الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَبْعَدُهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ
لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا مَعَ ذَلِكَ
ــ
[كشف الأسرار]
الْحَلَالِ إلَى وَقْتِ التَّكْفِيرِ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُهُ الْمَنْعَ وَبَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ يَثْبُتُ الْمَنْعُ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ فَيَبْقَى الظِّهَارُ إلَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ الظِّهَارِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مُتَصَوَّرًا لِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَفِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَعِلْمُهُ فِي إبْطَالِ الْحِلِّ وَقَطْعِ الْمِلْكِ وَبَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ فَاتَ مَحَلُّ الْحُكْمِ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَأَمَّا الْإِيلَاءُ الْمُعَلَّقُ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُحَلَّلَةً فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَبْطُلُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْإِيلَاءُ الْمُنَجَّزُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَقَدْ عُلِّقَ طَلَاقُهَا بِالشَّرْطِ فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تَبْطُلُ وَقَدْ بَطَلَ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ وَبِأَنَّ الْأَمَةَ إذَا اُسْتُوْلِدَتْ حَتَّى تَعَلَّقَ عِتْقُهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَسُبِيَتْ وَعَادَتْ إلَى الْمَوْلَى اسْتَحَقَّتْ الْعِتْقَ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ حَتَّى بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهَا وَلَوْ ارْتَدَّا جَمِيعًا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا وَلَمَّا بَقِيَتْ الْمَحَلِّيَّةُ بَقِيَتْ الْيَمِينُ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعِتْقَ حِينَ وَقَعَ بَطَلَ التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ وَبِالْمِلْكِ ثَانِيًا لَا يَعُودُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ عِتْقٌ آخَرُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ لَهُ وَهُوَ قِيَامُ نَسَبِ الْوَلَدِ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنْ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ الْآنَ لِقِيَامِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ وَمَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ إلَى آخِرِهِ إنَّمَا ذُكِرَ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا لَمَّا عَجَزُوا عَنْ الْجَوَابِ حِينَ أُورِدَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَقْضًا أَنْكَرُوا صِحَّةَ التَّعْلِيقِ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا وَجْهَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَفِي إيمَانِ الْجَامِعِ نُصَّ فِي نَظِيرِهِ أَيْ نَظِيرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ لِحُرَّةٍ إنْ ارْتَدَدْتِ فَسُبِيَتْ فَمَلَكْتُكِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ فَمَلَكَهَا عَتَقَتْ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ: قَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله: إنَّ إيجَابَ التَّحْرِيرِ بِالْيَمِينِ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَدْ صَحَّ اسْتِئْنَافُهُ هَاهُنَا عِنْدَ عَدَمِهِ وَهَذَا نَصٌّ قَدْ ذَكَرْنَا نَظِيرَهُ قَبْلَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ إذَا عَلَّقَهُ بِالنِّكَاحِ وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْضَحُ نَصٍّ فِي هَذَا كَذَا فِي أَيْمَانِ الْجَامِعِ فِي بَابِ الْحِنْثِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ.
[مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ]
قَوْلُهُ (وَأَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) إلَى آخِرِهِ يَعْنِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَبْعَدُ مِنْ الصَّوَابِ مِنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي سَبَقَ تَقْرِيرُهَا لِأَنَّ فِيهِ إضَافَةَ النَّفْيِ إلَى النَّصِّ الْمُوجِبِ وَإِبْطَالَ الْإِطْلَاقِ بِمَا هُوَ سَاكِتٌ فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَفِيمَا سَبَقَ الْخَطَأُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إضَافَةُ النَّفْيِ إلَى الْمُوجِبِ فَلِهَذَا كَانَ أَبْعَدَ مِنْ الصَّوَابِ وَالْمُطْلَقُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُعْتَرِضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ وَالْمُقَيَّدُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَدْلُولِ الْمُطْلَقِ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ وَقِيلَ: الْمُطْلَقُ لَفْظٌ دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ مِثْلُ رَجُلٍ وَرَقَبَةٍ فَيَخْرُجُ عَنْ التَّعْرِيفِ الْمَعَارِفُ لِكَوْنِهَا غَيْرَ شَائِعَةٍ لِتَعَيُّنِهَا بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّ أَنْتَ مَثَلًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُعَيَّنٌ بِخِلَافِ رَجُلٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُعَيَّنٌ وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَيْضًا النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالنَّكِرَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مِثْلُ كُلِّ رَجُلٍ وَنَحْوِهِ لِاسْتِغْرَاقِهَا إذْ الْمُسْتَغْرَقُ لَا يَكُونُ شَائِعًا فِي جِنْسِهِ وَالْمُقَيَّدُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَدْلُولٍ مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ وَهَذَا
وَالْمُطْلَقُ سَاكِتٌ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ فَكَانَ أَوْلَى كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ»
ــ
[كشف الأسرار]
الرَّجُلِ وَأَنْتَ وَذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ مَاهِيَّةٌ وَحَقِيقَةٌ وَكُلَّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عَيْنَ الْمَفْهُومِ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ كَانَ مُغَايِرًا لَهَا سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا لَهَا أَوْ مُفَارِقًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ فَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الْإِنْسَانَ وَاحِدًا أَوْ لَا وَاحِدًا فَهُمَا قَيْدَانِ مُغَايِرَانِ لِكَوْنِهِ إنْسَانًا وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ إنْسَانًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُطْلَقُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ سَهْوٌ لِأَنَّ الْوَحْدَةَ وَعَدَمَ التَّعَيُّنِ قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ.
ثُمَّ وُرُودُ الْمُطْلَقِ مَعَ الْمُقَيَّدِ عَلَى وُجُوهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُمَا فِي سَبَبِ حُكْمٍ فِي حَادِثَةٍ أَوْ شَرْطِهِ مِثْلُ نَصِّي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي أَوْ فِي حُكْمِ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ إثْبَاتًا كَمَا لَوْ قِيلَ فِي الظِّهَارِ أَعْتَقَ رَقَبَةً ثُمَّ قِيلَ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَوْ نَفْيًا كَمَا لَوْ قِيلَ لَا تَعْتِقْ مُدَبَّرًا لَا تَعْتِقْ مُدَبَّرًا كَافِرًا وَفِي حُكْمَيْنِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلُ تَقَيُّدِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَإِطْلَاقُ إطْعَامِهِ عَنْ ذَلِكَ. أَوْ فِي حُكْمَيْنِ فِي حَادِثَتَيْنِ كَتَقْيِيدِ الصِّيَامِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَإِطْلَاقِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوْ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَتَيْنِ كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَتَقْيِيدِهَا بِالْأَيْمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ وَاتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَمْلَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَالْخَامِسِ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْحَمْلَ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجَمِيعِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْحَمْلُ وَاجِبٌ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قِيَاسٍ وَنَحْوِهِ وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا لَا حَمْلَ فِيهِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ عَلَى أَنْ لَا يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيهِ وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْحَمْلُ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قِيَاسٍ وَدَلِيلٍ وَجَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْهُمْ: إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ مُسْتَجْمِعٍ لِشَرَائِطِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ.
هَذَا حَاصِلُ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اسْتِبْعَادِ الشَّيْخِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ مَا إذَا كَانَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا دُونَ الْحُكْمِ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِيهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْحَمْلَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي السَّبَبِ وَالشَّرْطِ أَوْ فِي الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً كَانَ الْإِطْلَاقُ وَالْقَيْدُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إذَا لَمْ يَكُونَا فِي حُكْمَيْنِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا لِلتَّنَافِي فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا وَيُبْنَى الْآخَرُ عَلَيْهِ وَالْمُطْلَقُ سَاكِتٌ عَنْ الْقَيْدِ أَيْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَنْفِيهِ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ بِهِ أَيْ يُوجِبُ الْجَوَازَ عِنْدَ وُجُودِهِ وَيَنْفِيهِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِأَنْ
وَكَمَا قِيلَ فِي نُصُوصِ الْعَدَالَةِ وَإِذَا كَانَا فِي حَادِثَتَيْنِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ قَيْدَ الْإِيمَانِ زِيَادَةُ وَصْفٍ يَجْرِي مَجْرَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَيُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِهِ فِي الْمَنْصُوصِ وَفِي نَظِيرِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصَّوْمِ فِي الْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالطَّعَامُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ إعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَوَظَائِفُ الطِّهَارَاتِ وَأَرْكَانُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ ثَابِتٌ بِاسْمِ الْعِلْمِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ إلَّا الْوُجُودَ
ــ
[كشف الأسرار]
يُجْعَلَ أَصْلًا وَيُبْنَى الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ مُحْتَمَلٌ وَالْمُقَيَّدَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْكَمِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْمُقَيَّدُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لَا نَسْخًا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ مُقَيَّدًا بِهِمَا كَمَا قِيلَ فِي نُصُوصِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ عَنْ السَّوْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِصِفَةِ السَّوْمِ بِالِاتِّفَاقِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» .
وَكَمَا قِيلَ فِي نُصُوصِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُطْلَقَةَ عَنْ صِفَةِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَوْلِهِ عليه السلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» مَحْمُولَةٌ عَلَى النُّصُوصِ الْمُقَيَّدَةِ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَوْلِهِ عليه السلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَحَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِذَا كَانَا أَيْ الْإِطْلَاقُ وَالْقَيْدُ فِي حَادِثَتَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِيهَا مُقَيَّدَةٌ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِيهَا مُطْلَقَةٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا أَيْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ أَيْضًا لَكِنْ بِقِيَاسٍ صَحِيحٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَبِدُونِهِ عِنْدَ آخَرِينَ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْحَمْلَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قِيَاسٍ بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَتْرُكُونَ التَّقْيِيدَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِي مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] أَيْ وَالْحَافِظَاتِهَا وَالذَّاكِرَاتِهِ كَثِيرًا وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا
…
عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ
أَيْ نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا رَاضُونَ وَبِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فِي وُجُوبِ بِنَاءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا نَصَّ عَلَى الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَزِمَ فِي الظِّهَارِ كَانَ الْقَيْدُ مُتَّصِلًا بِهِ أَيْضًا وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُ مَانِعٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ إلَى التَّقْيِيدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَدَلِيلٍ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَالتَّشَهِّي كَمَا لَا يَجُوزُ عَكْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحَدِهِمَا الْإِطْلَاقَ وَفِي الْآخَرِ التَّقْيِيدَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ فِي أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا اخْتِلَافَ فَأَمَّا فِي دَلَالَةِ عِبَارَاتِهِ عَلَى الْمَعْنَى فَلَا لِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ وَدَلَالَاتُهَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ دَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَثُبُوتُ الْقَيْدِ فِي الْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرَاتِ وَالشِّعْرِ لِلْعَطْفِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ فَبَنَى كَلَامَهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَإِنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَمَا يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَمَّا كَانَ النَّفْيُ حُكْمَ النَّصِّ الْمُقَيَّدِ كَالْإِثْبَاتِ يَتَعَدَّى إلَى نَظِيرِهِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ كَمَا إذَا كَانَ النَّفْيُ مَنْصُوصًا وَكَمَا يَتَعَدَّى الْإِثْبَاتُ وَالرَّقَبَةُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فَأَوْجَبَ عَدَمَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَيَتَعَدَّى هَذَا الْحُكْمُ إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ كَمَا تَعَدَّى تَقْيِيدُ الْأَيْدِي بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ إلَى نَظِيرِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا يُقَالُ هَذَا تَعْدِيَةٌ إلَى مَا فِيهِ نَصٌّ بِالْإِبْطَالِ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُطْلَقَ سَاكِتٌ عَنْ الْقَيْدِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ
وَعِنْدَنَا لَا يُحْمَلُ مُطْلَقٌ عَلَى مُقَيَّدٍ أَبَدًا
ــ
[كشف الأسرار]
لَهُ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَصَارَ الْمَحَلُّ فِي حَقِّ الْوَصْفِ خَالِيًا عَنْ النَّصِّ فَيَجُوزُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْوَصْفِ إلَيْهِ بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ نَاطِقٌ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ وَبِدُونِهِ إبْطَالُ الْقَيْدِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ.
ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصَّوْمِ فِي الْقَتْلِ يَعْنِي صَوْمُ الْقَتْلِ زَائِدٌ عَلَى صَوْمِ الْيَمِينِ ثُمَّ لَمْ يُثْبِتْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ حَمْلًا لِهَذَا الصَّوْمِ الْمُطْلَقِ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الصَّوْمِ الْمُقَيَّدِ بِهَا بِالْقِيَاسِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَانِثِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَكَذَا الطَّعَامُ الثَّابِتُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَثْبُت فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ حَمْلًا لَهَا عَلَى الْيَمِينِ بِالْقِيَاسِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَخَصَّ الشَّيْخُ طَعَامَ الْيَمِينِ لِأَنَّ طَعَامَ الظِّهَارِ ثَابِتٌ فِي الْقَتْلِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الظِّهَارِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ وَالْمُطْلَقَ فِي حَادِثَتَيْنِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَكَذَلِكَ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ يَعْنِي لَمْ نُثْبِتْ زِيَادَةَ الرَّكَعَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِهَا بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ صَلَاةُ وَظَائِفِ الطِّهَارَاتِ يَعْنِي وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَوَظِيفَةُ الْغُسْلِ تَطْهِيرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ ثُمَّ لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْغُسْلِ فِي الْوُضُوءِ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ طَهَارَةٌ حَتَّى لَمْ يَجِبْ غُسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ.
وَكَذَا لَمْ يَثْبُتْ الزِّيَادَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّيَمُّمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالْقَدَمَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْوُضُوءِ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَأَرْكَانُهَا يَعْنِي الْوُضُوءَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالْغُسْلُ زَائِدٌ عَلَى الْمَسْحِ لِأَنَّهُ إسَالَةٌ وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَبِالْمَسْحِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ غَسْلُ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى الرُّكْنِيَّةِ فِي الْوُضُوءِ.
وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْحُدُودِ فَإِنْ جَلْدَ الْمِائَةِ الثَّابِتِ فِي الزِّنَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقَذْفِ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ وَكَاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ ثَابِتٌ بِاسْمِ الْعَلَمِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ إلَّا الْوُجُودَ يَعْنِي التَّفَاوُتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ثَابِتٌ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ وَهُوَ اسْمُ الشَّهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَاسْمُ الرَّكْعَتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ وَاسْمُ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالتَّنْصِيصُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَدَمُ بِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ قَوْلُهُ (وَعِنْدَنَا لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَبَدًا) يَعْنِي لَا فِي حَادِثَتَيْنِ وَلَا فِي حَادِثَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ وَلَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا تَوَهَّمَ الْبَعْضُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْيُ الْحَمْلِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ فَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا فِي الْمُطْلَقِ أَنَّهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ فِي الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ.
وَذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّك لَا تَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ قُلْنَا: نَعَمْ إذَا كَانَا غَيْرَيْنِ حُكْمَيْنِ أَوْ شَرْطَيْنِ أَوْ عِلَّتَيْنِ فَأَمَّا الْوَاحِدُ إذَا ثَبَتَ بِوَصْفٍ فَدُونَهُ لَا يَكُونُ ثَابِتًا لَا مَحَالَةَ ضَرُورَةً وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله فِي شَرْحِ كِتَابِ الصَّوْمِ إنَّمَا لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فَنَبَّهَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ وَاجِبٌ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا إذَا وُجِدَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي سَبَبِ الْحُكْمِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَوْ فِي نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ الْإِعْتَاقُ وَالصَّوْمُ فِيهَا مُقَيَّدَيْنِ بِالْقَبْلِيَّةِ عَلَى الْمَسِيسِ وَالْإِطْعَامِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَأَمَّا إذَا وَرَدَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي حَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: صُمْ شَهْرَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله فِي شَرْحِ كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي أَثْنَاءِ مَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُمَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهَاهُنَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ كَفَّارَةً وَبَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفَرُّقِ مُنَافَاةٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ أَنْ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا
1 -
وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ وَاخْتَلَفَ عِنْدَنَا يَعْنِي فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ بَعْضُهُمْ بِحَمْلٍ إذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا وَالْحَادِثَةُ وَاحِدَةً فَأَمَّا فِي حَادِثَتَيْنِ فَلَا يُحْمَلُ وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَادِثَةُ وَاحِدَةً أَوْ لَا إلَّا إذَا كَانَ حُكْمًا وَاحِدًا وَالسَّبَبُ وَاحِدًا وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ فِي تَفْسِيرٍ قَوْله تَعَالَى
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] أَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً وَوَرَدَ فِيهَا نَصَّانِ مُقَيَّدٌ وَمُطْلَقٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَتَى أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِوَصْفٍ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُقَيَّدُ وَأَمَّا إذَا كَانَا مِنْ بَابِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلَكِنْ يُعْمَلُ بِهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي وَرَأَيْت فِي التَّلْخِيصِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إذَا أُطْلِقَ الْحُكْمُ ثُمَّ وَرَدَ بِعَيْنِهِ مُقَيَّدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِتَقْيِيدِهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ زِيَادَةٌ لَا يُفِيدُهَا الْإِطْلَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وقَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] .
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ نُسَخِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْقَوَاطِعِ وَالْمُسْتَصْفَى وَالْمَحْصُولِ وَغَيْرِهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ حَادِثَةً وَاحِدَةً وَاجِبٌ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَبَدًا مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الْآيَةُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَالْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا وَهُمَا قَوْلُهُ {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] صِفَةٌ لِأَشْيَاءَ.
وَالْمَعْنَى لَا تُكْثِرُوا مَسْأَلَةَ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ عَلَيْكُمْ إنْ أَفْتَاكُمْ بِهَا وَكَلَّفَهَا إيَّاكُمْ تَغُمَّكُمْ وَتَشُقُّ عَلَيْكُمْ فَتَنْدَمُوا عَنْ السُّؤَالِ عَنْهَا وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الصَّعْبَةِ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَهُوَ مَا دَامَ الرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يُوحَى إلَيْهِ تُبْدَ لَكُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفُ الَّتِي تَسُؤْكُمْ وَتُؤْمَرُوا بِتَحَمُّلِهَا فَتُعَرِّضُونَ أَنْفُسَكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ بِالتَّفْرِيطِ فِيهَا وَقَالَ إمَامُ الْهُدَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَهْيًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ إلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِيضَاحِ فَنُهُوا عَنْهُ حَتَّى تَمَسَّ الْحَاجَةُ إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ فَقَدْ أُطْلِقَ لَهُمْ السُّؤَالُ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَلِأَنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَجُزْ الْمُطْلَقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَا لِأَنَّ النَّصَّ نَفَاهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْإِثْبَاتَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا صِيغَةً وَلَا دَلَالَةً وَلَا اقْتِضَاءً فَيَصِيرُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ وَمَا قُلْنَا عَمَلٌ بِمُقْتَضَى كُلِّ نَصٍّ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْمُطْلِقِ مَعْنَى مُتَعَيِّنٌ مَعْلُومٌ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ مِثْلُ التَّقْيِيدِ فَتَرْكُ الدَّلِيلِ إلَى غَيْرِ الدَّلِيلِ بَاطِلٌ مُسْتَحِيلٌ
ــ
[كشف الأسرار]
لِقَوْلِهِ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا الْآيَةُ فَجَعَلَ الثَّانِيَةَ مُسْتَأْنَفَةً لَا صِفَةً لِأَشْيَاءَ ثُمَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُطْلَقِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَالسُّؤَالَ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَنْهِيٌّ بِهَذَا النَّصِّ فَكَانَ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَاجِبًا فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمُقَيَّدِ لِنَعْرِفَ حُكْمَ الْمُطْلَقِ إقْدَامٌ عَلَى هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْإِبْهَامِ فِيمَا أَبْهَمَ اللَّهُ كَمَا أَنَّ فِي السُّؤَالِ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ عَمَّا هُوَ مُفَسَّرٌ أَوْ مُحْكَمٌ فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ مُمْكِنٌ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ نَوْعِ إبْهَامٍ إذْ السُّؤَالُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَعَمُّقًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه السلام «اُتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ أَيْ أَطْلِقُوا مَا أَطْلَقَ اللَّهُ وَلَا تُقَيِّدُوا الْحُرْمَةَ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ بِالدُّخُولِ بِالْبَنَاتِ يُقَالُ فَرَسٌ بَهِيمٌ إذَا كَانَ مُطْلَقَ اللَّوْنِ أَيْ لَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ تَقْيِيدِ حُرْمَةِ الرَّبَائِبِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ وَهُوَ أَيْ الْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لِوُرُودِهَا مُطَلَّقَةً فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أُمُّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَبْهِمُوهَا أَيْ حَالَ تَحْرِيمِهَا عَنْ قَيْدِ الدُّخُولِ الثَّابِتِ فِي الرَّبِيبَةِ فَأَطْلِقُوهَا وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ مَنْ بَعْدِهِمْ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ بِالْبِنْتِ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الْأُمِّ فَذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْخَبَرِ وَلِأَنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَيْدِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِفَوَاتِهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بَلْ الْمُقَيَّدُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ بِالنَّفْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ.
وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْمُقَيَّدِ لَا لِأَنَّ النَّصَّ أَيْ الْمُقَيَّدَ نَفَاهُ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ الْكَافِرَةَ إنَّمَا لَمْ تَجُزْ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ كَفَّارَةً كَمَا لَمْ يَجُزْ تَحْرِيمُ النِّصْفِ وَذَبْحُ الشَّاةِ لَا لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ نَفْيُ جَوَازِهِ أَوْ الْكَفَّارَةُ فِي نَفْسِهَا وَقَدْرِهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا شَرْعًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الشَّرْعِ لِانْعِدَامِ كَفَّارَةٍ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ صِيغَةً يَعْنِي عِبَارَةً وَإِشَارَةً وَلَا دَلَالَةَ لِأَنَّ النَّفْيَ ضِدُّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ ضِدُّ مُوجَبِ النَّصِّ وَلَا اقْتِضَاءً لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ بِوَصْفٍ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّفْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ لَا يَخْتَلُّ الْكَلَامُ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا فَيَصِيرُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مُوجِبٌ لِلنَّفْيِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَوْ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ مُقْتَصِرٌ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعَةِ فَمَا وَرَاءَهُ يَكُونُ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ بِمُقْتَضَى كُلِّ نَصٍّ أَيْ بِمُوجِبِهِ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْمُطْلَقِ مَعْنًى مُتَعَيِّنٌ مَعْلُومٌ أَيْ الْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ نَفْيٌ لِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُطْلَقُ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ لِاحْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ تَرَجُّحٍ لِلْبَعْضِ فَكَانَ كَالْمُشْتَرَكِ الَّذِي انْسَدَّ فِيهِ بَابُ التَّرْجِيحِ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لَا بِالْبَيَانِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِإِطْلَاقِهَا إلَّا بَعْدَ
وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ فَلَا يَكُونُ الْقَيْدُ مُعَرَّفًا لِيُجْعَلَ شَرْطًا وَلِأَنَّا قُلْنَا: إنَّ الشَّرْطَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَأَمَّا الْعَدَمُ فَلَيْسَ بِشَرْعٍ وَلِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا لَهُ النَّفْيَ ثَابِتًا بِهَذَا الْقَيْدِ لَمْ يَسْتَقِمْ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا صَحَّتْ الْمُمَاثَلَةُ وَقَدْ جَاءَتْ الْمُفَارَقَةُ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْقَتْلُ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ وَفِي الْحُكْمِ صُورَةٌ وَمَعْنًى حَتَّى وَجَبَ فِي الْيَمِينِ التَّخْيِيرُ وَدَخَلَ الطَّعَامُ فِي الْإِظْهَارِ دُونَ الْقَتْلِ فَبَطَل الِاسْتِدْلَال
ــ
[كشف الأسرار]
الْبَيَانِ وَارْتِفَاعِ الِاشْتِبَاهِ فَقَالَ: الْإِطْلَاقُ مَعْنًى مَعْلُومٌ وَلَهُ حُكْمٌ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ الْمُقَيَّدُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ الْإِطْلَاقُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَى غَيْرِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَفْهُومِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ التَّقْيِيدِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَوْلُهُ وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْقَيْدُ جَارٍ مَجْرَى الشَّرْطِ فَيُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ الْعَدَمِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي إيجَابِ النَّفْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ هُوَ الشَّرْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله ثُمَّ إنَّهُ أَلْحَقَ الْوَصْفَ بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَعَلَهُ نَافِيًا لِلْحُكْمِ عِنْدَ الْعَدَمِ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَالشَّيْخُ رحمه الله مَنَعَ أَوَّلًا كَوْنَ الْقَيْدِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْقَيْدَ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] لَيْسَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُعَرَّفَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَيْنَا فَلَا يَكُونُ الْقَيْدُ مُعَرَّفًا لِيُجْعَلَ شَرْطًا إذْ الْقَيْدُ إنَّمَا جُعِلَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ إذَا كَانَ مَا قُيِّدَ بِهِ مُنْكَرًا لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعَرَّفًا كَقَوْلِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ الْقَيْدُ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ بَلْ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَيْدَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِثْلُ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي مَسْأَلَتِنَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّا قُلْنَا يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ نَفْيًا أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً يَعْنِي الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا عَدَمُ شَيْءٍ يَتَحَقَّقُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَرْعٍ لِتَحَقُّقِهِ قَبْلَ الشَّرْعِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدَمُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يُمْكِنْ تَعْدِيَتِهِ إلَى الْغَيْرِ وَلِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ النَّفْيَ فِي مَحَلِّهِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ لَا نُسَلِّمُ لَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّفْيُ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ اسْتِدْلَالًا بِهِ إذَا ثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بَلْ الْمُفَارَقَةُ تَثْبُتُ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا الْمُفَارَقَةُ فِي السَّبَبِ صُورَةً فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْيَمِينَ غَيْرُ الْقَتْلِ صُورَةً.
وَكَذَا مَعْنًى لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ كَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَلَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْقَتْلُ خَطَأً أَعْظَمُ جِنَايَةً مِنْ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ الْكَفَّارَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ بِالْعَمْدِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْخَطَأِ وَبِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُودَةِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ أَعْظَمُ مِنْ الْغَمُوسِ وَلَمَّا ثَبَتَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا تَثْبُتُ بَيْنَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ أَيْضًا.
وَأَمَّا الْمُفَارَقَةُ فِي الْحُكْمِ صُورَةً فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمُ عَلَى التَّرْتِيبِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِمَا وَحُكْمُ الظِّهَارِ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمُ وَالْإِطْعَامُ وَهَذَا مُفَارِقٌ لِلْأَوَّلِ وَكَذَا حُكْمُ الْيَمِينِ وُجُوبُ الْبِرِّ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ مُفَارِقٌ لِحُكْمِ الْقَتْلِ أَيْضًا وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ ضَرْبَ تَيْسِيرٍ فَإِنَّ لِلطَّعَامِ مَدْخَلًا فِي الظِّهَارِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالتَّخْيِيرُ ثَابِتٌ فِي الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَمِينِ مَعَ النَّقْلِ إلَى صَوْمِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّيْسِيرِ فِي الْقَتْلِ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَهُمَا
فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُعَدِّي الْقَيْدَ الزَّائِدَ ثُمَّ النَّفْيُ يَثْبُتُ بِهِ قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّقْيِيدَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّحْرِيمِ بِالْكَافِرَةِ لِمَا قُلْنَا لَكِنْ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ وَقَدْ شُرِعَ فِي الْمُطْلَقِ لَمَّا أُطْلِقَ
ــ
[كشف الأسرار]
لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ وَذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَلَا قِيَاسَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى إثْبَاتِ قَدْرِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْوَصْفَ زِيَادَةٌ مَعْنًى كَالْقَدْرِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ زِيَادَةِ الْقَدْرِ بِالْقِيَاسِ كَذَلِكَ الْوَصْفُ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَصَارَتْ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ مِقْدَارًا عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَإِنْ اتَّفَقَتْ اسْمًا فَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ حُكْمًا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ مِنْ يَمِينٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ وَإِفْطَارٍ وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ جِنْسُهُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ بِهَا سَوَاءً فَلَمْ يَجُزْ رَدُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ كَمَا لَمْ يُرَدَّ إلَى الْكَفَّارَةِ النَّذْرُ.
فَالْمَقَايِيسُ بَاطِلَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا وَالِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْوَجْهِ الْخَاصِّ وَهُوَ أَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ حُكْمًا وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِطْعَامِ وَقَدْرُ الصِّيَامِ عَلَى أَنَّ بَابَ الْقَتْلِ مُغَلِّظٌ قَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَفِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَهَذَا مُخَفَّفٌ وَلَمْ يَجُزْ قِيَاسُ مَا خُفِّفَ فِيهِ عَلَى مَا غُلِّظَ لِإِثْبَاتِ التَّغْلِيظِ وَلَوْ احْتَمَلَ الْقِيَاسُ لَكَانَ الْيَدُ لَنَا لِأَنَّ التَّحْرِيرَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنْ الْقَتْلِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِهِ وَكَانَ أَخْذُ حُكْمِ الْيَمِينِ مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَقَالَ: هَذَا إنْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَعِنْدَنَا لَا يُحْمَلُ بَلْ كُلٌّ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ قَوْلُهُ (فَإِنْ قَالَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْعَدَمُ فَلَيْسَ بِشَرْعٍ يَعْنِي لَوْ قَالَ: أَنَا لَا أُعَدِّي الْعَدَمَ الَّذِي زَعَمْت أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ أُعَدِّي الْقَيْدَ الزَّائِدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَهُوَ قَيْدُ الْإِيمَانِ ثُمَّ النَّفْيُ يَثْبُتُ بِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُقَالُ لَهُ إنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذِهِ التَّعَدِّيَةِ وَثُبُوتِ الْقَيْدِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ تَحْرِيرِ الْكَافِرَةِ هَاهُنَا أَيْضًا لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَعْنِي كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ مَنْعِ الْقَيْدِ عَنْ الْجَوَازِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلنَّفْيِ لَكِنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِعَدَمِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَاهُنَا الشَّرْعِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِدَلَالَةِ وُرُودِ الْمُطْلَقِ فَكَانَ الْجَوَازُ ثَابِتًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا نَصٌّ مُقَيَّدٌ فَيَثْبُتُ مُوجِبُهُ وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ وَهَاهُنَا بَعْدَ التَّعْدِيَةِ يَجْتَمِعُ نَصَّانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ تَقْدِيرًا لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْقَيْدِ إنْ سُلِّمَتْ لَا تَصْلُحُ لِإِبْطَالِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِلنَّصِّ بِوَجْهٍ فَصَارَ بَعْدَ التَّعْدِيَةِ كَأَنَّهُ اجْتَمَعَ مِنْهُ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ فَيَثْبُتُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَجُوزُ تَحْرِيرُ الْكَافِرَةِ بِالنَّصِّ الْمُطْلَقِ وَتَحْرِيرُ الْمُؤْمِنَةِ بِهِ وَبِالنَّصِّ الْمُقَيَّدِ أَيْضًا.
وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ رحمه الله وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَمْلِ لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَنُبَيِّنُ بَعْدُ فَكَانَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ وَالتَّعْدِيَةَ فَاسِدَةٌ لِلْمُفَارَقَةِ وَلِلْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَسْرَارِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ تَسَامَحَ فِيهِ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ لَمَّا فَسَدَتْ لَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِي التَّحْقِيقِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ظَاهِرًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَتَسَاهَلَ فِي جَوَابِهِ فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّيْخِ عَدَمَ جَوَازِ الْحَمْلِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ هَذَا الْجَوَابُ.
وَقَوْلُهُ أَبَدًا قُلْنَا مَنَعَ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ
فَصَارَتْ التَّعْدِيَةُ لِمَعْدُومٍ لَا يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَكَانَ هَذَا أَبْعَدَ مِمَّا سَبَقَ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ فَأَمَّا قَيْدُ الْإِسَامَةِ فَلَمْ يُوجِبُ نَفْيًا عِنْدَنَا لَكِنَّ السُّنَّةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي إبْطَالِ الزَّكَاةِ عَنْ الْعَوَامِلِ أَوْجَبَتْ نَسْخَ الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ قَيْدُ الْعَدَالَةِ لَمْ يُوجِبْ النَّفْيَ لَكِنَّ نَصَّ الْأَمْرِ بِالتَّثَبُّتِ فِي نَبَأِ الْفَاسِقِ أَوْجَبَ نَسْخَ الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ قَيْدُ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارَةِ لَمْ يُوجِبْ نَفْيًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَلْ يَثْبُتُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُطْلَقِ بِحَدِيثٍ مَشْهُورٍ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا قُلْنَا فِي صَدَقَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِيمَا بَعْدُ بِخُطُوطٍ وَالْحُكْمُ الْوَاحِدُ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْيِيدُهُ بَطَلَ إطْلَاقُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاجْتِمَاعِ لَا يُوجِبُ الْحَمْلَ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الدَّرَجَةِ وَلَمْ يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ الْإِطْلَاقِ الْقَطْعِيِّ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ بِالْقَيْدِ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ بِالْقَيْدِ الثَّابِتِ بِالرَّأْيِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ كَانَ أَوْلَى فَصَارَتْ التَّعْدِيَةُ لِمَعْدُومٍ وَهَذِهِ اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْدِيَةِ وَهِيَ فِي: لِإِبْطَالِ الْعَاقِبَةِ.
وَقَوْلُهُ لِإِبْطَالِ مَعَ مُتَعَلِّقِهِ خَبَرُ صَارَ أَيْ صَارَتْ تَعْدِيَةُ الشَّافِعِيِّ عَدَمَ الْجَوَازِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا مِنْ الْمُقَيِّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَى الْمُطْلَقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينُ تَعْدِيَةٌ لِأَجْلِ إبْطَالِ مَوْجُودٍ يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ الْإِطْلَاقُ أَوْ جَوَازُ التَّحْرِيرِ لِلْكَافِرَةِ يَعْنِي أَدَّى تِلْكَ التَّعْدِيَةُ إلَى الْإِبْطَالِ وَآلَ عَاقِبَتُهَا إلَيْهِ.
أَوْ اللَّامُ فِي الْمَعْدُومِ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْغَرَضِ أَيْ صَارَتْ تَعْدِيَةُ الشَّافِعِيِّ وَصْفَ الْإِيمَانِ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَى غَيْرِهَا تَعْدِيَةً لِأَجْلِ مَعْدُومٍ لَا يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَيْ الْغَرَضُ مِنْ التَّعْدِيَةِ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْدُومِ لِإِبْطَالِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ وَصْفُ الْإِطْلَاقِ لَا إثْبَاتُ الْمُعَدَّى وَهُوَ جَوَازُ الْمُؤْمِنَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِدُونِ التَّعْدِيَةِ فَكَانَ هَذَا أَبْعَدَ عَنْ الصَّوَابِ مِمَّا سَبَقَ وَهُوَ إضَافَةُ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الشَّرْطِ أَوْ الْوَصْفِ لِأَنَّ فِيمَا سَبَقَ إنْ وُجِدَ الْعَمَلُ بِالْمَسْكُوتِ الَّذِي لَيْسَ بِدَلِيلٍ فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حُكْمٍ مَوْجُودٍ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ وُجِدَ الْأَمْرَانِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ أَيْ اعْتِبَارُ مَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَعْدِيَتُهُ لِإِبْطَالِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْرٌ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ مَا وَجَبَ إسْقَاطُهُ وَإِهْدَارُهُ وَإِهْدَارُ مَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالسُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ قَوْلُهُ عليه السلام «لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَلَا فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» وَمَا رَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه «وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ وَفِي الْأَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ»
1 -
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَيْدُ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ لَمْ يُوجِبْ نَفْيًا) أَيْ نَفْيًا لِلْجَوَازِ بِدُونِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يَعْنِي لَمْ يَثْبُتْ اشْتِرَاطُ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِحَمْلِهِ عَلَى صَوْمِ الظِّهَارَةِ وَالْقَتْلِ بَلْ ثَبَتَ زِيَادَةً عَلَى الْمُطْلِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا ثَبَتَ زِيَادَةُ اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ عَلَى قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ وَقِرَاءَتُهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا بَقِيَتْ خَبَرًا مُسْنَدًا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَنْقُولَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالزِّيَادَةَ بِالْخَبَرِ الْمُسْنَدِ صَحِيحَةٌ إذَا كَانَ مُشْتَهِرًا وَقِرَاءَتُهُ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً فِي السَّلَفِ حَتَّى كَانَتْ تُتَعَلَّمُ فِي الْمَكَاتِبِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إنْ نَقَلَهُ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَطَأٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُ الْقُرْآنِ إلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ وَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ مُنَاجَاةُ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ مِنْ الْقُرْآنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ لِدَلِيلٍ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَ الْخَبَرُ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَوْ لَا يَكُونَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا يُصَرِّحُ الرَّاوِي بِسَمَاعِهِ قُلْت: هَذَا كَلَامٌ وَاهٍ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ نَقَلَهُ وَحْيًا مَتْلُوًّا مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ وَحْيًا مَتْلُوًّا لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّوَاتُرُ يَبْقَى كَلَامًا مَسْمُوعًا مِنْ الرَّسُولِ عليه السلام مَنْقُولًا عَنْهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ رَوَاهُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ التَّبْلِيغُ إلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ
الْفِطْرِ: إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مُطْلَقًا» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَمَلُنَا نَحْنُ بِهِمَا بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّا لَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفَةِ لِيَجُوزَ الْأَمْرَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّصَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَدَا فِي الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُوَ الصَّوْمُ فِي وُجُوهٍ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْيِيدُهُ بَطَلَ إطْلَاقُهُ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ دَخَلَ النَّصَّانِ عَلَى السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ فِي الْأَسْبَابِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ
ــ
[كشف الأسرار]
بِقَوْلِهِمْ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ بَلْ بَلَّغَ وَلَكِنْ أَنْسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقُلُوبِ نَسْخًا لِتِلَاوَتِهِ سِوَى قَلْبِ ابْنِ مَسْعُودٍ إبْقَاءً لِحُكْمِهِ كَمَا قُلْنَا جَمِيعًا بِنَسْخِ تِلَاوَةِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَانَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَبَقَاءُ حُكْمِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَإِنَّكُمْ قَدْ قَبِلْتُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٌ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ وَكَانَ مِمَّا يُتْلَى مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ نَسِيَتْ النَّظْمَ أَيْضًا فَخَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ حِفْظِهِ النَّظْمَ كَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ نَقْلٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ إذْ لَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ يَزِيدُ حَرْفًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُظَنُّ ذَلِكَ بِمَنْ هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَّائِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ الْإِطْلَاقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَدَمُ سُقُوطِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّا عَمِلْنَا بِالْحَدِيثَيْنِ فِيهَا فَأَوْجَبْنَاهَا بِسَبَبِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَلَمْ نَعْمَلْ بِالْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْيَمِينِ بَلْ عَمِلْنَا بِالْمُقَيِّدَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَمْلًا لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ النَّصَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَدَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ بِالْيَمِينِ وَهُوَ فِي وُجُودِهِ أَعْنِي وُجُوبَهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَوْ عَمِلْنَا بِالنَّصَّيْنِ يَلْزَمُ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ ثَلَاثَةٍ بِالْمُطْلَقِ وَثَلَاثَةٍ بِالْمُقَيَّدِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ انْصَرَفَ مَا انْصَرَفَ إلَيْهِ الْآخَرُ وَأَوْجَبَ تَقْيِيدَ ذَلِكَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ الصَّوْمُ مُقَيَّدًا لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا ضَرُورَةً فَأَمَّا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ جَعَلَ الرَّأْسَ الْمُطْلَقَ سَبَبًا وَالْآخَرُ جَعَلَ رَأْسَ الْمُسْلِمِ سَبَبًا وَلَا مُزَاحَمَةَ أَيْ لَا تَنَافِي فِي الْأَسْبَابِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ شَرْعًا وَحِسًّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَالْمِلْكِ وَالْمَوْتِ وَإِذَا انْتَفَتْ الْمُزَاحَمَةُ وَجَبَ الْجَمْعُ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ التَّتَابُعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ كَمَا أَوْجَبَ الْبَعْضُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مُتَتَابِعَةٌ مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالْإِطْلَاقَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ.
قُلْنَا: قِرَاءَتُهُ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وَبِمِثْلِهَا لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَقَدْ كَانَتْ مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رضي الله عنهما وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَدَّى إلَى إلْغَاءِ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّ حُكْمَهُ يُفْهَمُ مِنْ الْمُطْلَقِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يُسْتَفَادُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ كَمَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْكَافِرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِي ذِكْرِ الْمُقَيَّدِ فَائِدَةٌ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: وُرُودُ الْمُقَيَّدِ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُطْلَقٌ وَبَعْدَ وُرُودِهِ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَيَّدٌ وَفِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَيَّدُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْفَضْلِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ عَزِيمَةٌ وَالْمُطْلَقَ رُخْصَةٌ وَيَجُوزُ ذَلِكَ مَتَى أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا جَمِيعًا وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ قَائِمٌ لَا يُجْعَلُ النَّصَّانِ نَصًّا وَاحِدًا كَيْفَ وَالْحَمْلُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ صِفَةِ الْإِطْلَاقِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ مَعْمُولًا وَعَدَمُ الْحَمْلِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ شَيْءٍ فَكَانَ أَوْلَى إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّكُمْ قَدْ حَمَلْتُمْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيِّدِ فِي قَوْلِهِ
وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّا قُلْنَا: إنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ فَصَارَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ مُعَلَّقًا وَمَرَّ سَلَفًا مِثْلُ نِكَاحِ الْأَمَةِ تَعَلَّقَ بِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِالنَّصِّ وَبَقِيَ مُرْسَلًا مَعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْلِيقَ يَتَنَافَيَانِ وُجُودًا فَأَمَّا قَبْلَ ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ فَهُوَ مُعَلَّقٌ أَيْ مَعْدُومٌ وَيَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ وُجُودُهُ وَمُرْسَلٌ عَنْ الشَّرْطِ أَيْ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُودِ قَبْلَهُ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ الْعَدَمُ فَصَارَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ بِطَرِيقَتَيْنِ
ــ
[كشف الأسرار]
عليه السلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» حَيْثُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مَعَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالْقَيْدَ فِي السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ دُونَ الْحُكْمِ قُلْنَا: مَا حَمَلْنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلَكِنْ فَهِمْنَا بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَتَرَادَّا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَدَارَ مِنْهُ إيجَابُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ لِأَنَّ التَّرَادَّ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي حَالِ قِيَامِهَا وَقَدْ تَرَكَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَصْلَهُ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: يَجْرِي التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ كَمَا يَجْرِي حَالَ قِيَامِهَا وَلَمْ يَحْمِلْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيِّدِ مُعْتَذِرًا بِأَنَّ التَّحَالُفَ وَجَبَ لِبَيَانِ الثَّمَنِ وَالِاشْتِبَاهُ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَقَلُّ مِنْ الِاشْتِبَاهِ حَالَ هَلَاكِهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَعَرُّفُ الثَّمَنِ مِنْ الْقِيمَةِ إذْ بِيَاعَاتُ النَّاسِ تَكُونُ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَغْلَبِ فَإِيجَابُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ مَعَ قِلَّةِ الِاشْتِبَاهِ يَكُونُ إيجَابًا لَهُ حَالَ هَلَاكِهَا دَلَالَةً.
وَلَكِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَغْلَبِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ وَيَشْتَرِي بِأَكْثَرَ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْقِيمَةِ غَالِبًا لَرَجَعَ إلَيْهَا بَلْ التَّحَالُفُ مُوجِبٌ لِلْفَسْخِ وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ دُونَ هَلَاكِهَا فَإِيجَابُ مَا يُؤَدِّي إلَى الْفَسْخِ حَالَ قَبُولِ الْعَقْدِ إيَّاهُ لَا يَكُونُ إيجَابًا لَهُ فِي حَالٍ لَا يَقْبَلُهُ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَبِي الْيُسْرِ قَوْلُهُ (وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ) أَدْرَجَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي هَذَا الْكَلَامِ جَوَابَ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَى مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَاكَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا عَلَّقَ حِلَّ الْأَمَةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الطَّوْلِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الْحِلُّ بِعَيْنِهِ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا وَمُعَلَّقًا كَالْقِنْدِيلِ إذَا عُلِّقَ لَا يَبْقَى مَوْضُوعًا فِي الْمَكَانِ فَقَالَ: وَهَذَا أَيْ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ الْوَارِدَيْنِ فِي السَّبَبِ وَعَدَمُ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ قَبْلَ وُجُودِهِ مُعَلَّقًا وَمُرْسَلًا مِثْلُ نِكَاحِ الْأَمَةِ تَعَلَّقَ بِطَوْلِ الْحُرَّةِ أَيْ بِعَدَمِ طَوْلِهَا بَقِيَ مُرْسَلًا أَيْ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ يَعْنِي جَوَازُ نِكَاحِهَا قَبْلَ وُجُودِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهِ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْلِيقَ يَتَنَافَيَانِ وُجُودًا يَعْنِي وُجُودُ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِرْسَالِ وَالتَّعْلِيقِ جَمِيعًا كَالْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ جَمِيعًا لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِعِلَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ.
فَأَمَّا قَبْلَ ثُبُوتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَكَذَا مَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِهِ مُعَلَّقًا أَيْ مَعْدُومًا يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالشَّرْطِ وَمُرْسَلًا أَيْ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ قَبْلَ الشَّرْطِ بِسَبَبٍ آخَرَ كَالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرْطِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَقَّقَ وُجُودُهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُوجَدَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالتَّنْجِيزِ.
وَكَذَا الْعِتْقُ فَكَذَا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ وَبَعْدَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَتَبَدَّلْ ذَلِكَ الْعَدَمُ فَيَبْقَى مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ بِطَرِيقَيْنِ
وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ حُكْمِ قَبْلِ وُجُودِهِ بِطَرِيقَيْنِ وَطُرُقِ كَثِيرَة وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إنَّ صَوْمَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَإِنْ قَالَ: إنَّ الْأَصْلَ مُتَعَارِضٌ؛ لِأَنِّي وَجَدْتُ صَوْمَ الْمُتْعَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُتَفَرِّقًا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ بِكَلِمَةِ إذَا فَكَانَ كَالظُّهْرِ لَمَّا أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا قَبْلَهُ وَذَلِكَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ
وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ إلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَهَذَا
ــ
[كشف الأسرار]
وَهُمَا الْإِرْسَالُ وَالتَّعْلِيقُ كَمَا كَانَ وَذَلِكَ أَيْ احْتِمَالُ الْوُجُودِ جَائِزٌ أَيْ ثَابِتُ كُلِّ حُكْمٍ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالْمِلْكِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ) ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله صَوْمُ الْيَمِينِ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ فِي قَوْلٍ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى صَوْمِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ الْمُقَيَّدَيْنِ بِالتَّتَابُعِ كَمَا حَمَلَ الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ وَهَذَا مِنْهُ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِوُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ وَاعْتَذَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ وَاحِدٌ فِي الْمُقَيَّدَاتِ وَكَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أَصْلَانِ مُتَعَارِضَانِ فِي التَّقْيِيدِ فَلَا لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ وَهَاهُنَا الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ وَقَعَ بَيْنَ صَوْمَيْنِ مُقَيَّدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي التَّقْيِيدِ.
أَحَدُهُمَا صَوْمُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّتَابُعِ وَالْآخَرُ صَوْمُ التَّمَتُّعِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّفْرِيقِ فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ فَجَازَ التَّفْرِيقُ وَالتَّتَابُعُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ أَيْضًا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِفَوَاتِ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ أَوْ خَبَرٌ مَشْهُورٌ وَالْآخَرُ نَصٌّ قَاطِعٌ فَرَدَّ الشَّيْخُ اعْتِذَارَهُ وَقَالَ: لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى صَوْمٌ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَوْمَ الْمُتْعَةِ مُتَفَرِّقٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَامَ الْعَشَرَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ جُمْلَةً جَازَ عِنْدَهُ وَلَوْ صَامَهَا مُتَفَرِّقَةً قَبْلَ الرُّجُوعِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالتَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّهُ أَعْنِي صَوْمَ الْمُتْعَةِ صَوْمَانِ مُطْلَقَانِ مُؤَقَّتَانِ أَحَدُهُمَا وَقْتُهُ وَقْتُ الْحَجِّ وَالْآخَرُ وَقْتُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَإِنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ بِكَلِمَةِ إذَا وَأَنَّهَا لِلْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ لِعَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ رَمَضَانَ قَبْلَ الشَّهْرِ وَأَدَاءُ الظُّهْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِيقِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِالتَّفْرِيقِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُطْلَقِ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ فَلَزِمَ التَّنَاقُضُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ صَوْمَ التَّمَتُّعِ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ فَكَلَامُهُ سَاقِطٌ أَيْضًا لِأَنَّ صَوْمَ الْمُتْعَةِ لَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا لِصَوْمِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ لِيَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ بَلْ الْمُطْلَقُ فِي الْكَفَّارَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيهَا لِإِمْكَانِ الْمُقَايَسَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَلَيْسَ فِي الْكَفَّارَةِ صَوْمٌ مُقَيَّدٌ بِالتَّفَرُّقِ فَلَمْ يَثْبُتْ تَعَارُضُ الْأَصْلَيْنِ وَوَجَبَ الْحَمْلُ وَإِذَا لَمْ يُحْمَلْ كَانَ مُتَنَاقِضًا.
وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ أَصْلَانِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَحْوَطِ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَأَوْجَبَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ وَذَلِكَ أَيْ عَدَمُ شَرْعِيَّةِ صَوْمِ السَّبْعَةِ أَوْ عَدَمُ جَوَازِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ أَوْ وُقُوعُ التَّفْرِيقِ فِيهِ لِمَعْنًى ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: صَوْمُ الْمُتْعَةِ لَمْ يُشْرَعْ مُتَفَرِّقًا وَإِنَّمَا جَاءَ التَّفَرُّقُ ضَرُورَةَ تَخَلُّلِ أَيَّامٍ لَا صَوْمَ فِيهَا وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ تَخَلُّلِ اللَّيَالِي وَتَخَلُّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ أَوْ الْقَتْلِ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الشَّارِعَ شَرَعَهُ مُتَفَرِّقًا مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَشْرَعَهُ جُمْلَةً قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهَا فَدَلَّ أَنَّهُ شُرِعَ مُتَفَرِّقًا لَا أَنَّهُ وَقَعَ ضَرُورَةً قُلْنَا: الصَّوْمُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ وَجَبَ بَدَلًا وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْمُبْدَلُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِبْدَالِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ الْأَصْلِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ