الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْهَا
مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ
مِثْلُ الرَّهْطِ وَالْقَوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلُ الطَّائِفَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَصِيغَتُهُ رَهْطٌ وَقَوْمٌ مِثْلُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَمَعْنَاهُمَا الْجَمْعُ وَلَمَّا كَانَ فَرْدًا بِصِيغَتِهِ جَمْعًا بِمَعْنَاهُ كَانَ اسْمًا لِلثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا إلَّا الطَّائِفَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْوَاحِدِ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ نَعْتُ فَرْدٍ صَارَ جِنْسًا بِعَلَامَةِ الْجَمَاعَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ كَلِمَةُ مَنْ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ
ــ
[كشف الأسرار]
الْأَمْرِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]
[مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ]
قَوْلُهُ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ أَيْ لَفْظُهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ فَيُقَالُ رَهْطٌ وَرَهْطَانِ وَأَرْهُطٌ وَأَرْهَاطٌ وَقَوْمٌ وَقَوْمَانِ وَأَقْوَامٌ وَلَكِنَّهُ وُضِعَ لِلْجَمْعِ مِثْلُ الْأَوَّلِ. وَالرَّهْطُ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَكُونُ فِيهِمْ امْرَأَةٌ كَذَا فِي الصِّحَاحِ. وَالْقَوْمُ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ الْقُوَّامُ عَلَى النِّسَاءِ قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَلَسْت أَخَالُ أَدْرِي
…
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَمْعٌ قَائِمٌ كَصَائِمٍ وَصُوَّمٍ وَزَائِرٍ وَزُوَّرٍ. أَوْ هُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ كَذَا فِي الْمَطْلَعِ وَغَيْرِهِ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ وَجَمْعُهُ عَلَى أَقْوَامٍ كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَهُوَ الرَّهْطُ وَبَيْنَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الْقَوْمُ كَمَا جَمَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ (مِثْلُ الطَّائِفَةِ وَالْجَمَاعَةِ) إنَّمَا أَوْرَدَهُمَا بَعْدَ مَا ذَكَرَ نَظَائِرَ هَذَا الْقِسْمِ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا عَامَّانِ صِيغَةً وَمَعْنًى إذْ التَّاءُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ كَالْوَاوِ فِي مُسْلِمُونَ فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ لَا مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثَنَّى وَيُجْمَعُ يُقَالُ طَائِفَةٌ وَطَائِفَتَانِ وَطَوَائِفُ وَجَمَاعَةٌ وَجَمَاعَتَانِ وَجَمَاعَاتٌ. كَانَ اسْمًا لِلثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا مِثْلُ الْعَامِّ صِيغَةً وَمَعْنًى.
قَوْلُهُ (إلَّا الطَّائِفَةَ) اتَّفَقُوا أَنَّ الطَّائِفَةَ هِيَ النَّفَرُ الْيَسِيرُ. ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ هِيَ اسْمٌ لِلْعَشَرَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لِثَلَاثَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ لِلِاثْنَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لِبَعْضِ الشَّيْءِ يُقَالُ طَائِفَةٌ مِنْ اللَّيْلِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَالِ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَأَقَلُّ الْأَبْعَاضِ فِي الْأَنَاسِيِّ وَاحِدٌ. وَلِأَنَّهَا نَعْتٌ مِنْ طَافَ يَطُوفُ وَأَقَلُّ مَنْ يَطُوفُ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّهَا صَارَتْ لِلْجِنْسِ بِعَلَامَةِ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ التَّاءُ فَإِنَّهَا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ لِلتَّأْنِيثِ أَوْ لِشَبَهِ التَّأْنِيثِ، وَالْمُرَادُ بِشَبَهِ التَّأْنِيثِ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِغَيْرِهِ وَلَمْ تَدْخُلْ التَّاءُ فِي الطَّائِفَةِ لِلتَّأْنِيثِ بِلَا شُبْهَةٍ فَيَكُونُ دَاخِلَةً لِشَبَهِ التَّأْنِيثِ وَهُوَ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ إذْ الْجَمْعُ فَرْعٌ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا دَخَلَتْ فِي نَحْوِ عُصْبَةٍ وَزُمْرَةٍ وَإِذَا صَارَتْ جِنْسًا بِعَلَامَةِ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْجِنْسِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ؛ لَامُ التَّعْرِيفِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا. أَوْ يُقَالُ وَلَمَّا كَانَتْ نَعْتَ فَرْدٍ فِي أَصْلِهَا وَانْضَمَّتْ إلَيْهَا عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ يُرَاعَى فِيهَا الْمَعْنَيَانِ كَمَا يُرَاعَى فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْفَرْدِيَّةِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ الطَّائِفَةَ الْفِرْقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَلْقَةً وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ كَأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ حَوْلَ الشَّيْءِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا أَرْبَعَةً إلَى أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَفِي الصِّحَاحِ الطَّائِفَةُ مِنْ الشَّيْءِ قِطْعَةٌ مِنْهُ وقَوْله تَعَالَى. {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ.
قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْعَامِّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ كَلِمَةُ مَنْ. وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِأُولِي الْعُقُولِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ حَتَّى لَوْ قَالَ وَمَنْ دَخَلَ مِنْ مَمَالِيكِي الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ.
وَلَفْظُهَا مُذَكَّرٌ مُوَحَّدٌ وَيُحْمَلُ عَلَى اللَّفْظِ كَثِيرًا وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى أَيْضًا وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَالْخَبَرِ. وَتَعُمُّ فِي الْأَوَّلَيْنِ لَا مَحَالَةَ تَقُولُ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ فِي
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] وَأَصْلُهَا الْعُمُومُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» وَقَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي الْعِتْقَ فَهُوَ حُرٌّ فَشَاءُوا جَمِيعًا عَتَقُوا فَأَمَّا إذَا قَالَ مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَأَعْتِقُهُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهم الله لِلْمَأْمُورِ أَنْ يُعْتِقَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ عَامَّةٌ وَكَلِمَةُ مِنْ لِتَمْيِيزِ عَبِيدِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يُعْتِقُهُمْ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْعُمُومِ وَالتَّبْعِيضِ فَصَارَ الْأَمْرُ مُتَنَاوِلًا بَعْضًا عَامًّا وَإِذَا قَصَّرَ عَنْ الْكُلِّ بِوَاحِدٍ كَانَ عَمَلًا بِهِمَا وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّبْعِيضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ
ــ
[كشف الأسرار]
هَذِهِ الْقَرْيَةِ فَقَالَ زَيْدٌ وَبَكْرٌ وَخَالِدٌ وَيَعُدُّ مَنْ فِيهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ وَيَقُولُ فِي الشَّرْطِ مَنْ زَارَنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَكُلُّ مَنْ زَارَهُ اسْتَحَقَّ الْعَطَاءَ. وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً وَقَدْ تَكُونُ خَاصَّةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82] وَتَقُولُ زَارَنِي مَنْ اشْتَقْت إلَيْهِ وَزُرْت مَنْ أَكْرَمَنِي وَتُرِيدُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ أَيْ فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَبَعْضُ مَحَالِّ الْخَبَرِ. وَالْخُصُوصُ أَيْ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ الْخَبَرِ لَكِنَّهَا فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ تَعُمُّ عُمُومَ الِانْفِرَادِ وَفِي الْخَبَرِ تَعُمُّ عُمُومَ الِاشْتِمَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ مَنْ زَارَنِي فَأُعْطِهِ دِرْهَمًا يَسْتَحِقُّ كُلُّ مَنْ زَارَهُ الْعَطِيَّةَ وَلَوْ قَالَ أُعْطِ مَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ دِرْهَمًا اسْتَحَقَّ الْكُلُّ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا يَتَعَمَّمُ عُمُومُ الِانْفِرَادِ فِي الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْطِ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ لَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ فُلَانٌ فَلَهُ كَذَا وَإِنْ فَعَلَ فُلَانٌ فَلَهُ كَذَا حَتَّى أَحْصَوْا الْكُلَّ لَطَالَ الْكَلَامُ وَلَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ فَأُقِيمَ كَلِمَةُ مَنْ مُقَامَ ذَلِكَ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ.
وَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِفْهَامِ إذَا قِيلَ أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عُمَرُ وَأَمْ مُحَمَّدٌ أَمْ أَحْمَدُ يَطُولُ الْأَمْرُ فَأُقِيمَ كَلِمَةُ مَنْ مُقَامَ ذَلِكَ فَتَعُمُّ عُمُومَ الِانْفِرَادِ.
قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] نَظِيرُ الْعُمُومِ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] . نَظِيرُ الْخُصُوصِ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَصْلُحُ نَظِيرًا لِلْخُصُوصِ لِإِفْرَادِ صِلَتِهِ وَهِيَ يَنْظُرُ إلَّا أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُمُومُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ لَكِنْ أَفْرَدَ صِلَتَهُ فِي الثَّانِي وَجَمَعَ فِي الْأَوَّلِ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] . وَقَالُوا مَعْنَاهُمَا وَمِنْهُمْ نَاسٌ يَسْتَمِعُونَ إلَيْك إذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ وَعَلِمْت الشَّرَائِعَ وَلَكِنْ لَا يَعُونَ وَلَا يَقْبَلُونَ وَمِنْهُمْ نَاسٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَيُعَايِنُونَ أَدِلَّةَ الصِّدْقِ وَأَعْلَامَ النُّبُوَّةِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ قَوْلَهُ. (وَأَصْلُهَا الْعُمُومُ) أَيْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُمُومِ أَكْثَرَ مِمَّا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا الْأَصْلِيَّ الْعُمُومُ.
قَوْلُهُ (مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي) إذَا قَالَ مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَأَعْتِقْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُمْ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَتَقُوا إلَّا الْآخِرَ وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ جُمْلَةً عَتَقُوا إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْمَوْلَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُمْ جَمِيعًا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ عَامَّةٌ لِلَّذِي يَعْقِلُ وَحَرْفُ مِنْ كَمَا يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ يَكُونُ لِلْجُمْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] .
وَيَكُونُ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ أَيْ لِلْبَيَانِ يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ وَقَالَ تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] . وَهَهُنَا الْمُرَادُ بِحَرْفِ مِنْ تَمْيِيزُ عَبِيدِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَنْ شِئْت وَلَمْ يَقُلْ مِنْ عَبِيدِي كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا فَقَالَ مِنْ عَبِيدِي لِيُمَيِّزَ مَمَالِيكَهُ عَنْ مَمَالِيكِ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْعِتْقِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَصَارَ كَمَا إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَمْ يَعْمَلْ مِنْ فِي التَّبْعِيضِ لِمَا عَلِمْت فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَشِيئَةُ مُضَافَةً إلَى خَاصٍّ، وَالْمُرَادُ التَّعْمِيمُ قَالَ تَعَالَى. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] . وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ وَالرَّجُلُ تَقُولُ لِغَيْرِهِ خُذْ مِنْ مَالِي
يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ إلَّا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَسَقَطَ بِهَا الْخُصُوصُ
ــ
[كشف الأسرار]
مَا شِئْت. كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت وَيُوجِبُ إبَاحَةَ الْكُلِّ فَهَذَا كَذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْعُمُومِ وَالتَّبْعِيضِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِمَا إذْ الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ لَكِنَّ الْعُمُومَ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ وَذَلِكَ أَنْ تَنْقُصَ عَنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ لِيَصِيرَ عَامًّا بِتَنَاوُلِهِ الْأَكْثَرَ وَيَثْبُتُ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّ التِّسْعَةَ مِنْ الْعَشَرَةِ بَعْضُهَا وَقَدْ أُدْخِلَتْ كَلِمَةُ التَّبْعِيضِ فِي الْعَبِيدِ دُونَ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَعْمَلَ فِي التَّبْعِيضِ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ.
فَصَارَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّبْعِيضِ. وَإِنَّمَا حُمِلَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَّدَ الْعُمُومَ بِإِضَافَةِ الْمَشِيئَةِ إلَى عَامٍّ صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّبْعِيضَ فَحُمِلَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَهَهُنَا أُضِيفَتْ إلَى خَاصٍّ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْعُمُومِ فَلَا يُتْرَكُ التَّبْعِيضُ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] . قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّ الرِّجْسَ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ عَقْلًا فَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى التَّبْعِيضِ. وَقَدْ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] . دَلِيلُ الْعُمُومِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62] . وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ. {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] . وَكَذَلِكَ تَرْكُ التَّبْعِيضِ فِي قَوْلِهِ خُذْ مِنْ مَالِي مَا شِئْت وَكُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَادَ بِطَعَامِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يُظَنَّ بِهِ أَنْ يَضِنَّ بِاللُّقْمَةِ أَوْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَتَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَحُ بِبَعْضِهِ وَيَضِنُّ بِبَعْضِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْأَمْرَيْنِ كَذَا فِي جَامِعَيْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ (يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ) أَيْ كَلِمَةُ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ أَيْضًا لِدُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ فِي الْعَبِيدِ كَمَا فِي الْمُتَنَازِعِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ الدَّاخِلَ تَحْتَ الشَّرْطِ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا دَخَلَتْ تَحْتَ الشَّرْطِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ؛ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مَعْنَى الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَوْصُولِ فِي حُكْمِ اسْمٍ مَوْصُوفٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام. «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» . الشَّخْصُ الدَّاخِلُ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ آمِنٌ فَتَعُمُّ ضَرُورَةَ عُمُومِ الصِّفَةِ. وَسَقَطَ بِهَا أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْخُصُوصُ أَيْ التَّبْعِيضُ فَأَمَّا الْبَعْضُ فِي الْمُتَنَازِعِ فَلَمْ يُوصَفْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ إذْ الْمَشِيئَةُ فِيهِ أُسْنِدَتْ إلَى الْمُخَاطَبِ فَيَبْقَى مَعْنَى الْخُصُوصِ مُعْتَبَرًا فِيهِ مَعَ صِفَةِ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ بَعْضًا عَامًّا. وَنَظِيرُهُ لَوْ قِيلَ مَنْ سَرَقَ مِنْ النَّاسِ فَأَقْطَعُهُ يُفْهِمُ وُجُوبَ الْقَطْعِ لِلسُّرَّاقِ كُلِّهِمْ وَلَوْ قِيلَ اقْطَعْ مِنْ السُّرَّاقِ مَنْ شِئْت لَمْ يُوجِبْ اللَّفْظُ اسْتِيعَابَ الْجَمِيعِ بِالْقَطْعِ. وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَفْعُولِيَّةَ صِفَةٌ كَالْفَاعِلِيَّةِ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِهَا فَيُقَالُ عَمْرٌو مَضْرُوبٌ كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ ضَارِبٌ وَشَيْءٌ مَعْلُومٌ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَالِمٌ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ صَارَتْ مَوْصُوفَةً بِالْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ بِالْمَشِيئِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مَوْصُوفَةً بِالْفَاعِلِيَّةِ فَلِتَتَعَمَّمَ بِعُمُومِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا.
لِأَنَّا نَقُولُ حَقِيقَةُ الصِّفَةِ مَعْنًى يَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي تُسَمِّيهِ وَصْفًا إنَّمَا تَقُومُ بِالْفَاعِلِ إلَّا بِالْمَفْعُولِ إذْ الضَّرْبُ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ بِالْعَالِمِ لَا بِالْمَضْرُوبِ وَالْمَعْلُومِ وَإِنَّمَا لِلْمَفْعُولِ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ التَّأَثُّرِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْعُمُومِ. قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ فِي جَوَابِ هَذَا