الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَتَقْسِيمِهَا)
قَالَ الشَّيْخُ رضي الله عنه أَمَّا الْعَقْلُ فَنُورٌ يُضَاءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُنْتَهَى إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَيَبْتَدِئُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْبَشَرِ إلَّا بِدَلَالَةِ اخْتِيَارِهِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ فِي عَاقِبَتِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ: قَاصِرٌ لِمَا يُقَارِنُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِهِ فِي ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ وَهُوَ عَقْلُ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجَدُ زَائِدًا ثُمَّ هُوَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ مُتَفَاوِتٌ لَا يُدْرَكُ تَفَاوُتُهُ فَعُقِلَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ بِأَدْنَى دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَاعْتِدَالِهِ وَأُقِيمَ الْبُلُوغُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا
ــ
[كشف الأسرار]
[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]
(بَابُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَتَقْسِيمِهَا)، قَوْلُهُ (أَمَّا الْعَقْلُ) فَكَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
سَلْ النَّاسَ إنْ كَانُوا لَدَيْكَ أَفَاضِلًا
…
عَنْ الْعَقْلِ وَانْظُرْ هَلْ جَوَابٌ مُحَصَّلٌ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْعَقْلُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَوْهَرًا لَصَحَّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْلٌ بِلَا عَاقِلٍ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَحِينَ لَمْ يُتَصَوَّرْ ذَلِكَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ كَذَا فِي الْقَوَاطِعِ وَقِيلَ مَعْنَى الْعَقْلِ: هُوَ الْعِلْمُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ عَقَلْت وَعَلِمْت فَاسْتَعْمَلُوهُمَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالُوا هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَمَعْقُولٌ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِالْعِلْمِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْعَقْلِ فَدَلَّ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الْعَقْلِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَلَكِنْ كَلَامُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ مَنْ اتَّصَفَ بِهِ عَنْ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ وَالْبَهِيمَةِ وَالْمَجْنُونِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ عَامَّةُ الْخَلْقِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْعِلْمِ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَقِيلَ: هُوَ قُوَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ بِوُجُودِهَا يَصِحُّ دَرْكُ الْأَشْيَاءِ وَيُتَوَجَّهُ تَكْلِيفُ الشَّرْعِ وَهُوَ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ نَفْسِهِ وَمُخْتَارُ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ الْعَقْلَ نُورٌ يُضَاءُ بِهِ طَرِيقُ إصَابَةِ الْحَقِّ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَيُدْرِكُ الْقَلْبُ بِهِ كَمَا يُدْرِكُ الْعَيْنُ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ الْمُبْصَرَاتِ.
وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نُورًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى النُّورِ هُوَ الظُّهُورُ لِلْإِدْرَاكِ فَإِنَّ النُّورَ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُظْهِرُ وَالْعَقْلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِلْبَصِيرَةِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَيْنِ الْبَاطِنِ كَالشَّمْسِ وَالسِّرَاجِ لِعَيْنِ الظَّاهِرِ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِتَسْمِيَةِ النُّورِ مِنْ الْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ؛ لِأَنَّ بِهَا لَا يَظْهَرُ إلَّا ظَوَاهِرُ الْأَشْيَاءِ فَتُدْرِكُ الْعَيْنُ بِهَا تِلْكَ الظَّوَاهِرَ لَا غَيْرُ فَأَمَّا الْعَقْلُ فَيَسْتَنِيرُ بِهِ بَوَاطِنَ الْأَشْيَاءِ وَمَعَانِيَهَا وَيُدْرِكُ حَقَائِقَهَا وَأَسْرَارَهَا فَكَانَ أَوْلَى بِاسْمِ النُّورِ وَقَوْلُهُ يُبْتَدَأُ مُسْنَدٌ إلَى الظَّرْفِ وَهُوَ الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِطَرِيقٍ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الطَّرِيقِ وَفِي بِتَأَمُّلِهِ إلَى الْقَلْبِ يَعْنِي ابْتِدَاءَ عَمَلِ الْقَلْبِ بِنُورِ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَبْصَرَ شَيْئًا يَتَّضِحُ لِقَلْبِهِ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِنُورِ الْعَقْلِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى بِنَاءٍ رَفِيعٍ وَانْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ يُدْرِكُ بِنُورِ عَقْلِهِ أَنَّ لَهُ بَانِيًا لَا مَحَالَةَ ذَا حَيَاةٍ وَقُدْرَةٍ وَعِلْمٍ إلَى سَائِرِ أَوْصَافِهِ الَّذِي لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَإِذَا نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ وَرَأَى إحْكَامَهَا وَرِفْعَتَهَا وَاسْتِنَارَةَ كَوَاكِبِهَا وَعِظَمَ هَيْئَتِهَا وَسَائِرَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَجَائِبِ اسْتَدَلَّ بِنُورِ عَقْلِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ صَانِعٍ قَدِيمٍ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ عَظِيمٍ حَيٍّ عَلِيمٍ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَيَبْتَدِي أَيْ يَظْهَرُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُ الْقَلْبُ الْمَطْلُوبَ إذَا تَأَمَّلَ - إنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِذَلِكَ - قَوْلُهُ (وَإِنَّهُ) أَيْ الْعَقْلَ لَا يُعْرَفُ فِي الْبَشَرِ أَيْ الْإِنْسَانِ إلَّا بِدَلَالَةِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ الْعَقْلِ وَمَا يَتْرُكُ مِنْهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ فِي عَاقِبَتِهِ أَمْرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَاقِبَتِهِ رَاجِعًا إلَى مَا فِي قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ أَيْ يَخْتَارُ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ فِي عَاقِبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ لِحِكْمَةٍ وَعَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ حِكْمَةٍ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْبَهَائِمِ وَبِالْعَقْلِ يُوقَفُ عَلَى الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِعْلُهُ عَلَى نَهْجِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ الْعَقْلِ فِيهِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ
وَالْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَى كَمَالِهِ فَشَرْطُنَا لِوُجُوبِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ كَمَالَ الْعَقْلِ فَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ وَلِيًّا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ.
ــ
[كشف الأسرار]
الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ قَالَ الشَّيْخُ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ فَصَارَ فِي الْحَاصِلِ الْعَقْلُ مَا يُوقَفُ بِهِ عَلَى الْعَوَاقِبِ وَالْعَاقِلُ مَنْ يَكُونُ أَكْثَرُ أَفْعَالِهِ عَلَى سَنَنِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ الْعَقْلُ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ فِي الْإِنْسَانِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] وَلَكِنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ وَصَلَاحِيَةٌ لَأَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَقْلُ فَهَذَا الِاسْتِعْدَادُ يُسَمَّى عَقْلًا بِالْقُوَّةِ وَعَقْلًا غَرِيزِيًّا ثُمَّ يَحْدُثُ الْعَقْلُ فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ بَلَغَ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَيُسَمَّى هَذَا عَقْلًا مُسْتَفَادًا فَقَبْلَ بُلُوغِهِ إلَى أُولَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ يَكُونُ قَاصِرًا لَا مَحَالَةَ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِحَسَبِ مَا يَمْضِي مِنْ الزَّمَانِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ أُولَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَنْ حَدِّ ذَلِكَ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَتِهِ أُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّنَا وَهُوَ الْبُلُوغُ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ مَقَامَ كَمَالِ الْعَقْلِ تَيْسِيرًا وَبُنِيَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اعْتِدَالَ الْعَقْلِ يَحْصُلُ عِنْدَهُ غَالِبًا؛ لِأَنَّ بِكَمَالِ الْبِنْيَةِ يَكْمُلُ قُوَى النَّفْسِ فَيَكْمُلُ بِكَمَالِ الْبِنْيَةِ الْعَقْلُ إذَا لَمْ تُعَارِضْهُ آفَةٌ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ مَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَهُ مِنْ الْعَقْلِ فِي الصَّبِيِّ مَرْحَمَةً وَفَضْلًا فَصَارَ الصَّبِيُّ فِي حُكْمِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فِيمَا يُخَافُ لُحُوقُ عُهْدَةٍ بِهِ، وَالْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَى كَمَالِهِ أَيْ كَمَالِهِ فِي مُسَمَّاهُ.
فَشَرَطْنَا لِوُجُوبِ الْحُكْمِ أَيْ لِوُجُوبِ حُكْمِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ وَصَيْرُورَتِهِ مُكَلَّفًا وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِخَبَرِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَالَ الْعَقْلِ فَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الشَّرْعِ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي الشَّرْعِ عَنْ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا لَمْ يُوَلِّهِ أُمُورَ نَفْسِهِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ فَلَأَنْ لَا يُوَلِّيَهُ أَمْرَ شَرْعِهِ أَوْلَى، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ أُمُورَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ فَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ فَأَمَّا عَدَمُ تَوْلِيَةِ أُمُورِ الصَّبِيِّ إلَى نَفْسِهِ فَلِنُقْصَانِ الْعَقْلِ فَيَظْهَرُ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَيْضًا وَلِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ مَرْدُودٌ مَعَ أَنَّهُ أَوْثَقُ مِنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِالتَّكْلِيفِ وَالصَّبِيُّ لَا يَخَافُهُ، وَلَا رَادِعَ لَهُ مِنْ الْكَذِبِ أَصْلًا لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فَكَانَ خَبَرُهُ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَوَقَعَ فِي ظَنِّ السَّامِعِ صِدْقُهُ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ مَعَ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فَكَذَا هَذَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ قَبِلُوا إخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَقَدْ رَدَّهُ النَّبِيُّ عليه السلام فِيهِ لِصِبَاهُ ثُمَّ إنَّهُمْ اعْتَمَدُوا خَبَرَهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِعِلْمٍ وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى رِوَايَةِ صَبِيٍّ.
وَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِهِ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ وَالْمُسَامَحَةُ وَالْمُسَاهَلَةُ فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا أَهْلُ قُبَاءَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي أَتَاهُمْ أَنَسٌ رضي الله عنه فَكَانَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى خَبَرِهِ أَوْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ بَالِغًا يَوْمَئِذٍ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَدَّهُ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ يَوْمَئِذٍ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا؛ لِأَنَّ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَهَذَا إذَا كَانَ السَّمَاعُ وَالرِّوَايَةُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنْ كَانَ السَّمَاعُ قَبْلَهُ وَالرِّوَايَةُ بَعْدَهُ يُقْبَلُ خِلَافًا لِقَوْمٍ إذْ لَا خَلَلَ فِي تَحَمُّلِهِ لِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا، وَلَا فِي رِوَايَتِهِ لِكَوْنِهِ عَامِلًا مُكَلَّفًا
وَأَمَّا الضَّبْطُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ سَمَاعُ الْكَلَامِ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ ثُمَّ فَهْمُهُ بِمَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ ثُمَّ حِفْظُهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ لَهُ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ بِمُحَافَظَةِ حُدُودِهِ مُرَاقَبَتِهِ بِمُذَاكَرَتِهِ عَلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ إلَى حِينِ أَدَائِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ التَّحَمُّلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَكَذَا الرِّوَايَةُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى قَبُولِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَهُ وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَةِ وَإِسْمَاعِهِمْ الْأَحَادِيثَ وَقَبُولِ رِوَايَةِ مَا تَحَمَّلُوهُ فِي الصِّبَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ثُمَّ قِيلَ أَقَلُّ مُدَّةٍ يَصِيرُ الصَّبِيُّ فِيهَا أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ: أَرْبَعُ سِنِينَ لِحَدِيثِ «مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ حَفِظْت مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِي وَجْهِي مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي دَارِهِمْ» وَكَانَ ابْنُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ خَمْسَ سِنِينَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَقْدِيرَ.
وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا عِنْدَ التَّحَمُّلِ عَدْلًا مُسْلِمًا عِنْدَ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ فِي النَّصْرَانِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَالصَّبِيِّ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً فَلَا يُدْعَوْنَ لَهَا حَتَّى يُسْلِمَ هَذَا وَيَعْتِقَ هَذَا وَيَحْتَلِمَ هَذَا ثُمَّ يَشْهَدُونَ بِهَا فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ فِي الْحُكْمِ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا حَفِظُوهَا قَبْلَ إسْلَامِهِمْ وَأَدَّوْهَا بَعْدَهُ كَذَا فِي الْكِفَايَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ أَيْ وَكَالصَّبِيِّ الْمَعْتُوهُ وَهُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ صِبًا وَلَا جُنُونٍ فَيُشْبِهُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ تَارَةً بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَارَةً بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ وَأَفْعَالِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَقْلِ بِالْعَتَهِ فَوْقَ النُّقْصَانِ بِالصِّبَا إذْ الصَّبِيُّ قَدْ يَكُونُ أَعْقَلَ مِنْ الْبَالِغِ، وَلَا يَكُونُ الْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] فَكَانَ خَبَرُهُ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَقَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ مُتَفَاوِتٌ بَيَانُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْعَقْلِ أَيْ الْقَاصِرِ مَا يُقَارِنُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِهِ وَهُوَ الصِّبَا وَالْكَامِلُ لَا حَدَّ لِأَعْلَاهُ، وَلَا يُدْرَكُ إذْ هُوَ فِي التَّزَايُدِ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْقِسْمَةِ مُتَفَاوِتٌ فَاعْتُبِرَ أَدْنَى دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَذَلِكَ خَفِيٌّ أَيْضًا فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ وَاعْتِدَالِهِ بَيَانُ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، قَوْلُهُ.
(وَأَمَّا الضَّبْطُ) فَكَذَا ضَبْطُ الشَّيْءِ لُغَةً حِفْظُهُ بِالْجَزْمِ وَمِنْهُ الْأَضْبَطُ الَّذِي يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَضَبْطُ الْخَبَرِ سَمَاعُهُ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ بِأَنْ يَصْرِفَ هِمَّتَهُ إلَيْهِ وَيُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَشِذَّ مِنْهُ وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ ثُمَّ فَهِمَهُ أَيْ فَهِمَ الْكَلَامَ مُلْتَبِسًا بِمَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ يَعْنِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ أَوْ اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ جَمِيعًا ثُمَّ حَفِظَهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ لَهُ أَيْ حَفِظَ الْكَلَامَ بِبَذْلِ الطَّاقَةِ فِي حِفْظِهِ بِأَنْ يُكَرِّرَهُ إلَى أَنْ يَحْفَظَهُ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْحِفْظِ بِمُحَافَظَةِ حُدُودِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ بِبَدَنِهِ وَيُذَاكِرَهُ بِلِسَانِهِ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالْمُذَاكَرَةِ يُورِثُ النِّسْيَانَ عَلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ بِأَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى نَفْسِهِ: أَنِّي لَا أَنْسَاهُ، وَلَا يُسَامِحُ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ بَلْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ وَيُذَاكِرَهُ دَائِمًا مُقَدِّرًا فِي نَفْسِهِ: أَنِّي إذَا تَرَكْت الْمُذَاكَرَةَ نَسِيَتُهُ إذْ الْجَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إذَا رَوَى حَدِيثًا أَخَذَهُ الْبُهْرُ وَجَعَلَتْ فَرَائِصُهُ تَرْتَعِدُ بِاعْتِبَارِ سُوءِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الزُّهْدِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْفَقَاهَةِ إلَى حِينِ أَدَائِهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا فَسَّرَ الضَّبْطَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ بِدُونِ السَّمَاعِ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَهْمُ وَبَعْدَ السَّمَاعِ إذَا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْكَلَامِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَمَاعًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ سَمَاعُ صَوْتٍ لَا سَمَاعَ كَلَامٍ هُوَ خَبَرٌ وَبَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى يَتِمُّ التَّحَمُّلُ وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ كَمَا تَحَمَّلَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِالْحِفْظِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، ثُمَّ الْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَنْهُ
وَهُوَ نَوْعَانِ: ضَبْطُ الْمَتْنِ بِصِيغَتَيْهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً، وَالثَّانِي أَنْ يَضُمَّ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَبْطَ مَعْنَاهُ فِقْهًا وَشَرِيعَةً وَهَذَا أَكْمَلُهُمَا وَالْمُطْلَقُ مِنْ الضَّبْطِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ خِلْقَةً أَوْ مُسَامَحَةً وَمُجَازَفَةً حُجَّةً لِعَدَمِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الضَّبْطِ؛ وَلِهَذَا قَصُرَتْ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ لَا ضَبْطَ لَهُ جُعِلَ حُجَّةً
ــ
[كشف الأسرار]
بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِهَذَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ أَبُو حَنِيفَةَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِمَنْ عَرَفَ خَطَّهُ فِي الصَّكِّ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا تَحَمَّلَ وَبِدُونِ الضَّبْطِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.
قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الضَّبْطُ نَوْعَانِ ضَبْطُ الْمَتْنِ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً أَيْ الضَّبْطِ نَفْسِ الْحَدِيثِ وَلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ مَعَ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» بِالرَّفْعِ أَوْ النَّصْبِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّصْبِ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ الصِّيغَةِ بِمَعْنَاهَا لُغَةً وَالثَّانِي أَنْ يَضُمَّ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَبْطَ مَعْنَاهُ فِقْهًا وَشَرِيعَةً مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ مَثَلًا وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَعَلِّقَةٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ وَهَذَا أَيْ ضَبْطُ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ أَكْمَلُ النَّوْعَيْنِ أَيْ الْكَامِلِ مِنْهُمَا وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الضَّبْطِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ أَيْ الضَّبْطَ الَّذِي هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الرَّاوِي الضَّبْطُ الْكَامِلُ لَا النَّاقِصُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَقْلِ أَنَّ الشَّرْطَ مِنْهُ هُوَ الْكَامِلُ وَذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا لَمْ يَضْبِطْ الرَّاوِي فِقْهَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا يَقَعُ خَلَلٌ فِي النَّقْلِ بِأَنْ يُقَصِّرَ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ وَيُؤْمَنُ عَنْ مِثْلِهِ إذَا كَانَ فَقِيهًا؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الضَّبْطِ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ خِلْقَةً بِأَنْ كَانَ سَهْوُهُ وَنِسْيَانُهُ أَغْلَبَ مِنْ ضَبْطِهِ وَحِفْظِهِ أَوْ مُسَامَحَةً أَيْ مُسَاهَلَةً لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِشَأْنِ الْحَدِيثِ حُجَّةً، وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي وَالْمُجَازَفَةُ التَّكَلُّمُ مِنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ وَتَيَقُّظٍ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ.
؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ كَمَالِ الضَّبْطِ قَصُرَتْ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ أَيْ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةُ غَيْرِ الْفَقِيهِ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ بَلْ يَتَرَجَّحُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِفَوَاتِ كَمَالِ الضَّبْطِ فِي الْأَوَّلِ وَوُجُودِهِ فِي الثَّانِي وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ رَوَى لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ عَمْرُو فَقُلْتُ لِجَابِرٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» فَقَالَ: إنَّهَا كَانَتْ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهَا فَقُلْت وَقَدْ كَانَتْ خَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَيْضًا فَقَالَ أَنَّى يُجْعَلُ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ الْبَوَّالُ عَلَى عَقِبَيْهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَدَلَّ أَنَّ رِوَايَةَ غَيْرِ الْفَقِيهِ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الضَّبْطِ مِنْ الْفَقِيهِ وَمَا ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْفَقِيهِ وَقَالَ قَوْمٌ هَذَا التَّرْجِيحُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى أَمَّا الْمَرْوِيُّ بِاللَّفْظِ فَلَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ، وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَإِذَا حَضَرَ الْمَجْلِسَ وَسَمِعَ كَلَامًا لَا يَجُوزُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بَحَثَ عَنْهُ وَسَأَلَ عَنْ مُقَدِّمَتِهِ وَسَبَبِ وُرُودِهِ فَيَطَّلِعُ عَلَى مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَيَنْقُلُ الْقَدْرَ الَّذِي سَمِعَهُ فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِلضَّلَالِ.
وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِ كَانَتْ رِوَايَتُهُ رَاجِحَةً؛ لِأَنَّ الْوُثُوقَ بِاحْتِرَازِ الْأَفْقَهِ عَنْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَتَمُّ مِنْ الْوُثُوقِ بِاحْتِرَازِ الْأَضْعَفِ وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ
لِأَنَّ نَقْلَهُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْمٍ هُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَخَيْرُ الْوَرَى وَلِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ عَلَى الْخُصُوصِ مِثْلُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ التِّلَاوَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فَاعْتُبِرَ فِي نَقْلِهِ نَظْمُهُ وَبُنِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ فَأَمَّا السُّنَّةُ فَإِنَّ الْمَعْنَى أَصْلُهَا وَالنَّظْمُ غَيْرُ لَازِمٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ لَا يَضْبِطُ الصِّيغَةَ بِمَعْنَاهَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا بَذَلَ مَجْهُودَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ لَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عُدِمَ ذَلِكَ عَادَةً شَرَطْنَا كَمَالَ الضَّبْطِ لِيَصِيرَ حُجَّةً وَمَعْنَى قَوْلِنَا أَنْ يَسْمَعَهُ حَقَّ سَمَاعِهِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَنْتَهِي إلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ مَضَى صَدْرٌ مِنْ الْكَلَامِ فَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَكَلِّمِ هُجُومُهُ لِيُعِيدَ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ فَعَلَى السَّامِعِ الِاحْتِيَاطُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ قَدْ يَزْدَرِي السَّامِعُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرَاهَا أَهْلًا لِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ فَيُقَصِّرُ فِي بَعْضِ مَا أُلْقِي إلَيْهِ ثُمَّ يُفْضَى بِهِ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يَتَصَدَّى لِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ قَصَّرَ فِي بَعْضِ مَا لَزِمَهُ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا مُرَاقَبَتَهُ.
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّيْخِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ لَيْسَ لِبَيَانِ خِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَلْ لِبَيَانِ نَفْسِ الْمَذْهَبِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ لَا نَعْرِفُهُ مِمَّنْ لَا ضَبْطَ لَهُ أَيْ لَا يَضْبِطُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَلَا اللُّغَوِيَّ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ نَقْلِ الْقُرْآنِ ثَبَتَ لِقَوْمٍ كَانُوا أَئِمَّةَ الْهُدَى وَخَيْرَ الْوَرَى أَيْ الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ قَرْنٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَوَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ الْغَلَطِ وَالتَّصْحِيفِ بِنَقْلِهِمْ فَيَكُونُ نَقْلُ مَنْ لَا ضَبْطَ لَهُ تَبَعًا لِنَقْلِهِمْ فَيُقْبَلُ وَلِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ فَإِنَّ إعْجَازَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فَكَانَ النَّظْمُ فِيهِ مَقْصُودًا كَالْمَعْنَى وَالْمَعْنَى مُودَعٌ فِي اللَّفْظِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَبَعًا لِلَّفْظِ وَلِذَلِكَ حَرُمَ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَا حَرُمَ ذُكِرَ مَعْنَاهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ يَتَعَلَّقُ بِقِرَاءَةِ النَّظْمِ دُونَ الْمَعْنَى عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ عِنْدَ الْكُلِّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَنْ أَصْلِ الْمَذْهَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ النَّظْمَ وَالْكُلُّ فِي ضَبْطِ النَّظْمِ سَوَاءٌ صَحَّ النَّقْلُ عَنْ الْكُلِّ، وَفِي الْإِخْبَارِ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى فَصَحَّ النَّقْلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْفَقِيهُ دُونَ مَنْ لَا يَعْقِلُهُ بَذَلَ مَجْهُودَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ تَرَادُفٌ إذْ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ بَذْلُ الطَّاقَةِ أَيْضًا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ أَيْ بَذَلَ مَجْهُودَهُ فِي ضَبْطِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطِ الْمَعْنَى فِي الْخَبَرِ كَانَ حُجَّةً أَيْضًا وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حَدِيثَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَنْقُلُهُ كَالْأَعْجَمِيِّ لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ضَبْطِهِ لِلْحَدِيثِ؛ وَلِهَذَا يُمْكِنُ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَحْفَظَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ وَقَدْ قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ أَخْبَارَ الْأَعْرَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ.
وَقَدْ يَزْدَرِي السَّامِعُ بِنَفْسِهِ أَيْ يَسْتَخِفُّهَا وَيَسْتَحْقِرُهَا إلَى أَنْ يَتَصَدَّى لِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ أَيْ يَتَعَرَّضُ لَهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نُسْأَلُ وَلَسْنَا هُنَاكَ ثُمَّ قَضَى اللَّهُ أَنْ بَلَغْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ قِيلَ هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ مُتَوَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَقِيلَ هَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى حَاصِلِ صِغَرِهِ وَجَهْلِهِ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ رَفَعَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إلَى مَا بَلَّغَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ تِلْمِيذٍ يَتَعَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْكُوفَةِ خَرَجَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى سَدُّوا الْأُفُقَ فَلَمَّا رَآهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَالَ مُلِئَتْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ عِلْمًا وَفِقْهًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا مُرَاقَبَتَهُ أَيْ مُرَاقَبَةَ السَّمَاعِ فَإِنْ تَحَقَّقَ سَمَاعُهُ كَمَا هُوَ حَقُّهُ وَتَمَّ ضَبْطُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَرْوِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُجَازِفْ فِي الرِّوَايَةِ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ رِوَايَةِ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يُسْتَدَلُّ عَلَى قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ فَيُرَدُّ خَبَرُهُ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ وَكَانَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أَكْبَرَ الصَّحَابَةِ وَأَدْوَمَهُمْ صُحْبَةً وَكَانَ أَقَلَّهُمْ رِوَايَةً وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَرِيكُكُمْ يَعْنِي فِي تَقْلِيلِ الرِّوَايَةِ.
وَلَمَّا قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَلَا تَرْوِي لَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام شَيْئًا قَالَ قَدْ كَبِرْنَا وَنَسِينَا، وَالرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَمْرٌ شَدِيدٌ؛ وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَاتُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَتَّى قَالَ بَعْضُ الطَّاغِينَ إنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا بَلْ كَانَ أَعْلَمَ عَصْرِهِ بِالْحَدِيثِ وَلَكِنْ لِمُرَاعَاةِ شَرْطِ كَمَالِ الضَّبْطِ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.
وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهَا الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ طَرِيقٌ عَدْلٌ لِلْجَادَّةِ وَجَائِرٌ لِلْبُنَيَّاتِ وَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا: قَاصِرٌ وَكَامِلٌ أَمَّا الْقَاصِرُ فَمَا ثَبَتَ مِنْهُ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَالَةُ الِاسْتِقَامَةِ لَكِنْ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُفَارِقُهُ هَوًى يُضِلُّهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ وَلَيْسَ الْكَمَالُ إلَّا اسْتِقَامَةَ حَدٍّ يُدْرَكُ مَدَاهُ؛ لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ يَتَفَاوَتُ فَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَضْيِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ رُجْحَانُ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ عَلَى طَرِيقِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ فَقِيلَ: مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَصَارَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى مَا دُونَ الْكَبِيرَةِ كَانَ مِثْلَهَا فِي وُقُوعِ التُّهْمَةِ وَجَرْحِ الْعَدَالَةِ فَأَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ فَعَدْلٌ كَامِلُ الْعَدَالَةِ وَخَبَرُهُ حُجَّةٌ فِي إقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْعَدَالَةِ يَنْصَرِفُ إلَى أَكْمَلِ الْوَجْهَيْنِ
ــ
[كشف الأسرار]
قَوْلُهُ (أَمَّا الْعَدَالَةُ فَكَذَا) هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ ضِدِّ الْجَوْرِ وَهُوَ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِفِعْلِ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَتَرْكِ مَا يَجِبُ لَهُ تَرْكُهُ، وَعَنْ الِاسْتِقَامَةِ يُقَالُ فُلَانٌ عَادِلٌ أَيْ مُسْتَقِيمُ السِّيرَةِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَيُقَالُ لِلْجَادَّةِ طَرِيقٌ عَادِلٌ لِاسْتِقَامَتِهَا وَجَائِرٌ لِلْبُنَيَّاتِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَهِيَ الطُّرُقُ الْحَادِثَةُ مِنْ الْجَادَّةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَالدِّينِ وَضِدُّهَا الْفِسْقُ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ وَفَسَّرَهَا الْبَعْضُ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِيَّةِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى هَيْئَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا حَتَّى يَحْصُلَ ثِقَةُ النُّفُوسِ بِصِدْقِهِ فَلَا ثِقَةَ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ خَوْفًا وَازِعًا عَنْ الْكَذِبِ.
أَمَّا الْقَاصِرُ فَمَا ثَبَتَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْعَدَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ فِسْقٍ ظَاهِرٍ فَإِنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا فَهُوَ عَدْلٌ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَيَزْجُرَانِهِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْخُرُوجِ عَنْ حَدِّ الشَّرِيعَةِ وَبِهَذِهِ الْعَدَالَةِ لَا يَصِيرُ الْخَبَرُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ عَارَضَهُ ظَاهِرٌ مِثْلُهُ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ قَبْلَ الْعَقْلِ وَحِينَ رُزِقَ الْعَقْلَ وَالنُّهَى مَا زَايَلَهُ الْهَوَى وَأَنَّهُ دَاعٍ إلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَكَانَ عَدْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ عَاقِلَانِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَتَرَدَّدَ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فَشُرِطَ كَمَالُ الْعَدَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُجَانِبًا لِمَحْظُورِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى الْهَوَى فَيَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ وَلَا يُفَارِقُهُ هَوًى يُضِلُّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] .
وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لِكَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ بَيَانُ النَّوْعِ الثَّانِي كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْكَامِلُ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ بِالِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا أَنَّ هَذَا كَمَالٌ لَا يُدْرَكُ مَدَاهُ أَيْ غَايَتُهُ فَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ مَا لَا يُؤَدِّي اعْتِبَارُهُ إلَى الْحَرَجِ وَتَضْيِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ أَيْ أَحْكَامِهَا فَاشْتُرِطَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ حَتَّى لَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تُبْطِلُ عَدَالَتَهُ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا لَا تَبْطُلُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ جَمِيعِ الصَّغَائِرِ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً فَإِنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الزَّلَّاتِ جَمِيعًا فَاشْتِرَاطُ التَّحَرُّزِ عَنْ جَمِيعِهَا لِإِثْبَاتِ الْعَدَالَةِ حِينَئِذٍ إلَّا نَادِرًا فَسَقَطَ فَأَمَّا الِاجْتِنَابُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَعَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَغَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَلَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا وَاضْطَرَبَتْ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ فِي الْكَبَائِرِ فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الْكَبَائِرُ تِسْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ. وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْفِرَارُ عَنْ الزَّحْفِ وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ» أَيْ الظُّلْمُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ: مِنْ أَلْحَدَ الرَّجُلُ إذَا ظَلَمَ فِي الْحَرَمِ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَعَ ذَلِكَ أَكْلُ الرِّبَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ السَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقِيلَ مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالذِّكْرِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي الْمُسْتَصْفَى لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعِصْمَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَلَا يَكْفِي أَيْضًا اجْتِنَابُ
فَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ حُجَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ أَوْلَى وَالْجَوَابُ أَنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَقْبُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا: بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى ذَلِكَ الْقَرْنِ بِالْعَدَالَةِ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى كَمَا هُوَ بِصِفَاتِهِ وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ بِنُشُوِّهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْوَالِدَيْنِ، وَثَابِتٌ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ
ــ
[كشف الأسرار]
الْكَبَائِرِ بَلْ مِنْ الصَّغَائِرِ مَا يُرَدُّ بِهِ كَسَرِقَةِ بَصَلَةٍ أَوْ تَطْفِيفٍ فِي حَبَّةٍ قَصْدًا وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى رَكَاكَةِ دِينِهِ إلَى حَدٍّ يَسْتَجْرِئُ عَلَى الْكَذِبِ بِالْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ يُرَدُّ بِهِ كَيْفَ وَقَدْ شُرِطَ فِي الْعَدَالَةِ التَّوَقِّي عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْمُرُوءَةِ نَحْوِ الْأَكْلِ فِي الطَّرِيقِ وَالسُّوقِ لِغَيْرِ السُّوقِيِّ وَالْبَوْلِ فِي الشَّارِعِ وَصُحْبَةِ الْأَرْذَالِ وَأَفْرَادِ الْمَزْحِ وَالْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ مِنْ دِبَاغَةٍ وَحِجَامَةٍ وَحِيَاكَةٍ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ مُرْتَكِبَهَا لَا يَجْتَنِبُ الْكَذِبَ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مَوْثُوقًا بِهِ.
قَالَ وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ فِيمَا جَاوَزَ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ أَنْ يُرَدَّ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فَمَا دَلَّ عِنْدَهُ عَلَى جُرْأَتِهِ عَلَى الْكَذِبِ يُرَدُّ الشَّهَادَةَ بِهِ وَمَا لَا فَلَا وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ لَا مِنْ الْأُصُولِ وَرُبَّ شَخْصٍ يَعْتَادُ الْغِيبَةَ وَيَعْلَمُ الْحَاكِمُ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ طَبْعٌ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ لَمْ يَشْهَدْ أَصْلًا فَقَبُولُهُ شَهَادَتَهُ بِحُكْمِ اجْتِهَادِهِ جَائِزٌ فِي حَقِّهِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِعَادَاتِ الْبِلَادِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِي اسْتِعْظَامِ بَعْضِ الصَّغَائِرِ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ هُوَ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ الْهِمَّةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَتَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ، وَتَرْكُ الْإِصْرَارِ عَلَى سَائِرِ الصَّغَائِرِ؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لَمْ يُجْعَلْ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ حُجَّةً لِفَوَاتِ أَصْلِ الْعَدَالَةِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَفَوَاتِ كَمَالِهَا فِي حَقِّ الْمَسْتُورِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ عَدَالَتُهُ، وَلَا فِسْقُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَلَمْ يَجِبْ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَسْتُورَ مَعْلُومُ الذَّاتِ مَجْهُولُ الْحَالِ وَالْمَجْهُولُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالذَّاتِ وَالْحَالِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ وَثُبُوتَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَيَكُونُ هُوَ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَسْتُورِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ فِي غَيْرِ قُرُونِ الثَّلَاثَةِ حُجَّةً مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الذَّاتِ كَانَ خَبَرُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ إذَا لَمْ يُقَابَلْ بِقَبُولٍ، وَلَا بِرَدٍّ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَاهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَسْتُورَ مَنْ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ رَدٌّ مِنْ السَّلَفِ وَالْمَجْهُولُ قَدْ رَدَّهُ بَعْضُ السَّلَفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ، وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ الَّذِي رَدَّهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَجْهُولُ وَالْمَسْتُورُ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مَقْبُولٌ لِغَلَبَةِ الْعَدَالَةِ فِيهِمْ وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مَرْدُودٌ لِغَلَبَةِ الْفِسْقِ.
مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَيْ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ هُوَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ الْقَرْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِشُمُولِ دَلِيلِ الْقَبُولِ وَهُوَ شَهَادَةُ الرَّسُولِ بِالْعَدَالَةِ لِلْجَمِيعِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا بِأَنْ شَهِدَ الثِّقَاتُ بِصِحَّتِهِ وَعَمِلُوا بِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنْهُ أَوْ اخْتَلَفُوا أَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ الْقِيَاسُ، وَلَا يَرُدُّهُ وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمَجْهُولَ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا الْمَجْهُولُ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وَالثَّانِي الْمَجْهُولُ الَّذِي جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ الْبَاطِنَةُ وَهُوَ عَدْلٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمَسْتُورُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فَيَقْبَلُ رِوَايَتَهُ بَعْضُ مَنْ رَدَّ رِوَايَةَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَخْبَارِ مَبْنِيٌّ
إلَّا أَنَّ هَذَا كَمَالٌ يَتَعَذَّرُ شَرْطُهُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْخَلْقِ بِأَوْصَافِهِ عَلَى التَّفْسِيرِ مُتَفَاوِتَةٌ؛ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْكَمَالُ بِمَا لَا حَرَجَ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا قُلْنَا: إجْمَالًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ بَيَانِهِ وَتَفْسِيرِهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُسْتَوْصَفَ الْمُؤْمِنُ فَيُقَالُ أَهُوَ كَذَا فَإِذَا قَالَ نَعَمْ فَقَدْ ظَهَرَ كَمَالُ إسْلَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام اسْتَوْصَفَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ عَنْ ذِكْرِ الْجُمَلِ دُونَ التَّفْسِيرِ وَكَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ أَيْضًا بِذَلِكَ أُمِرْنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] وَكَانَ النَّبِيُّ عليه السلام يَمْتَحِنُ الْأَعْرَابَ بَعْدَ دَعْوَى الْإِيمَان
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي؛ وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَعْرِفَتِهَا فِي الظَّاهِرِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ فِي حَقِّهِمْ وَالثَّالِثُ - الْمَجْهُولُ الْعَيْنِ وَقَدْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ الْعَدَالَةِ مَنْ لَا يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ الْعَيْنِ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ عَدْلَانِ وَعَيَّنَاهُ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْجَهَالَةُ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ الْبَغْدَادِيَّ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يَرْفَعُ الْجَهَالَةَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ الرَّجُلِ اثْنَانِ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ، قَوْلُهُ.
(وَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ) فَكَذَا هُمَا هَاهُنَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَقُلْ تَفْسِيرَهُمَا وَذَكَرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ إذَا ذُكِرَا مَعًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدًا، وَإِنْ ذُكِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ الْبَاطِنِيَّ وَمِنْ الْإِسْلَامِ الطَّاعَاتِ وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقُ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامَ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ عز وجل أَيْ يُصَدِّقُ بِقَلْبِهِ وَيُقِرُّ بِلِسَانِهِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ جل جلاله وَبِكَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِثْلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِلْأُلُوهِيَّةِ وَبِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِثْلِ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْقَادِرِ وَالْعَلِيمِ إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَائِبٌ عَنْ الْحِسِّ وَالْغَائِبُ يُعْرَفُ بِالصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَيْضًا التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِأَنَّ الْقَدَرَ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ مِنْ اللَّهِ عز وجل وَبِسَائِرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ظَاهِرٌ بِنُشُوئِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِأَنْ وُلِدَ فِيهِمْ وَنَشَأَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ شَهَادَةً وَعِبَادَةً يُقَالُ نَشَأْت فِي بَنِي فُلَانٍ نَشْئًا أَوْ نُشُوءًا إذَا شَبَبْت فِيهِمْ.
وَثَابِتٌ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ وَيَصِفَ جَمِيعَ مَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَصْفًا عَنْ عِلْمٍ وَتَيَقُّنٍ لَا عَنْ ظَنٍّ وَتَلَقُّنٍ؛ لِأَنَّ حِفْظَ اللُّغَةِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْعِلْمُ فَلَا يُفِيدُ حِفْظَ اللُّغَةِ بِدُونِهِ فَإِذَا وُصِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مُسْلِمًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ وَجَوَابٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ذِكْرُ الْوَصْفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا يَجِبُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَبَيَانُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَعْرِفُ مَنْ هُوَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَقَالَ الشَّيْخُ مَا ذَكَرْتُمْ وَهُوَ الْوَصْفُ عَلَى التَّفْصِيلِ كَمَالٌ يَتَعَذَّرُ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْخَلْقِ بِأَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَفَاوِتَةٌ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيَانِ تَفْسِيرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فَيُشْتَرَطُ الْكَمَالُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ وَيُقِرَّ إجْمَالًا بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِثُبُوتِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ يَثْبُتُ حَقِيقَةً بِالْبَيَانِ إجْمَالًا قُلْنَا: الْوَاجِبُ لَا يُسْتَوْصَفُ الْمُؤْمِنُ فَيُقَالُ: أَتُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ قَادِرٌ عَالِمٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُرِيدٌ خَالِقٌ إلَى آخِرِ أَوْصَافِهِ الَّتِي يَجِبُ ذِكْرُهَا فِي الْإِيمَانِ أَوْ يُقَالُ: أَتُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ حَقٌّ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ حُكِمَ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْوَصْفِ
إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُهُ فَيَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام «إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْجَمَاعَةَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» فَأَمَّا مَنْ اُسْتُوْصِفَ فَجَهِلَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ كَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الصَّغِيرَةِ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إذَا لَمْ تَصِفْ الْإِيمَانِ حَتَّى أَدْرَكَتْ فَلَمْ تَصِفْهُ أَنَّهَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَانَ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَكَانَ خَبَرُهُمْ حُجَّةً بِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى تَمْيِيزٍ زَائِدٍ يَنْعَدِمُ بِالْعَمَى وَإِلَى وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَدِّيَةٍ يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ وَتَقْصُرُ بِالْأُنُوثَةِ وَبِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى مَا عُرِفَ
ــ
[كشف الأسرار]
قَالُوا وَهَذَا إذَا وَافَقَ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ مَا فِي قَلْبِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ فَإِنْ اعْتَقَدَهُ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الِاسْتِيصَافُ إلَّا بِتَبْدِيلِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ.
ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِفِعْلِ النَّبِيِّ عليه السلام فَقَالَ، أَلَا يُرَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام اسْتَوْصَفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ عَنْ ذِكْرِ الْجُمَلِ دُونَ التَّفْسِيرِ حَتَّى «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ» وَحِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عليهما السلام عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ مَعَالِمَ الدِّينِ بَيَّنَ هُوَ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ أَيْضًا يَعْنِي لَا يُكْتَفَى فِي الْإِسْلَامِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ وَهُوَ الْبَيَانُ إجْمَالًا كَمَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أَيْ اخْتَبِرُوهُنَّ بِبَيَانِ الشَّهَادَتَيْنِ أَمَرَ بِالِامْتِحَانِ وَالِاسْتِيصَافِ بَعْدَ أَنْ سَمَّاهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا فِي ضَمِيرِهِنَّ وَدَعْوَاهُنَّ الْإِيمَانَ وَهِجْرَتِهِنَّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاسْتِيصَافَ فِيهِ شَرْطٌ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يَمْتَحِنُ الْأَعْرَابَ بَعْدَ دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ يَعْنِي لَا يَكْتَفِي فِي الْإِسْلَامِ بِالظَّاهِرِ وَيُشْتَرَطُ الِاسْتِيصَافُ إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيصَافُ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الِاسْتِيصَافَ إنَّمَا يَجِبُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ نَحْوُ إقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَكْلِ ذَبِيحَتِنَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَقَامَ الْوَصْفِ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ بِإِيمَانِهِ لِلْحَدَثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ فَأَمَّا مَنْ اُسْتُوْصِفَ فَجَهِلَ بِأَنْ وُصِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَا أَعْرِفُ مَا تَقُولُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله ذَكَرَ فِي نِكَاحِ الْجَامِعِ مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ صَبِيَّةً مُسْلِمَةً فَأَدْرَكَتْ وَلَمْ تَصِفْ الْإِسْلَامَ قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً تَبَعًا وَقَدْ انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ فَإِذَا لَمْ تَصِفْ الْإِسْلَامَ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا مَحْضًا وَالْجَهْلُ بِالصَّانِعِ كُفْرٌ مِنْهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ مُرْتَدَّةً، قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي شَرْحِ الْجَامِعِ: وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ حِفْظُهُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِأَنْ تُلَقَّنَ الْإِسْلَامَ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ احْتِرَازًا عَنْ هَذَا وَعَلَى الزَّوْجِ الِاحْتِيَاطُ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا حِينَ تُزَفُّ إلَيْهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ لَمْ تَصِفْ الْإِسْلَامَ أَنَّهَا لَا تُحْسِنُ الْوَصْفَ، وَلَا تَعْرِفُ إنْ وُصِفَ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَسْتَوْصِفَهَا الْإِسْلَامَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهَا صِفِي الْإِسْلَامَ فَإِنَّهَا تَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تُحْسِنُهُ حَيَاءً مِنْ زَوْجِهَا وَلَكِنْ يَصِفُ بَيْنَ يَدَيْهَا وَيَقُولُ هَذَا اعْتِقَادِي وَظَنِّي بِك أَنَّك تَعْتَقِدِينَ هَذَا فَإِنْ قَالَتْ نَعَمْ كَفَى ذَلِكَ وَكَانَتْ مُسْلِمَةً حَلَالًا لَهُ، وَإِنْ قَالَتْ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ) وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ وَالضَّبْطَ وَالْعَدَالَةَ وَالْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الرَّاوِي كَانَ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ لِتَحَقُّقِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
فَأَمَّا هَذَا فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَلْزَمُ السَّامِعَ مِنْ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِأُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْفَصْلُ وَالْقَضَاءُ وَالسَّمَاعُ بِالْتِزَامِهِ لَا بِإِلْزَامِ الْخَصْمِ، وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ فِي الدِّينِ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بِمِثْلِهِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
تَوَقَّفَتْ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ أَمَّا الْأَعْمَى فَلِأَنَّ الْعَمَى إنَّمَا مَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَحْتَاجُ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا وَإِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فِيمَا يَجِبُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَصِيرِ بِالْمُعَايَنَةِ وَمِنْ الْأَعْمَى بِالِاسْتِدْلَالِ وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي جِنْسِ الشُّهُودِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّمْيِيزِ فَكَانَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فِيهِ سَوَاءً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَمْيِيزٌ زَائِدٌ وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الشَّهَادَةِ الْوِلَايَةِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى، وَالشَّهَادَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَبِالرِّقِّ تَنْعَدِمُ الْوِلَايَةُ أَصْلًا وَبِالْأُنُوثَةِ تُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَرْأَةُ، وَإِنْ صَلَحَتْ مَالِكَةً لِلْمَالِ لَا تَصْلُحُ مَالِكَةً فِي النِّكَاحِ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا أُقِيمَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَا انْتَقَصَتْ وِلَايَةُ الشَّهَادَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَنْعَدِمْ حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَلِفَوَاتِ الْوِلَايَةِ أَوْ لِنُقْصَانِهَا رُدَّتْ شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا هَذَا أَيْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَكِنَّ السَّامِعَ قَدْ الْتَزَمَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ شَابَهُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِمَّنْ هُوَ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ عِنْدَ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ بِالْتِزَامِهِ وَتَقَلُّدِهِ هَذِهِ الْأَمَانَةَ لَا بِإِلْزَامِ الْخَصْمِ أَيْ الشَّاهِدِ فَإِنَّ كَلَامَ الشَّاهِدِ يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ دُونَ الْقَاضِي فَصَارَ تَقَلُّدُهُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْخَصْمِ الْمُدَّعِي أَيْ لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَلْ يَلْزَمُهُ بِتَقَلُّدِهِ أَمَانَةَ الْقَضَاءِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمَاعُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي الْكَافِرِ وَإِلَى إنْكَارِهِ وَإِلَى شَهَادَتِهِ عَلَى كَافِرٍ مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِمُوجِبِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُلْزِمَةً عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِمَاعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ بَلْ فِيهِ بَيَانُ صِفَةٍ تَتَأَدَّى بِهَا الصَّلَاةُ إذَا أَرَادَهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا خِيَاطَةَ إلَّا بِالْإِبْرَةِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْخَبَرِ يَلْزَمُ الْمُخْبَرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي مِثْلِهِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْتِزَامٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ.
بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ كَمَالِ الْوِلَايَةِ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مَنْعُ كَوْنِ الْخَبَرِ مُلْزِمًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي تَسْلِيمُ ذَلِكَ وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَقَدْ ثَبَتَ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ اُبْتُلِيَ بِذَهَابِ الْبَصَرِ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنهم وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُمْ مَقْبُولَةٌ وَلَمْ يَتَفَحَّصْ أَحَدٌ أَنَّهُمْ رَوَوْا قَبْلَ الْعَمَى أَمْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَرْجِعُونَ إلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُنَّ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُنَّ خُصُوصًا إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ اُبْتُلِيَ بِذَهَابِ الْبَصَرِ، وَقَبُولُ رِوَايَةِ النِّسَاءِ وَالْعَبْدِ وَرُجُوعُهُمْ إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَبُولُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام خَبَرَ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ وَغَيْرَهُمَا - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ
ــ
[كشف الأسرار]
«تَأْخُذُونَ ثُلُثَيْ دِينِكُمْ مِنْ عَائِشَةَ» وَقَدْ كَانَتْ رضي الله عنها مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَأْيًا وَرِوَايَةً وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ خَبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَسَلْمَانُ رضي الله عنه حِينَ كَانَ عَبْدًا أَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْأَكْلِ ثُمَّ أَتَى بِهَدِيَّةٍ فَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ، وَكَانَ يَعْتَمِدُ خَبَرَ بَرِيرَةَ قَبْلَ أَنْ تَعْتِقَ وَبَعْدَ عِتْقِهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَوَالِي نَقَلُوا أَخْبَارًا وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ تَفَحُّصٍ عَنْ التَّارِيخِ مِثْلُ نَافِعٍ وَسَالِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَدَلَّ أَنَّ الْأَعْمَى وَالْمَمْلُوكَ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ، ثُمَّ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ بِمَقْبُولِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
وَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَاطِي لَا يَكُونُ عَدْلًا مُطْلَقًا وَمِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْخَبَرِ حُجَّةً الْعَدَالَةُ مُطْلَقَةً وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ رِوَايَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ فَإِنَّ أَبَا بِكْرَةَ مَقْبُولُ الْخَبَرِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ بِطَلَبِ التَّارِيخِ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ رَوَى بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَمْ قَبْلَهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَرِوَايَةُ الْخَبَرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ثُمَّ التَّائِبُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَالْكَذِبِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا التَّائِبَ مِنْ الْكَذِبِ مُعْتَمِدًا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا افْتَرَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَذَكَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ أَنَّ مَنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، قَوْلُهُ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَيْ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ بَابُ بَيَانِ قِسْمِ الِانْقِطَاعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ