِهِ جل جلاله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] . وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَيَسْتَلْزِمُ إفَادَةَ الْعِلْمِ لَا مَحَالَةَ.

وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا قَالَ إنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي وُجِدَ شَرَائِطُ صِحَّتِهِ الْعِلْمَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمَا، وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَلَاسْتَوَى الْكُلُّ فِيهِ فَقَالُوا هَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْبَعْضُ وَوُقُوعُ الِاخْتِلَافِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] الْآيَةَ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ وَالْعَهْدَ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، وَلَا يَكْتُمُوهُ عَنْهُمْ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالْبَيَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَهْيًا لَهُ عَنْ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُكَلَّفُونَ بِمَا فِي وُسْعِهِمْ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا ذَاهِبِينَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ شَرْقًا وَغَرَبَا بِالْبَيَانِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَدَاءُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْجَمْعِ الْمُضَافِ إلَى جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةٍ بِمَا هُوَ أَصْلُ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ ثُمَّ ضَرُورَةُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْإِظْهَارِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَمْرُ السَّامِعِ بِالْقَبُولِ مِنْهُ وَالْعَمَلِ بِهِ إذْ أَمْرُ الشَّرْعِ لَا يَخْلُوَا عَنْ فَائِدَةٍ حَمِيدَةٍ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ بِالْبَيَانِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ سِوَى هَذَا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ انْحِصَارَ الْفَائِدَةِ عَلَى الْقَبُولِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ الْفَائِدَةُ هِيَ الِابْتِلَاءُ فَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ إنْ امْتَثَلُوا وَالْعِقَابُ إنْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْهُمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ بِحَيْثُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يَأْثَمُ ثُمَّ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام مَأْمُورِينَ بِالتَّبْلِيغِ، وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا بِالْوَحْيِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ لِلْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ طَرَفَيْنِ طَرَفِ الْمُبَلِّغِ وَطَرَفِ السَّامِعِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ طَرَفٍ فَائِدَةٌ ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَائِدَةِ مُخْتَصٌّ بِجَانِبِ الْمُبَلِّغِ، وَلَيْسَ فِي طَرَفِ السَّامِعِ فَائِدَةٌ سِوَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ.

وَلَا يُقَالُ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ بِالْوُجُوبِ، وَمَنْ أَنْكَرَ الْوُجُوبَ أَنْكَرَ الْجَوَازَ، وَأَمَّا الْفَاسِقُ فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْبَيَانِ عَلَيْهِ

ص: 371

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام قَبُولُهُ خَبَرَ الْوَاحِدِ

ــ

[كشف الأسرار]

قَبْلَ التَّوْبَةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ ثُمَّ تَرْتِيبُ الْبَيَانِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا بَيَانُهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الْآيَةَ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِرْقَةٍ الْإِنْذَارَ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ الْمَخُوفُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ طَلَبًا لِلْحَذَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . وَالتَّرَجِّي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ اللَّازِمِ، وَهُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَذَرِ، وَالثَّلَاثَةُ فِرْقَةٌ، وَالطَّائِفَةُ مِنْهَا إمَّا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَإِذَا رَوَى الرَّاوِي مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ فِعْلٍ وَجَبَ تَرْكُهُ لِوُجُوبِ الْحَذَرِ عَلَى السَّامِعِ، وَإِذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ هَاهُنَا وَجَبَ مُطْلَقًا إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَلَا يُقَالُ الطَّائِفَةُ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ بِدَلِيلِ لُحُوقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِهَا فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ.؛ لِأَنَّا نَقُولُ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي تَفْسِيرِهَا فَقِيلَ هِيَ اسْمٌ لِعَشَرَةٍ، وَقِيلَ لِثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ لِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ لِوَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَكَذَا نُقِلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] . أَنَّهُمَا كَانَا رَجُلَيْنِ أَنْصَارِيَّيْنِ بَيْنَهُمَا مُدَافَعَةٌ فِي حَقٍّ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا إلَى النَّبِيِّ دُونَ الْآخَرِ. وَقِيلَ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام وَالْآخَرُ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ عَلَى مَا عُرِفَ عَلَى أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى أَكْثَرِ مَا قِيلَ، وَهُوَ الْعَشَرَةُ لَا يَنْتَفِي تَوَهُّمُ الْكَذِبِ عَنْ خَبَرِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُ خَبَرُهُمْ عَنْ الْآحَادِ إلَى التَّوَاتُرِ. وَلَا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ الرَّاجِعَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْذَارِ بِمَا سَمِعَهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّامِعَ مَأْمُورٌ بِالْقَبُولِ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَجِبُ الْقَبُولُ مَا لَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَتَظْهَرُ الْعَدَالَةُ بِالتَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ وُجُوبُ الْإِنْذَارِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى السَّامِعِ كَمَا بَيَّنَّا كَيْفَ، وقَوْله تَعَالَى:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ. فَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَلَيْهِ وُجُوبَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ الْمُدَّعِيَ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ بِالشَّاهِدِ بِأَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ زِنًا، وَلَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ.

وَهَذَا أَيْ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ وَسُؤَالُ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ مُنْحَصِرٌ فِي طَلَبِ الْأَخْبَارِ بِمَا سَمِعَ دُونَ الْفَتْوَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَبُولُ وَاجِبًا لَمَا كَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا.

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] . أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ الرَّسُولِ بِمَا سَمِعَهُ فَقَدْ قَامَ بِالْقِسْطِ وَشَهِدَ لِلَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ وَاجِبًا لَوْ كَانَ الْقَبُولُ وَاجِبًا، وَإِلَّا كَانَ وُجُوبُ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ جل جلاله:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] . الْآيَةَ أَوْعَدَ عَلَى كِتْمَانِ الْهُدَى فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام إظْهَارُهُ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا قَبُولُهُ لَكَانَ الْإِظْهَارُ كَعَدَمِهِ.، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ وَعَلَّلَ بِمَجِيءِ الْفَاسِقِ بِالْخَبَرِ إذْ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ

ص: 372

مِثْلُ خَبَرِ بَرِيرَةَ فِي الْهَدِيَّةِ وَخَبَرِ سَلْمَانَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَذَلِكَ لَا تُحْصَى عَدَدُهُ، وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ الْأَفْرَادَ إلَى الْآفَاقِ مِثْلَ عَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ وَعَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ وَدَحْيَةَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم، وَهَكَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى.

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُنَاسِبِ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ كَوْنُ الْخَبَرِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مَانِعًا مِنْ الْقَبُولِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّعْلِيلِ فَائِدَةٌ إذْ عِلِّيَّةُ الْوَصْفُ اللَّازِمُ تَمْنَعُ مَنْ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْعَارِضِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ الْمَيِّتُ لَا يَكْتُبُ لِعَدَمِ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ عِنْدَهُ يُسْتَقْبَحُ وَيُسَفَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ وَصْفًا لَازِمًا صَالِحًا لِعِلِّيَّةِ امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ اسْتَحَالَ تَعْلِيلُ امْتِنَاعِ الْكِتَابَةِ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ، وَهُوَ عَدَمُ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّمَسُّكَاتِ اعْتِرَاضَاتٌ مَعَ أَجْوِبَتِهَا تَرَكْنَاهَا احْتِرَازًا عَنْ الْإِطْنَابِ.

قَوْلُهُ (مِثْلُ خَبَرِ بَرِيرَةَ فِي الْهَدِيَّةِ) فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام قَبِلَ قَوْلَهَا فِي الْهَدَايَا. وَخَبَرِ سَلْمَانَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ رضي الله عنه كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ وَجَعَلَ يَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ طَالِبًا لِلْحَقِّ حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ لَعَلَّك تَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ، وَقَدْ قَرُبَ أَوَانُهَا فَعَلَيْك بِيَثْرِبَ، وَمِنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ وَبَاعَهُ مِنْ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي نَخِيلِ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا سَمِعَ بِمَقْدِمِ النَّبِيِّ عليه السلام أَتَاهُ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ فَقَالَ سَلْمَانُ فِي نَفْسِهِ هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْغَدِ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ فَقَالَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ فَقَالَ هَدِيَّةٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا فَقَالَ سَلْمَانُ هَذِهِ أُخْرَى ثُمَّ تَحَوَّلَ خَلْفَهُ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَادَهُ فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ كَتِفِهِ حَتَّى نَظَرَ سَلْمَانُ إلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَأَسْلَمَ فَقَبِلَ النَّبِيُّ عليه السلام قَوْلَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا حِينَئِذٍ.

وَذَلِكَ أَيْ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْهُ كَثِيرٌ فَإِنَّهُ قَبِلَ خَبَرَ أُمِّ سَلْمَى فِي الْهَدَايَا أَيْضًا. وَكَانَتْ الْمُلُوكُ يَهْدُونَ إلَيْهِ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ، وَكَانَ يَقْبَلُ قَوْلَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِهْدَاءَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَيْدِي قَوْمٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَكَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى خَبَرِهِ أَنِّي مَأْذُونٌ. وَقَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْهِلَالِ، وَقَبِلَ خَبَرَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ حِينَ بَعَثَهُ سَاعِيًا إلَى قَوْمٍ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا حَتَّى أَجْمَعَ النَّبِيُّ عليه السلام عَلَى غَزْوِهِمْ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الْآيَةَ، وَكَانَ يَقْبَلُ إخْبَارَ الْجَوَاسِيسِ وَالْعُيُونِ الْمَبْعُوثَةِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ.

وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَيْ قَدْ اُشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ بَعَثَ الْأَفْرَادَ إلَى الْآفَاقِ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ. فَإِنَّهُ بَعَثَ عَلِيًّا رضي الله عنه إلَى الْيَمَنِ أَمِيرًا. وَبَعْدَهُ بَعَثَ مُعَاذًا أَيْضًا إلَى الْيَمَنِ أَمِيرًا لِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَبَعَثَ دَحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إلَى قَيْصَرَ أَوْ هِرَقْلَ بِالرُّومِ. وَبَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ أَمِيرًا مُعَلِّمًا لِلشَّرَائِعِ. وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ بِكِتَابِهِ إلَى كِسْرَى. وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إلَى الْحَبَشَةِ. وَعُثْمَانَ بْنَ الْعَاصِ إلَى الطَّائِفِ. وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ بِدِمَشْقَ. وَسَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو الْعَامِرِيَّ إلَى هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ بِالْيَمَامَةِ.، وَأَنْفَذَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.

وَوَلَّى عَلَى الصَّدَقَاتِ عُمَرَ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، وَمَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ

ص: 373

وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ رضي الله عنهم عَمِلُوا بِالْآحَادِ وَحَاجُّوا بِهَا

ــ

[كشف الأسرار]

وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.

وَإِنَّمَا بَعَثَ هَؤُلَاءِ لِيَدْعُوَ إلَى دِينِهِ وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي مَوْضِعٍ مَعَ أَنَّهُ بَعَثَ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ عَدَدًا يَبْلُغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُمْ قَبُولُ قَوْلِ رَسُولِهِ وَسُعَاتِهِ وَحُكَّامِهِ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ إلَى إنْفَاذِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَخَلَتْ دَارُ هِجْرَتِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَأَنْصَارِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ، وَفَسَدَ النِّظَامُ وَالتَّدْبِيرُ وَذَلِكَ وَهْمٌ بَاطِلٌ قَطْعًا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ مِثْلَ الْمُتَوَاتِرِ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لَا يَبْقَى مَعَهُ عُذْرٌ فِي الْمُخَالَفَةِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ) عَمِلُوا بِالْآحَادِ وَحَاجُّوا بِهَا فِي وَقَائِعَ خَارِجَةٍ عَنْ الْعَدِّ وَالْحَصْرِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا مُدَافَعَةِ دَافِعٍ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إجْمَاعًا عَلَى قَبُولِهَا وَصِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا. فَمِنْهَا مَا تَوَاتَرَ أَنَّ يَوْمَ السَّقِيفَةِ لَمَّا احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى الْأَنْصَارِ بِقَوْلِهِ عليه السلام:«الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» : قَبِلُوهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِ.، وَمِنْهَا رُجُوعُهُمْ إلَى خَبَرِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ عليه السلام:«الْأَنْبِيَاءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ» .، وَقَوْلُهُ عليه السلام:«وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وَمِنْهَا رُجُوعُهُ إلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَعْطَاهَا السُّدُسَ. وَنَقْضُهُ حُكْمَهُ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَ بِلَالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام حَكَمَ فِيهَا بِخِلَافِ مَا حَكَمَ هُوَ فِيهَا. وَرُجُوعُ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ تَفْصِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الدِّيَةِ حَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ فِي الْخِنْصَرِ سِتَّةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعَةً، وَفِي الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَفِي الْإِبْهَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى خَبَرِ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ أَنَّ فِي كُلِّ إصْبُعٍ عَشَرَةً. وَعَنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا إلَى تَوْرِيثِهَا مِنْهَا بِقَوْلِ «الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» .

وَعَمَلُهُ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَعَمَلُهُ بِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ «كُنْتُ بَيْنَ حَاذَّتَيْنِ لِي يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ فَضَرَبَتْ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِغُرَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا» .

وَمِنْهَا أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَخَذَ بِرِوَايَةِ «فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ حِينَ قَالَ جِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَسْتَأْذِنُهُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِي فِي مَوْضِعِ الْعِدَّةِ فَقَالَ: اُمْكُثِي حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُكِ» . وَلَمْ يُنْكِرْ الْخُرُوجَ لِلِاسْتِفْتَاءِ فِي أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ، وَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا، وَلَا نَهَارًا إذَا وَجَدَتْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهَا.، وَمِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ مِنْ عَمَلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ فِي حُكْمِ الْمَذْيِ، وَمِنْ قَبُولِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَاسْتِظْهَارِهِ بِالْيَمِينِ حَتَّى قَالَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كُنْتُ إذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ حَلَّفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ، وَالتَّحْلِيفُ إنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهٍ وَلِئَلَّا يَقْدُمَ عَلَى الرِّوَايَةِ بِالظَّنِّ لَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ.

وَمِنْهَا رُجُوعُ الْجُمْهُورِ إلَى خَبَرِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَمِنْهَا عَمَلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهم فِي الرِّبَا فِي النَّقْدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ.، وَمِنْهَا عَمَلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِخَبَرِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ

ص: 374

قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي هَذَا غَيْرَ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَاخْتَصَرْنَا عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِوُضُوحِهَا وَاسْتِفَاضَتِهَا، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ الْوُكَلَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْمُضَارِبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَصِيرُ حُجَّةً بِصِفَةِ الصِّدْقِ، وَالْخَبَرُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ بَعْدَ أَهْلِيَّةِ الْأَخْبَارِ يَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ وَبِالْفِسْقِ الْكَذِبُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ لِيَصِيرَ حُجَّةً لِلْعَمَلِ وَيُعْتَبَرُ احْتِمَالُ السَّهْوِ وَالْكَذِبِ لِسُقُوطِ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْيَقِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ صَحِيحٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَعَمَلَ الْحُكَّامِ بِالْبَيِّنَاتِ صَحِيحٌ بِلَا يَقِينٍ فَكَذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ الْعَدْلِ يُفِيدُ عِلْمًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَذَلِكَ كَافٍ لِلْعَمَلِ، وَهَذَا ضَرْبُ عِلْمٍ فِيهِ اضْطِرَابٌ فَكَانَ دُونَ عِلْمِ الطُّمَأْنِينَةِ.

وَأَمَّا دَعْوَى عِلْمِ الْيَقِينِ بِهِ فَبَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ

ــ

[كشف الأسرار]

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا إذْ أَتَانَا آتٍ، وَقَالَ الْخَمْرُ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْتُ إلَى مُهْرٍ لَيْسَ لَنَا فَضَرَبْتُهَا إلَى أَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ. وَمِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ قُبَاءَ فِي التَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ حَيْثُ أَخْبَرَهُمْ وَاحِدٌ أَنَّ الْقِبْلَةَ نُسِخَتْ.

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَمْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَانْتَهَيْنَا. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ التَّابِعِينَ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَّارٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَّارٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَفُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ، وَفُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَتَابِعِيهِمْ كَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ. وَعَلَيْهِ جَرَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ لَكِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فَيَدُورُ.، وَلَئِنْ قَالَ الْخُصُومُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِهَا بَلْ لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا بِغَيْرِهَا مِنْ نُصُوصٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ أَخْبَارِ آحَادٍ مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْمَقَايِيسِ، وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنْ سِيَاقِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَلِمُوا بِهَا عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِرَأْيِنَا وَحَيْثُ قَالَ ابْنُهُ حَتَّى رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ إلَى آخِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ قَبُولِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُعَارَضٌ بِإِنْكَارِهِمْ إيَّاهُ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ. فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْكَرَ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى انْضَمَّ إلَيْهِ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَأَنْكَرَ عُمَرُ رضي الله عنه خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي السُّكْنَى.، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَرَدَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ قُلْنَا إنَّهُمْ إنَّمَا أَنْكَرُوا لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ لَا لِعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ رَدَّهُمْ بَعْضَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَتَرْكَهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَرَدَّ الْقَاضِي بَعْضَ الشَّهَادَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ.

قَوْلُهُ (قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا) أَيْ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرَ حَدِيثٍ أَيْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَهَا فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ. وَاخْتَصَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَيْ اكْتَفَيْنَا بِإِيرَادِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ وَتَبْلِيغِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهَا لِوُضُوحِهَا. أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ تَذْكُرْ مَا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ لِشُهْرَتِهَا. وَلَفْظُ التَّقْوِيمِ وَنَحْنُ سَكَتْنَا عَنْهَا اخْتِصَارًا وَاكْتِفَاءً بِمَا فَعَلَ النَّاسُ قَوْلُهُ (وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى) كَذَا أَيْ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْقَبُولِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا بُنِيَتْ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَهْدَى إلَيْكَ فُلَانٌ

ص: 375

لِأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَهَذَا أَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمَلٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ سَفَّهُ نَفْسَهُ، وَأَضَلَّ عَقْلَهُ.

وَإِذَا اجْتَمَعَ الْآحَادُ حَتَّى تَوَاتَرَتْ حَدَثَ حَقِّيَّةَ الْخَبَرِ وَلُزُومُ الصِّدْقِ بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ مِثْلُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ إذَا ازْدَحَمَتْ الْآرَاءُ سَقَطَتْ الشُّبْهَةُ فَأَمَّا الْآحَادُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ دُونَهُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْعَمَلِ أَيْضًا، وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَأَنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي بِبَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ بَيْعِ هَذَا الشَّيْءِ.

وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي إبَاحَةِ دَمٍ، وَإِقَامَةِ حَدٍّ وَاسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ. وَعَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّسُولِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا جَازَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ ثَابِتٌ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الْمُعَامَلَاتِ قَدْ يُقْبَلُ خَبَرُ مَنْ يَسْكُنُ الْقَلْبُ إلَى صِدْقِهِ مِنْ صَبِيٍّ، وَفَاسِقٍ بَلْ كَافِرٍ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ هَؤُلَاءِ فِي أَخْبَارِ الدِّينِ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَذَا الْفَصْلِ مَعَ وُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. قُلْنَا مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اسْتِعْمَالُ قَوْلِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ الْغَلَطُ عَلَيْهِ وَوُقُوعُ الْكَذِبِ مِنْهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُتَسَاهَلُ فِيهِ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ دُونَ مَا عَدَاهُ.

وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَخْبَارِ الدِّينِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَخْبَارِ لِتَحَقُّقِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَلَوْ رُدَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِشُبْهَةٍ فِي النَّقْلِ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ فَأَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْقِيَاسِ وَالشَّهَادَةِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْمَنْعُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ مُطْلَقًا بَلْ الْمُرَادُ الْمَنْعُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فِيمَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فُرُوعِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . مَنْعُ الشَّاهِدِ عَنْ جَزْمِ الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَا يَتَحَقَّقُ. عَلَى أَنَّا مَا اتَّبَعْنَا الظَّنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ) أَرَادَ بِهِ أَنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا عَدَمَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمَا نَجِدُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لَا نُصَدِّقُ بِكُلِّ مَا نَسْمَعُ، وَلَوْ صَدَّقْنَاهُ لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُ بِالضِّدَّيْنِ. قَالَ، وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُورِثُ الْعِلْمَ لَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ إذْ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْجَبَهُ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ أَوْ سَمَّوْا الظَّنَّ عِلْمًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ.

قَوْلُهُ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الْآحَادُ حَتَّى تَوَاتَرَتْ) إلَى آخِرِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا ذُكِرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كَلَامِ الْخُصُومِ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْيَقِينُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُتَمَسَّكُ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِثُبُوتِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَمَّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا اجْتِمَاعُ الْآحَادِ لَزِمَ أَنْ يُوجِبَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلِاجْتِمَاعِ فِي تَغْيِيرِ ذَوَاتِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّ الْغَنَمَ الْمُجْتَمِعَةَ لَا تَصِيرُ بَقَرًا، وَإِبِلًا بِالِاجْتِمَاعِ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ بِاجْتِمَاعِ الْأَفْرَادِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْأَفْرَادِ بِدُونِ الِاجْتِمَاعِ فَإِنَّ بِاجْتِمَاعِ الطَّاقَاتِ فِي الْحَبْلِ يَحْدُثُ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي طَاقَةٍ أَوْ طَاقَتَيْنِ، وَبِاجْتِمَاعِ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي إفْرَادِهَا، وَبِاجْتِمَاعِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا، وَلَا يُوجَدُ الْإِعْجَازُ فِي آحَادِهَا.

وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْقَاضِي مَا لَا يَجِبُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. وَيَثْبُتُ بِغُسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ

ص: 376