المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ) أَمَّا الْبَاءُ فَلِلْإِلْصَاقِ هُوَ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - جـ ٢

[علاء الدين عبد العزيز البخاري - فخر الإسلام البزدوي]

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ)

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ

- ‌[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ كَلِمَةُ كُلٍّ

- ‌[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]

- ‌كَلِمَةُ مَا

- ‌ كَلِمَةُ الَّذِي

- ‌ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ

- ‌[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]

- ‌ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ

- ‌[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]

- ‌ كَلِمَةُ أَيُّ

- ‌ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ

- ‌[بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ]

- ‌(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌[تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز]

- ‌طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ

- ‌ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ

- ‌[يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ]

- ‌ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي

- ‌[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]

- ‌ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ

- ‌إِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ

- ‌قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا

- ‌ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ

- ‌(بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ)

- ‌دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ

- ‌ الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

- ‌(بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي)

- ‌[معانى الْوَاوُ]

- ‌[معانى الْفَاءُ]

- ‌[معانى ثُمَّ]

- ‌[معانى بَلْ]

- ‌[معانى لَكِنْ]

- ‌[معانى أَوْ]

- ‌بَابُ حَتَّى) :

- ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

- ‌[مَعْنَى الْبَاءُ]

- ‌[مَعْنَى عَلَى]

- ‌[مَعْنَى مِنْ]

- ‌[مَعْنَى إلَى]

- ‌[مَعْنَى فِي]

- ‌[حُرُوفِ الْقَسَمِ]

- ‌ اَيْمُ اللَّهِ

- ‌ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ

- ‌ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌ حُرُوفِ الشَّرْطِ

- ‌(بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ)

- ‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

- ‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

- ‌[دَلَالَة الْمُقْتَضِي]

- ‌الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

- ‌ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ

- ‌ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

- ‌ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ

- ‌ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ

- ‌ مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ

- ‌(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)

- ‌[أَقْسَام الْعَزِيمَةُ]

- ‌[أَقْسَام الرُّخَصُ]

- ‌{بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا}

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ)

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ

- ‌[سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ]

- ‌ سَبَبُ الْخَرَاجِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ

- ‌سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ

- ‌سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ)

- ‌(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)

- ‌(بَابُ الْمَشْهُورِ)

- ‌(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)

- ‌[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]

- ‌[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ]

- ‌بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]

الفصل: ‌ ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ) أَمَّا الْبَاءُ فَلِلْإِلْصَاقِ هُوَ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ

‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

أَمَّا الْبَاءُ فَلِلْإِلْصَاقِ هُوَ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَلِيَكُونَ مَعْنًى تَخُصُّهُ هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلِهَذَا صَحِبَتْ الْبَاءُ الْأَثْمَانَ فِيمَنْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ وَوَصْفُهَا أَنَّ الْكُرَّ ثَمَنٌ يَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْكُرِّ فَقَالَ اشْتَرَيْت مِنْك كُرَّ حِنْطَةٍ وَوَصْفُهَا بِهَذَا الْعَبْدِ أَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَجَّلًا وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْبَيْعَ إلَى الْعَبْدِ جَعَلَهُ أَصْلًا وَأَلْصَقَهُ بِالْكُرِّ فَصَارَ الْكُرُّ شَرْطًا يُلْصَقُ بِهِ الْأَصْلُ وَهَذَا حَدُّ الْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ شُرُوطٌ وَاتِّبَاعٌ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْحَقِّ

ــ

[كشف الأسرار]

[بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ]

[مَعْنَى الْبَاءُ]

سُمِّيَتْ حُرُوفُ الْجَرِّ لِأَنَّهَا تَجُرُّ فِعْلًا إلَى اسْمٍ نَحْوَ مَرَرْت بِزَيْدٍ أَوْ اسْمًا إلَى اسْمٍ نَحْوَ الْمَالِ لِزَيْدٍ. وَسُمِّيَتْ حُرُوفُ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ وَضْعَهَا عَلَى أَنْ تُفْضِيَ بِمَعَانِي الْأَفْعَالِ إلَى الْأَسْمَاءِ. الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ هُوَ مَعْنَاهَا بِدَلَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلِ فِي اللُّغَةِ كَالنَّصِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَلِيَكُونَ عَطْفٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مَعْنًى أَيْ لِلِاسْتِعْمَالِ وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْبَاءِ مَعْنًى يَخْتَصُّ الْبَاءُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ. هُوَ لَهُ حَقِيقَةً أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِلْبَاءِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا. ثُمَّ الْإِلْصَاقُ يَقْتَضِي طَرَفَيْنِ مُلْصَقًا وَمُلْصَقًا بِهِ فَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهُوَ الْمُلْصَقُ بِهِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ هُوَ الْمُلْصَقُ فَفِي قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ. الْكِتَابَةُ مُلْصَقٌ وَالْقَلَمُ مُلْصَقٌ بِهِ وَمَعْنَاهُ أَلْصَقَتْ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي الْإِلْصَاقِ إيصَالَ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ دُونَ عَكْسِهِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَنَحَرْتُ بِالْقَدُومِ وَقَطَعْت بِالسِّكِّينِ وَضَرَبْت بِالسَّيْفِ وَنَحْوَهَا إلْصَاقُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْعَكْسِ كَانَ الْمُلْصَقُ أَصْلًا وَالْمُلْصَقُ بِهِ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلشَّيْءِ.

وَلِهَذَا صَحِبَتْ الْبَاءُ الْأَثْمَانَ أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ وَأَنَّ الْإِلْصَاقَ يَقْتَضِي طَرَفَيْنِ مُلْصِقًا وَمُلْصَقًا بِهِ وَالْمُلْصِقُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُلْصَق بِهِ هُوَ التَّبَعُ صَحِبَتْ الْبَاءُ الْأَثْمَانَ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْبَيْعِ بَلْ هُوَ تَبَعٌ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَيْعِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَمْلُوكِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا هُوَ مَبِيعٌ لَا بِمَا هُوَ ثَمَنٌ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُنْتَفَعٍ بِهَا فِي ذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِ الْمَقَاصِدِ كَالْآلَةِ لِلشَّيْءِ وَلِهَذَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُ الثَّمَنَ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. إذَا أَدْخَلَ الْبَاءَ فِي الْكُرِّ الْمَوْصُوفِ صَارَ ثَمَنًا بِدَلَالَةِ الْبَاءِ وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مُسَاوَمَةً وَوَجَبَ الْكُرُّ فِي الذِّمَّةِ حَالًا كَمَا إذَا سُمِّيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بِالِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَثْمَانِ. وَإِنْ أَدْخَلَ الْبَاءَ فِي الْعَبْدِ الْمُشَارِ وَأَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْكُرِّ الْمَوْصُوفِ انْعَقَدَ سَلَمًا وَيَصِيرُ الْعَبْدُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ بِدَلَالَةِ الْبَاءِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ وَيَصِيرُ الْكُرُّ مَبِيعًا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَيَعْتَبِرُ شَرَائِطَ السَّلَمِ مِنْ التَّأْجِيلِ وَقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

قَوْلُهُ (إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ) إلَى آخِرِهِ قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْإِخْبَارُ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا الَّذِي يُبَلِّغُهُ وَالثَّانِي الْكَلَامُ الَّذِي يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ فَإِذَا قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ كَانَ الْقُدُومُ مَشْغُولًا بِالْخَافِضِ فَلَمْ يَصْلُحْ مَفْعُولَ الْخَبَرِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لِأَنَّ الْمَشْغُولَ لَا يُشْغَلُ فَاحْتِيجَ إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ هُوَ كَلَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي خَبَرًا مُلْصَقًا بِقُدُومِهِ فَبَقِيَ الْقُدُومُ وَاقِعًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِعْلًا وَإِلْصَاقُ الْخَبَرِ بِالْقُدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ فَلِذَلِكَ اقْتَضَى وُجُودَهُ. فَأَمَّا إذَا قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَالْمُخْبَرُ بِهِ هُوَ الْقُدُومُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ وَالْقُدُومُ بِحَقِيقَتِهِ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْخَبَرِ فَصَارَ عِبَارَةً عَنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فَصَارَ التَّكَلُّمُ بِهِ شَرْطًا لِلْحِنْثِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَكَلَّمْت بِهَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي بِقَلْبِك فَكَذَا فَقَالَتْ كَاذِبَةً أُحِبُّك حَيْثُ تَطْلُقُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ لَمْ تَلْتَصِقْ بِقَلْبِهَا لِأَنَّ اللِّسَانَ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْقَلْبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ

ص: 167

لِأَنَّ مَا صَحِبَهُ الْبَاءُ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْخَبَرِ وَلَكِنَّ مَفْعُولَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ بِدَلَالَةِ حَرْفِ الْإِلْصَاقِ كَمَا يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ أَيْ بَدَأْت بِهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَذِبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالْبَاءِ فَصَلَحَ مَفْعُولًا وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ وَمَعْنَاهُ إنْ أَخْبَرْتنِي خَبَرًا مُلْصَقًا بِقُدُومِهِ وَالْقُدُومُ اسْمٌ لِفِعْلِ وُجُودٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتنِي قُدُومَهُ وَمَفْعُولُ الْخَبَرِ كَلَامٌ لَا فِعْلٌ فَصَارَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي التَّكَلُّمَ بِقُدُومِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُودِ لَا مُوجِبَ لَهُ لَا مَحَالَةَ وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِرَادَتِهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّرْطِ وَيُفْضِي إلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا عَلَى مَا قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ

ــ

[كشف الأسرار]

إلَيْهِ فَأَمَّا الْقُدُومُ فَأَمْرٌ مَحْسُوسٌ فَاعْتُبِرَ الْإِلْصَاقُ بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ أَعْلَمْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَعْلَمُهُ حَيْثُ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَعْلَمْتنِي بِقُدُومِهِ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالْبَاطِلُ لَا يُسَمَّى عِلْمًا وَإِنَّمَا الْعِلْمُ اسْمٌ لِلْحَقِّ فَلَمْ يَكُنْ الْإِخْبَارُ بِالْبَاطِلِ إعْلَامًا.

فَإِنْ قِيلَ الْإِخْبَارُ الْإِعْلَامُ وَالْخَبَرُ الْعِلْمُ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] . أَيْ عِلْمًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَبِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَلِيمِ بَلْ أَبْلَغَ مِنْهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْعَلِيمِ بِالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا لِعِلْمِهِ بِخَبَايَا الْأَرْضِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الِامْتِحَانُ اخْتِبَارًا فَكَانَ الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ سَوَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَلَى الْحَقِّ فِي الصُّورَتَيْنِ كَمَا فِي الْإِعْلَامِ. قُلْنَا الْحَقِيقَةُ مَا ذُكِرَتْ لَكِنَّ الْخَبَرَ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْعُرْفِ لِمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ فَصَارَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَقِّ وَالْكَذِبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا خَبَرٌ بَاطِلٌ وَزُورٌ وَكَذِبٌ وَلَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا قَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا صَحِبَهُ الْبَاءُ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْخَبَرِ) أَيْ الْإِخْبَارِ لِكَوْنِهِ مَعْمُولَ الْبَاءِ فَلَا يَصْلُحُ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ آخَرَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْمُولًا لِعَامِلٍ آخَرَ فِي الظَّاهِرِ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْمَحَلِّ فَيَكُونُ مَجْرُورًا بِالْبَاءِ وَمَنْصُوبَ الْمَحَلِّ بِالْفِعْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَخْبَرَنِي بِهَذَا الْخَبَرِ زَيْدٌ كَانَ الطَّرَفُ وَهُوَ الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ بِشَيْءٍ آخَرَ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِ أَخْبَرَنِي خَبَرًا مُلْصَقًا بِهَذَا الْخَبَرِ زَيْدٌ فَكَذَا هَذَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ حَقِيقَةً وَقَدْ يَجِيءُ لِلتَّعَدِّيَةِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ كَقَوْلِك ذَهَبَ بِهِ وَخَرَجَ بِهِ أَيْ أَذْهَبَهُ وَأَخْرَجَهُ وَالْإِخْبَارُ مِمَّا يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ فَفِيمَا أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ لِتَبْقَى الْبَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَمَا ذَكَرْت مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَأَنَّ مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ أَيْ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلُك أَعْجَبَنِي أَنَّ زَيْدًا قَامَ أَوْ قَائِمٌ وَبَلَغَنِي أَنَّ عَمْرًا مُنْطَلِقٌ مَعْنَاهُ أَعْجَبَنِي قِيَامُ زَيْدٍ وَبَلَغَنِي انْطِلَاقُ عَمْرٍو وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ صَارَ فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَصَلَحَ مَفْعُولًا وَمَفْعُولُ الْخَبَرِ أَيْ الْإِخْبَارِ كَلَامٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدِمَ فُلَانٌ لَا حَقِيقَةُ فِعْلِ الْقُدُومِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ قَوْلٌ وَالْقُدُومُ فِعْلٌ وَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْقَوْلِ.

يُوضِحُهُ أَنَّ فِي قَوْلِك ضَرَبْت زَيْدًا لَا يَكُونُ مُسَمَّى زَيْدٍ مَفْعُولًا لِضَرَبْتُ لِأَنَّ الشَّخْصَ لَا يَتَأَثَّرُ بِالْقَوْلِ حَقِيقَةً بَلْ مَفْعُولُهُ لَفْظُ زَيْدٍ فَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْقُدُومِ لَا تَصْلُحُ مَفْعُولَ أَخْبَرْتنِي لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالْقُدُومُ فِعْلٌ إلَّا أَنَّ مُسَمَّى زَيْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَثِّرًا بِمَدْلُولِ ضَرَبْت وَهُوَ حَقِيقَةُ الضَّرْبِ وَفِعْلُ الْقُدُومِ هَاهُنَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَثِّرًا بِمَدْلُولِ أَخْبَرْتنِي وَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ التَّكَلُّمُ بِالْخَبَرِ وَذَلِكَ لَا يَعْدُو إلَى الْقُدُومِ بِوَجْهٍ فَلِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولًا لَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ إنْ تَكَلَّمْت بِخَبَرِ قُدُومِ فُلَانٍ وَالْخَبَرُ مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ لَا مَا يُوجِبُ وُجُودَهُ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ كَلَامًا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْقُدُومِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ كَاذِبًا فَيَحْنَثُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ. قَالُوا يَعْنِي أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِرَادَتِهِ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ أَصْلًا لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّرْطِ أَيْ يُفْضِي إلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ

ص: 168

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] حَتَّى أَوْجَبَ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله الْبَاءُ صِلَةٌ لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ فَيُؤَكَّدُ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ

ــ

[كشف الأسرار]

لَمَّا جَعَلَ الطَّلَاقَ مُلْصَقًا بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْصَاقُ بِدُونِ الْمُلْصَقِ بِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ غَيْرَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إبْطَالٌ لِلْإِيجَابِ لِمَا عُرِفَ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَوْ أَضَافَ الْمَشِيئَةَ إلَى الْعَبْدِ بِأَنْ قَالَ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ كَانَ تَعْلِيقًا وَتَمْلِيكًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا أَيْ أَمْثَالُ الْمَشِيئَةِ كَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ.

عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ. . . الْمَذْكُورُ فِيهَا عَشْرَةُ أَلْفَاظٍ الْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالرِّضَاءُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْأَمْرُ وَالْحُكْمُ وَالْإِذْنُ وَالْقَضَاءُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَأَنَّهَا قَدْ تُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُضَافُ إلَى الْعَبْدِ أَيْضًا فَفِي الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ إنْ أُضِيفَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى الْعَبْدِ كَانَ تَمْلِيكًا فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَفِي السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ أُضِيفَتْ إلَى اللَّهِ عز وجل أَوْ إلَى الْعَبْدِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَمْرِ فُلَانٍ أَوْ بِحُكْمِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ بِأَمْرِ فُلَانٍ إيَّايَ أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ عَلَيَّ بِذَلِكَ أَوْ يَأْذَنُ فُلَانٌ لِي بِذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُ فُلَانٌ مِنِّي ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا كُلُّهُ تَحْقِيقًا لِلْإِيقَاعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ اُحْكُمْ وَأْمُرْ وَاعْلَمْ وَأْذَنْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ تَخْيِيرًا بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ اُحْكُمْ إلْزَامًا لَهُ ذَلِكَ وَفِيمَا تَقَدَّمَ لَوْ قَالَ شَاءَ كَانَ تَخْيِيرًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ يَكُونُ تَخْيِيرًا مِنْهُ لِفُلَانٍ كَذَا فِي زِيَادَاتِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حُمِلَتْ الْبَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَأَخَوَاتِهَا عَلَى السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا - ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا - جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 38 - 146] .

وَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّبَبِ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ لِمَشِيئَةِ فُلَانٍ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْإِيقَاعِ لَا عَلَى انْتِفَائِهِ. قُلْنَا الْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرْطِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِلْصَاقِ لِأَنَّ فِي الْإِلْصَاقِ مَعْنَى التَّرَتُّبِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُلْصَقًا بِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُلْصَقِ زَمَانًا لِيُمْكِنَ الْإِلْصَاقُ بِهِ وَالتَّرَتُّبُ الزَّمَانِيُّ فِي الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ مَوْجُودٌ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُقَارِنٌ لِلْمَعْلُولِ زَمَانًا قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) إلَى آخِرِهِ. ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْمَحَلِّ أَفَادَتْ. التَّبْعِيضَ لُغَةً يُقَالُ مَسَحْت الرَّأْسَ إذَا اسْتَوْعَبْته وَمَسَحَ بِالرَّأْسِ أَيْ بِبَعْضِهِ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَلِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِاتِّفَاقٍ بَيْننَا وَبَيْنَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الرَّأْسِ وَإِذَا ثَبَتَ الْبَعْضُ مُرَادًا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا لَوْ قَالَ امْسَحُوا بَعْضَ رُءُوسِكُمْ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَوْ بِرُبُعِ الرَّأْسِ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ بِالرَّأْيِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مُطْلَقُ مَسْحِ الْبَعْضِ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضٌ مُقَدَّرٌ وَذَلِكَ مُجْمَلٌ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فَكَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ بَيَانًا لَهُ. لِأَنَّهُ يَقُولُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ عِنْدِي إلَّا لِعَدَمِ حُصُولِ مَسْحِ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ رَأْسَهُ بِالْمَسْحِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ قَبْلَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدِي لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ فَكَذَا هَاهُنَا.

وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله الْبَاءُ صِلَةٌ أَيْ مَزِيدَةٌ زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . أَيْ لَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ كَذَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَإِذَا كَانَتْ مَزِيدَةً وَجَبَ مَسْحُ الْكُلِّ كَمَا لَوْ قِيلَ وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ. قَالَ وَمَا قُلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِالْمَجَازِ لَكِنَّهُ أَحْوَطُ لِأَنَّ فِيهِ الْخُرُوجَ عَنْ

ص: 169

وَقُلْنَا أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَالْمَوْضُوعُ لِلتَّبْعِيضِ كَلِمَةُ (مِنْ) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْرَارَ وَالِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَلَامِ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْعَوَارِضِ فَلَا يُصَارُ إلَى إلْغَاءِ الْحَقِيقَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّوْكِيدِ إلَّا بِضَرُورَةٍ بَلْ هَذِهِ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي آلَةِ الْمَسْحِ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى مَحَلِّهِ كَمَا تَقُولُ مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدِي فَيَتَنَاوَلُ كُلَّهُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى جُمْلَتِهِ وَمَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ بِيَدِي وَإِذَا دَخَلَ حَرْفُ الْإِلْصَاقِ فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ بَقِيَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ وَتَقْدِيرُهُ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ أَيْ أَلْصِقُوهَا بِرُءُوسِكُمْ فَلَا تَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي وَضْعَ آلَةِ الْمَسْحِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَوْعِبُهُ فِي الْعَادَاتِ فَيَصِيرُ الْمُرَادُ بِهِ أَكْثَرَ الْيَدِ فَصَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِهَذَا الشَّرْطِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى عَلَى أَنَّا إنْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهَا فَذَلِكَ يُوجِبُ الِاسْتِيعَابَ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ حَقِيقَةً وَقَدْ أَلْصَقَ الْمَسْحَ بِالرَّأْسِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ لَا لِبَعْضِهِ فَيَقْتَضِي مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ فَلَا أَصْلَ لَهُ) أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ كَلَامٌ عَنْ تَشَهٍّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ إنَّمَا الْمَوْضُوعُ لِلتَّبْعِيضِ كَلِمَةُ مِنْ فَلَوْ أَفَادَتْ الْبَاءُ التَّبْعِيضَ لَوَجَبَ التَّكْرَارُ أَيْ التَّرَادُفُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ.

وَالِاشْتِرَاكُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ لَكَانَ لَفْظٌ وَاحِدٌ دَالًّا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. هَذَا رَدُّ لِكَلَامِ الْقَائِلِينَ بِالتَّبْعِيضِ وَقَوْلُهُ وَلَا يُصَارُ إلَى إلْغَاءِ الْحَقِيقَةِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَالِكٍ أَيْ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى إلْغَائِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَبِأَنْ جَازَ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ الْبَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا هُوَ أَصْلُهَا. وَبَيَانُ هَذَا أَيْ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْآيَةِ وَأَنَّ التَّبْعِيضَ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَا بِالْبَاءِ أَنَّ الْمَسْحَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ آلَةٍ وَمَحَلٍّ فَإِذَا دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي الْآلَةِ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَحَلِّ وَيَصِيرُ الْمَحَلُّ مَفْعُولَ فِعْلِهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ كَقَوْلِك مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدِي أَوْ مَسَحْت بِيَدِي الْحَائِطَ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الْمَحَلِّ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ وَلِهَذَا ظَهَرَ عَمَلُهُ فِيهَا حَتَّى انْتَصَبَتْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِيَّةِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ لَكِنْ بِهَذِهِ الْآلَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ فَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْكَلَامُ اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ كَمَا ظَنَّهُ مَالِكٌ. لِأَنَّهُ أَيْ الْمَسْحَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الرَّأْسِ بَلْ أُضِيفَ إلَى الْيَدِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ.

لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي وَضْعَ آلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ وَإِلْصَاقَهَا بِهِ. وَذَلِكَ أَيْ وَضْعُ الْآلَةِ لَا يَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ فِي الْعَادَاتِ أَيْضًا لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ عَادَةً. إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَصْلُحُ قَوْلُهُ (فَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ أَكْثَرَ الْيَدِ) نَتِيجَةٌ لَهُ فَيُجْعَلُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي لَا يَسْتَوْعِبُهُ عَائِدًا إلَى الْآلَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْ الْوَضْعُ لَا يَسْتَوْعِبُ الْآلَةَ فِي الْعَادَاتِ يَعْنِي هَذَا التَّقْدِيرَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْآلَةِ لَكِنْ فِي الْعَادَةِ لَا تُوضَعُ الْآلَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا عَلَى الرَّأْسِ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَظَهْرِ الْكَفِّ لَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَسْحِ عَادَةً فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَكْثَرِ الَّذِي يُحْكَى حِكَايَةَ الْكُلِّ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ. فَصَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْ صَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُقَدَّرًا بِآلَةِ الْمَسْحِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا لَا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّبْعِيضِ مُرَادًا عَمَلًا بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله.

وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَوْضَحُ فَإِنَّهُ قَالَ وَإِذَا قُرِنَتْ الْبَاءُ بِمَحَلِّ الْمَسْحِ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَى الْآلَةِ فَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْآلَةِ بِالْمَحَلِّ وَذَلِكَ لَا يَسْتَوْعِبُ الْكُلَّ عَادَةً ثُمَّ أَكْثَرُ الْآلَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ فَيَتَأَدَّى الْمَسْحُ بِإِلْصَاقِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ بِمَحَلِّ الْمَسْحِ وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِحَرْفِ الْبَاءِ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِمَشَايِخِنَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . أُدْخِلَ حَرْفُ الْبَاءِ فِي الْمَحَلِّ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَى الْآلَةِ وَهِيَ الْيَدُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ أَيْدِيَكُمْ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَمْعَ مَتَى قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يَنْقَسِمُ آحَادُ هَذَا عَلَى آحَادِ ذَلِكَ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ وَلْيَمْسَحْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِرَأْسِهِ يَدَهُ

ص: 170

فَأَمَّا الِاسْتِيعَابُ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ قَوْلِهِ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] فَثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ فِيهِ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ فَجُعِلَتْ الْبَاءُ صِلَةً وَبِدَلَالَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ شُرِعَ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ وَكُلُّ تَنْصِيفٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ وَعَلَى هَذَا قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي أَنَّهُ يَشْتَرِطُ تَكْرَارَ الْإِذْنِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِذَا وَضَعَ الْيَدَ عَلَى الرَّأْسِ جَازَ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمَسْحُ. وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ جَازَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْآلَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَيَجُوزُ التَّبْعِيضُ بِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ لَا بِحَرْفِ الْبَاءِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ هَاهُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ كَتَبْت بِالْقَلَمِ إلَّا أَنَّ كَلِمَةَ الْبَاءِ مَتَى دَخَلَتْ مَحَلَّ الْفِعْلِ كَانَ الْمُرَادُ إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ لَا إلْصَاقَ الْمَحَلِّ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعْدُومٌ لَا يُتَصَوَّرُ إلْصَاقُ الْمَحَلِّ بِهِ قَبْلَ الْوُجُودِ وَبَعْدَ الْوُجُودِ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِلْصَاقُ بِهِ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ كَمَا وُجِدَ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إلْصَاقُهُ بِالْمَحَلِّ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ إثْبَاتَ وَصْفٍ فِي الْفِعْلِ هُوَ الْإِلْصَاقُ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْإِلْصَاقِ فِيهِ وَالْمَحَلُّ إنَّمَا يُرَاعَى لِتَصَوُّرِ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَمَا يُرَاعَى لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ إنَّمَا يُرَاعَى بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالرَّأْسِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِبَعْضِ الرَّأْسِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْضَ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْضَ لُغَةً.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَشَايِخِنَا رحمهم الله فِي تَقْدِيرِ فَرْضِ الْمَسْحِ طَرِيقِينَ. أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَالثَّانِي أَنْ مُطْلَقَ الْبَعْضِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي عَامَّةِ الْأَعْضَاءِ بَعْضٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَلِهَذَا لَوْ زَادَ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي قُدِّرَ بِهِ لَا يَكُونُ الزَّائِدُ فَرْضًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بَعْضًا مُطْلَقًا لَوَقَعَ الزَّائِدُ فَرْضًا كَالزَّائِدِ عَلَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ صَارَ الْبَعْضُ مُجْمَلًا فَيَتَعَرَّفُ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ تُوجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ بِالرُّبُعِ عَلَى مَا عُرِفَ إلَّا أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْإِجْمَالِ بِهَذَا الطَّرِيقِ نَوْعَ ضَعْفٍ فَإِنَّ الْخُصُومَ لَمْ يُسَلِّمُوا الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ وَقَالُوا بَلْ مُطْلَقُ الْمَسْحِ هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ فَلِذَلِكَ اخْتَارَ الشَّيْخُ هَاهُنَا الطَّرِيقَ الَّذِي بَيَّنَّا لِأَنَّهُ أَسْلَمُ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاسْتِيعَابُ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] . فِي الْمَحَلِّ وَقَدْ شُرِطَ فِيهِ الِاسْتِيعَابَ كَمَا فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيعَابُ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي الْمَحَلِّ وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ «قَوْلُهُ عليه السلام لِعَمَّارٍ. يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ» .

وَبِمِثْلِهَا يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ فَجُعِلَتْ الْبَاءُ صِلَةً أَيْ زَائِدَةً بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مِثْلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ فَيَجِبُ الِاسْتِيعَابُ. وَبِدَلَالَةِ الْكِتَابِ أَيْ الْكِتَابُ دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِيعَابِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ الْوُضُوءِ بِأَنْ أُقِيمَ الْمَسْحُ بِالصَّعِيدِ فِي الْعُضْوَيْنِ مَقَامَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ بِالْمَاءِ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَنُصِّفَ الْحَلِفُ تَخْفِيفًا وَكُلُّ تَنْصِيفٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَعِدَّةِ الْإِمَاءِ وَحُدُودِ الْعَبِيدِ وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخِرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةٍ أَوْ أَبْرَأهُ عَنْ خَمْسَةٍ يَجِبُ الْبَاقِي بِصِفَةِ الْأَصْلِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ثُمَّ الِاسْتِيعَابُ فِي غَسْلٍ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَكَذَا فِيمَا قَامَ مَقَامَهُمَا عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيعَابُ بَلْ الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ لِأَنَّ فِي الْمَمْسُوحَاتِ الِاسْتِيعَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَالرَّأْسِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ. قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَكَذَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْإِذْنِ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ خَرَجْت يَتَنَاوَلُ الْمَصْدَرَ لُغَةً وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجِي خُرُوجًا

ص: 171

فَاقْتَضَى مُلْصَقًا بِهِ لُغَةً وَهُوَ الْخُرُوجُ فَصَارَ الْخُرُوجُ الْمُصْلَقُ بِالْإِذْنِ الْمَوْصُوفِ بِهِ مُسْتَثْنًى فَصَارَ عَامًّا فَأَمَّا قَوْلُهُ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَإِنَّهُ جُعِلَ مُسْتَثْنَى بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ جِنْسِهِ فَجُعِلَ مَجَازًا عَنْ الْغَايَةِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُنَاسِبُ الْغَايَةَ.

ــ

[كشف الأسرار]

فَصَارَ عَامًّا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِذْنِ فَبَقِيَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ دَاخِلًا فِي الْحَظْرِ فَإِذَا فَعَلَتْ وَجَبَ الْجَزَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت إلَّا بِقِنَاعٍ أَوْ بِمُلَاءَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَتَى خَرَجَتْ بِقِنَاعٍ أَوْ بِمُلَاءَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَلَمْ يَسْقُطْ الْخَطَرُ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَوْ مُلَاءَةٍ طَلُقَتْ فَكَذَا هَذَا قَوْلُهُ (فَاقْتَضَى مُلْصَقًا بِهِ) أَيْ شَيْئًا يَلْتَصِقُ بِالْإِذْنِ إذْ لَا بُدَّ لِلْجَارِ وَالْمَجْرُورِ مِنْ مُتَعَلِّقٍ.

وَهُوَ أَيْ الشَّيْءُ الْمُلْصِقُ بِالْإِذْنِ هُوَ الْخُرُوجُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. فَصَارَ عَامًا أَيْ صَارَ الْخُرُوجُ الْمَوْصُوفُ الْمُسْتَثْنَى عَامًّا حَتَّى تَنَاوَلَ كُلَّ خَرْجَةٍ وُصِفَتْ بِالْإِذْنِ وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ لِعُمُومِ صِفَتِهِ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ إلَّا امْرَأَةً كُوفِيَّةً. وَذَلِكَ أَيْ جَعْلُهُ مُسْتَثْنًى بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ. لِأَنَّهُ أَيْ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْإِذْنُ خِلَافُ جِنْسِهِ أَيْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْخُرُوجِ هَاهُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي وَلَوْ قَالَ إلَّا خُرُوجًا أَنْ آذَنَ لَك كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا. قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَتَّى عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ أَذِنَ فِي الْخُرُوجِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ بَلْ يَحْنَثُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] . وَقَدْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِذْنِ شَرْطًا. وَلِأَنَّ كَلِمَةَ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ وَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ إلَّا بِصِلَةٍ فَوَجَبَ تَقْدِيرُ الصِّلَةِ فِيهِ وَهِيَ الْبَاءُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي.

قَالَ وَفِيمَا قُلْنَا تَحْقِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَالْغَايَةُ مَجَازٌ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] . وَ {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] . وَمَعْنَاهُ الْغَايَةُ. وَلِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا بَطَلَتْ حَقِيقَتُهُ تَعَيَّنَ مَجَازُهُ وَحَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَعَذِّرَةٌ هَاهُنَا لِأَنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ فَيَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا لِلْإِذْنِ مِنْ الْخُرُوجِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَعُمِلَ بِمَجَازِهِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً لِأَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ يُنَاسِبُ الْغَايَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ حُكْمَ مَا وَرَاءَ الْغَايَةِ عَلَى خِلَافِ الْمُغَيَّا كَمَا أَنَّ حُكْمَ مَا وَرَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خِلَافِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً كَانَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ تِسْعِمِائَةٍ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي تِسْعِمِائَةٍ فَيُجْعَلُ غَايَةً بِمَنْزِلَةِ حَتَّى وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِي لِأَنَّ حَرْفَ الْإِلْصَاقِ يَقْتَضِي مُلْصِقًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَحَذْفُهُ سَائِغٌ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَرْفُ الْإِلْصَاقِ كَمَا فِي بِسْمِ اللَّهِ أَيْ بَدَأْت أَوْ أَبْدَأُ بِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا صَحَّ الْحَذْفُ لِقِيَامِ الْبَاءِ وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي بِهِ تَحْقِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فَأَمَّا هَاهُنَا فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ ذِكْرُ الْبَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ حَذْفُ الْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلِذَلِكَ تَعَذَّرَتْ حَقِيقَتُهُ فَتَعَيَّنَ مَجَازُهُ.

وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] . لِأَنَّ التَّكْرَارَ ثَمَّةَ مَا جَاءَ مِنْ لَفْظٍ إلَّا أَنْ لِأَنَّهُ لَوْ ذُكِرَ بِحَرْفِ حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا أَيْضًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] . بَلْ التَّكْرَارُ عُرِفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] . فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ آذَنَ إلَّا بِإِذْنِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ قَضَاءً وَدِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الِالْتِصَاقِ سَائِغٌ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ فَيُصَدَّقُ. وَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي الْإِذْنَ مَرَّةً صَحَّتْ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفِيدُ مَا يُفِيدُ الْغَايَةُ وَهُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي الْمَعْنَى

ص: 172