الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ حَتَّى) :
هَذِهِ كَلِمَةٌ أَصْلُهَا لِلْغَايَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ إلَّا مَجَازًا لِيَكُونَ الْحَرْفُ مَوْضُوعًا لِمَعْنَى يَخُصُّهُ وَقَدْ وَجَدْنَاهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْغَايَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ فَأَصْلُهَا كَمَالُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهَا وَخُلُوصُهَا لِذَلِكَ بِمَعْنَى إلَى كَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وَتَقُولُ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا أَيْ إلَى رَأْسِهَا فَإِنَّهُ بَقِيَ أَيْ بَقِيَ الرَّأْسُ وَهَذَا عَلَى مِثَالِ سَائِرِ الْحَقَائِقِ
ــ
[كشف الأسرار]
[بَابُ حَتَّى]
بَابُ كَلِمَةِ حَتَّى) كَلِمَةُ حَتَّى مِنْ الْحُرُوفِ الْجَارَّةِ كَمَا هِيَ مِنْ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ فَأَفْرَدَهَا الشَّيْخُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَوْرَدَ الْبَابَ بَيْنَ بَابِ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَبَابِ حُرُوفِ الْجَرِّ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ
، هَذِهِ كَلِمَةٌ أَصْلُهَا لِلْغَايَةِ أَيْ هِيَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِلْغَايَةِ فِي كَلَامِهِمْ، هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ أَيْ مَعْنَى الْغَايَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِهَذَا الْحَرْفِ لَا يَسْقُطُ مَعْنَى الْغَايَةِ عَنْهُ أَيْ عَنْ هَذَا الْحَرْفِ، إلَّا مَجَازًا أَيْ إلَّا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا كَمَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ غَيْرُ مُرَادٍ حِينَئِذٍ كَسَائِرِ الْحَقَائِقِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضُوعَاتِهَا لِيَكُونَ الْحَرْفُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَخُصُّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْحَرْفِ وَالْبَارِزُ إلَى مَعْنًى أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَيْ إنَّمَا قُلْنَا مَعْنَى الْغَايَةِ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ لِيَكُونَ الْحَرْفُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى يَخُصُّ ذَلِكَ الْحَرْفَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَنْتَفِي الِاشْتِرَاكُ أَوْ يَخُصُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ الْحَرْفِ فَيَنْتَفِي التَّرَادُفُ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَنْتَفِي التَّرَادُفُ وَقَدْ وُضِعَ لِلْغَايَةِ حَرْفُ إلَى أَيْضًا. قُلْنَا قَدْ ثَبَتَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ مِنْ التَّرَادُفِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّ الْغَايَةَ فِي حَتَّى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً بِأَنْ تَكُونَ شَيْئًا يَنْتَهِي بِهِ الْمَذْكُورُ أَوْ عِنْدَهُ كَالرَّأْسِ لِلسَّمَكَةِ وَالصَّبَاحِ لِلْبَارِحَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي إلَى فَامْتَنَعَ قَوْلُك نِمْت الْبَارِحَةَ حَتَّى نِصْفِ اللَّيْلِ وَصَحَّ نِمْتهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَالْيَدُ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَمِنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ حَتَّى عَلَى مُضْمَرٍ فَلَا يُقَالُ حَتَّاهُ بِخِلَافِ إلَى فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْمُضْمَرِ وَالْمُظْهَرِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْغَايَةَ فِي حَتَّى لِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الشَّيْءِ أَوْ مَا يُلَاقِي آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ وَالْمُضْمَرُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الشَّيْءِ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ امْتَنَعَ دُخُولُهُ عَلَى الْمُضْمَرِ وَلَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي إلَى لَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهُ عَلَى الْمُضْمَرِ.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ أَنَّ إلَى لِانْتِهَاءٍ لَهُ ابْتِدَاءٌ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى نَقِيضِ مِنْ تَقُولُ خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَإِلَى لِانْتِهَاءٍ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ حَتَّى فِي مُقَابَلَةِ مِنْ لَا يُقَالُ خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ حَتَّى الْكُوفَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إلَى أَصْلٌ فِي الْغَايَةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ مَعْنَاهَا إلَى مَعْنًى آخَرَ وَحَتَّى ضَعِيفٌ فِي مَعْنَى الْغَايَةِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَانِي قَوْلُهُ (وَقَدْ وَجَدْنَاهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْغَايَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلِمَةِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى خَاصٍّ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْغَايَةُ هَاهُنَا بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ لِكَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ. فَقَالَ قَدْ وَجَدْنَاهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْغَايَةِ بِحَيْثُ لَا تَسْقُطُ مَعْنَى الْغَايَةِ عَنْهَا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَعَانٍ أُخَرَ كَمَا سَنُبَيِّنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذَا الْحَرْفِ وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ بَقِيَ) اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ النُّحَاةِ أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيمَا قَبْلَهَا كَمَا فِي إلَى فَفِي قَوْلِهِمْ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا وَنِمْت الْبَارِحَةَ حَتَّى الصَّبَاحِ لَمْ يُؤْكَلْ الرَّأْسُ وَمَا نِيمَ الصَّبَاحُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغَايَةِ أَنْ لَا تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُغَيَّا لِمَا عُرِفَ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] . فَإِنَّهُ إنْ وَقَفَ عَلَى (سَلَامٌ) لَمْ يَدْخُلْ مَطْلَعُ الْفَجْرِ تَحْتَ حُكْمِ اللَّيْلَةِ.
وَكَذَا إنْ لَمْ يَقِفْ لِأَنَّ سَلَامَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْعَطْفِ لِمَا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْغَايَةِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ قِيَامِ مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ جَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ وَرَأَيْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا فَزَيْدًا إمَّا أَفْضَلُهُمْ وَإِمَّا أَرْذَلُهُمْ لِيَصْلُحَ غَايَةً أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام يَنْزِلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كَبْكَبَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرُ يَرْكُزُهُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ يَتَفَرَّقُ الْمَلَائِكَةُ فِي النَّاسِ حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى كُلِّ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَذَاكِرٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ» . وَقَدْ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْمَلْحَمَةِ فَقِيلَ مَا أُكِلَ الرَّأْسُ وَمَا نِيمَ الصَّبَاحُ فِي مَسْأَلَتَيْ السَّمَكَةِ وَالْبَارِحَةِ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُقْتَصِدِ فَقَالَ وَيَكُونُ مَا بَعْدَ حَتَّى دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى الرَّأْسِ.
وَكَذَا قَوْلُك ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا لِمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا قَدْ ضَرَبْته. قَالَ وَإِذَا كَانَتْ عَاطِفَةً كَانَ مَجْرَاهَا مَجْرَى الْجَارَةِ فِي تَضَمُّنِ مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا وَمَرَرْت بِالْقَوْمِ حَتَّى زَيْدٍ وَجَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ فِي مَسَائِلِ السَّمَكَةِ الثَّلَاثِ وَمَسَائِلِ الْبَارِحَةِ الثَّلَاثِ قَدْ أُكِلَ الرَّأْسُ وَنِيمَ الصَّبَاحُ.
وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ جَارُ اللَّهِ فَقَالَ فِي الْمُفَصَّلِ وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ يَدْخُلَ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا فَفِي مَسْأَلَتَيْ السَّمَكَةِ وَالْبَارِحَةِ قَدْ أُكِلَ الرَّأْسُ وَنِيمَ الصَّبَاحُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّيْءُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْفِعْلُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ الْفِعْلُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كُلِّهِ فَلَوْ انْقَطَعَ الْأَكْلُ عِنْدَ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْأَكْلِ آتِيًا عَلَى السَّمَكَةِ كُلِّهَا وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى نِصْفَهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ لَمَّا كَانَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَدْ فَاتَ فِي الْغَايَةِ الْجَعْلِيَّةِ خَلَا الْكَلَامُ عَنْ الْفَائِدَةِ فَلَمْ يَصِحَّ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ شُرُوحِ النَّحْوِ أَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى إذَا كَانَتْ لِلْغَايَةِ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَهَكَذَا قَالَ ابْنِ جِنِّي وَإِلَيْهِ كَانَ يَمِيلُ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُورٍ السَّفَّارُ وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ وَلَكِنْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ نَقُولُ إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ حَتَّى بَعْضًا لِلْمَذْكُورِ قَبْلَهُ يَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا نَصَّ الْمُبَرِّدَ فِي كِتَابِ الْمُقْتَضَبِ وَابْنِ الْوَرَّاقِ فِي الْفُصُولِ وَالْفَرَّاءُ فِي الْمَعَانِي وَهَكَذَا ذَكَرَ السِّيرَافِيُّ أَيْضًا. مِثَالُ الْأَوَّلِ زَارَنِي أَشْرَافُ الْبَلْدَةِ حَتَّى الْأَمِيرُ وَسَبَّنِي النَّاسُ حَتَّى الْعَبِيدُ. وَمِثَالُ الثَّانِي قَرَأْت الْقُرْآنَ حَتَّى الصَّبَاحِ فَالصَّبَاحُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضَ اللَّيْلِ وَكَانَ حَتَّى هَاهُنَا بِمَعْنَى إلَى. فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ مَذْهَبِ الْأَكْثَرِ وَعَرَفْت بِهِ أَيْضًا أَنَّ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سَهْوٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ تَصْحِيفٌ فَإِنَّهُ مِنْ النَّفْيِ لَا مِنْ الْبَقَاءِ وَمَعْنَاهُ أَكَلَ وَهْمٌ بَيِّنٌ وَتَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ) أَيْ حَرْفُ حَتَّى لِلْعَطْفِ أَيْ فِيهِ أَوْ يُضَمَّنُ يُسْتَعْمَلُ مَعْنَى يُسْتَعَارُ لِمَا بَيْنَ الْغَايَةِ وَالْعَطْفِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَعْطُوفَ يَتَّصِلُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَالْغَايَةُ تَتَّصِلُ بِالْمُغَيَّا وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ مَعَ قِيَامِ مَعْنَى الْغَايَةِ. قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَاطِفَةً كَانَتْ مَجْرَاهَا مَجْرَى الْجَارَةِ فِي تَضَمُّنِ مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا وَمَرَرْت بِالْقَوْمِ حَتَّى زَيْدٍ وَجَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ بِذَلِكَ عَلَى تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعَطْفِ إنَّك لَوْ حَرَّرْت كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ بِالْعَطْفِ الْحُكْمُ وَهُوَ أَنَّهَا تَتْبَعُ الثَّانِي الْأَوَّلَ كَالْوَاوِ. وَيَكُونُ لِتَعْظِيمٍ نَحْوَ قَوْلِهِمْ مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ. أَوْ تَحْقِيرٍ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ. وَحَتَّى هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ
اسْتَنَّتْ الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى فَجُعِلَ عَطْفًا هُوَ غَايَةٌ فَكَانَتْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً وَعَلَى هَذَا أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا بِالنَّصْبِ أَيْ أَكَلْته أَيْضًا وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ عَلَى مِثَالِ وَاوِ الْعَطْفِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِعَطْفِ الْجُمَلِ وَهِيَ غَايَةٌ مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَذْكُورًا فَهُوَ خَبَرُهُ وَإِلَّا فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدٌ غَضْبَانُ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ هِيَ غَايَةُ مَعْنًى وَمِنْ ذَلِكَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسُهَا إلَّا أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرٍ أَعْنِي حَتَّى رَأْسُهَا مَأْكُولِي أَوْ مَأْكُولُ غَيْرِي وَمَوَاضِعُهَا فِي الْأَفْعَالِ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً بِمَعْنَى إلَى أَوْ غَايَةً هِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَعَلَامَةُ الْغَايَةِ أَنْ يَحْتَمِلَ الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ وَأَنْ يَصْلُحَ الْآخَرُ دَلَالَةً عَلَى الِانْتِهَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي أَنَّ مَا بَعْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجَانِسًا لِمَا قَبْلَهَا فَلَا تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى حِمَارًا وَضَرَبْت الرِّجَالَ حَتَّى امْرَأَةً كَمَا تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ وَحِمَارًا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لِلْغَايَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ طَرَفُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَوْ قُلْت رَأَيْت الْقَوْمَ حَتَّى حِمَارًا كُنْت جَعَلْت الْحِمَارَ طَرَفًا لِلْقَوْمِ مُنْقَطِعًا لَهُمْ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا التَّعْظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا أُخِذَ مِنْ أَدْنَاهُ فَأَعْلَاهُ غَايَةٌ لَهُ وَطَرَفٌ فَالْأَنْبِيَاءُ غَايَةُ جِنْسِ النَّاسِ إذَا أَخَذْنَا مِنْ الْمَرَاتِبِ وَاسْتَقْوَيْنَاهَا صَاعِدِينَ.
وَإِذَا أُخِذَ مِنْ أَعْلَى الشَّيْءِ فَأَدْنَاهُ طَرَفٌ لَهُ وَذَلِكَ كَالْمُشَاةِ فِي الْحَاجِّ تَأْخُذُ مِنْ الْأَقْوِيَاءِ الرَّاكِبِينَ وَتَنْزِلُ فَتَنْتَهِي إلَى الْمُشَاةِ وَهِيَ مُنْقَطِعُ الْجِنْسِ كَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ قَالَ أَعْتَقْت غِلْمَانِي حَتَّى فُلَانَةَ أَوْ أَعْتَقْت إمَائِي حَتَّى سَالِمًا لَمْ يُعْتَقْ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ حَتَّى لِأَنَّ الْغِلْمَانَ وَالْإِمَاءَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْت سَالِمًا حَتَّى مُبَارَكًا أَوْ حَتَّى مُبَارَكٍ لَا يُعْتَقُ مُبَارَكٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُزْءٍ لِسَالِمٍ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إلَى مَكَانَ حَتَّى فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُمْ يُعْتَقُونَ جَمِيعًا لِإِمْكَانِ حَمْلِ إلَى عَلَى مَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ. قَوْلُهُمْ اسْتَنَّتْ الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى. الِاسْتِنَانُ هُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ وَيَطْرَحَهُمَا مَعًا وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعَدْوِ. وَالْقَرْعَى جَمْعُ قَرِيعٍ وَهُوَ الَّذِي بِهِ قَرْعٌ وَهُوَ بَثْرٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ بِالْفِصَالِ. هَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَ مَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ. فَجُعِلَ عَطْفًا هُوَ غَايَةٌ لِانْتِهَاءِ الِاسْتِنَانِ بِاسْتِنَانِهَا فَكَانَتْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَمْ تَخْلُصْ لِلْغَايَةِ. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْعَطْفِ مَعَ رِعَايَةِ مَعْنَى الْغَايَةِ. وَقَدْ تَدْخُلُ أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى جُمْلَةٍ لَا لِلْعَطْفِ بَلْ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَهَا كَمَا تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ أَمَّا وَإِذَا تَقُولُ خَرَجَتْ النِّسَاءُ حَتَّى هِنْدٌ خَارِجَةٌ وَلِهَذَا جَازَ إدْخَالُ وَاوِ الْعَطْفِ عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
مَطَوْت بِهِمْ حَتَّى يَكِلَّ غَرِيمُهُمْ
…
وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ
فَالْجِيَادُ مُبْتَدَأٌ وَمَا يُقَدْنَ خَبَرُهُ وَالْوَاوُ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَتَّى هَذِهِ لَيْسَتْ بِعَاطِفَةٍ وَلَوْ كَانَتْ حَرْفَ عَطْفٍ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ حَرْفٍ آخَرَ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ حَرْفُ عَطْفٍ قَطْعًا فِي قَوْلِك ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا أَلَا تَرَاك لَا تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ وَفَعَمْرًا فَقَوْلُهُ وَحَتَّى الْجِيَادُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَأَمَّا الْجِيَادُ فِي كَوْنِ مَا بَعْدَهُمَا مُبْتَدَأً.
عَلَى مِثَالِ وَاوِ الْعَطْفِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِعَطْفِ الْجُمَلِ فَإِنَّهَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلْعَطْفِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلِهَذَا سَمَّوْهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ وَالِابْتِدَاءِ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ هِيَ غَايَةٌ أَيْ لِلضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِهَا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُنْسَبَ أَيْ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمُثْبِتُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ. إلَيْهِ أَيْ إلَى الْمُتَكَلِّمِ
1 -
قَوْلُهُ (وَمَوَاضِعُهَا) أَيْ مَوَاضِعُ كَلِمَةِ حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً بِمَعْنَى إلَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً، مُبْتَدَأَةً كَقَوْلِهِ سِرْت حَتَّى أَدْخُلَهَا. أَوْ غَايَةً هِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ كَقَوْلِك خَرَجَ النِّسَاءُ حَتَّى خَرَجَتْ هِنْدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْأَصْلِ لِلْغَايَةِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ مَا أَمْكَنَ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا جُعِلَتْ بِمَعْنَى إلَى كَيْفَ جَازَ دُخُولُهَا عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّهَا إذْ ذَاكَ حَرْفُ جَرٍّ.
قُلْنَا إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ أَنَّ مُقَدَّرًا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَأَنَّ مَعَ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ الِاسْمِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً عَلَى الِاسْمِ تَقْدِيرًا وَيَكُونُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَجْرُورَ الْمَحَلِّ بِهَا.
وَعَلَامَةُ الْغَايَةِ أَنْ يَحْتَمِلَ الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ بِأَنْ صَلَحَ فِيهِ ضَرْبُ الْمُدَّةِ. وَأَنْ يَصْلُحَ الْآخَرُ دَلَالَةً عَلَى الِانْتِهَاءِ كَالصِّيَاحِ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تَصِيحَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا لِلْغَايَةِ. فَإِذَا قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ نُخْبِرْ فُلَانًا بِمَا صَنَعْت حَتَّى يَضْرِبَك
فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ فَلِلْمُجَازَاةِ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ وَهَذَا إذَا صَلَحَ الصَّدْرُ سَبَبًا وَلَمْ يَصْلُحْ الْآخَرُ غَايَةً وَصَلَحَ جَزَاءً وَهَذَا نَظِيرُ قِسْمِ الْعَطْفِ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَإِنْ تَعَذَّرَ هَذَا جُعِلَ مُسْتَعَارًا لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ وَبَطَلَ مَعْنَى الْغَايَةِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فِي الزِّيَادَاتِ وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا خَلَا الْمُسْتَعَارَ الْمَحْضَ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَحَتَّى تَغْتَسِلُوا هِيَ بِمَعْنَى إلَى وَكَذَلِكَ {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] وَقَالَ
ــ
[كشف الأسرار]
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ حَتَّى هَاهُنَا لِلْغَايَةِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ فَيُجْعَلُ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ فَإِذَا أَخْبَرَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ الْإِخْبَارُ لَا غَيْرُ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تَضْرِبَنِي أَوْ تَشْتُمَنِي فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ الْمَضْرُوبُ بَرَّ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مُمْتَدًّا لَكِنَّ الضَّرْبَ وَالشَّتْمَ مِنْ الْمَضْرُوبِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةِ الضَّرْبِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَزَاءِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله مُرَادُهُ إظْهَارُ عَجْزِهِ عَنْ الضَّرْبِ لَا وُجُودُ فِعْلِ الضَّرْبِ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ أَنَا أَضْرِبُك حَتَّى تَضْرِبَنِي إنْ قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّك لَا تَقْدِرُ فَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ عَجْزُك وَضَعْفُك بِضَرْبِي إيَّاكَ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ فِعْلِ الضَّرْبِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ فَلِلْمُجَازَاةِ أَيْ إنْ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً لِفَوَاتِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُجَازَاةِ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَ الْمُجَازَاةِ وَبَيْنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْجَزَاءِ عَادَةً كَمَا يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْغَايَةِ.
وَهَذَا أَيْ الْحَمْلُ عَلَى الْمُجَازَاةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا صَلَحَ الصَّدْرُ سَبَبًا وَلَمْ يَصْلُحْ الْآخِرُ غَايَةً حَتَّى لَوْ صَلَحَ الْآخَرُ غَايَةً مَعَ كَوْنِ الصَّدْرِ صَالِحًا لِلسَّبَبِيَّةِ يُجْعَلُ لِلْغَايَةِ كَقَوْلِهِ إنْ أَضْرِبْك حَتَّى تُصْبِحَ فَعَبْدِي حُرٌّ.
وَهَذَا نَظِيرُ قِسْمِ الْعَطْفِ مِنْ الْأَسْمَاءِ أَيْ حَتَّى الَّتِي لِلْمُجَازَاةِ فِي الْأَفْعَالِ نَظِيرُ حَتَّى الْعَاطِفَةِ فِي الْأَسْمَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ بَاقٍ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ. فَإِنْ تَعَذَّرَ هَذَا أَيْ جَعْلُهَا لِلْمُجَازَاةِ يُجْعَلُ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَهَا فِي الْأَفْعَالِ ثَبَتَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فِي الزِّيَادَاتِ. وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى فِي الْأَصْلِ لِلْغَايَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا إذَا أَمْكَنَ وَشَرْطُ الْإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُغَيَّا مُمْتَدًّا وَأَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مُؤَثِّرًا فِي إنْهَاءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَلَى الْغَايَةِ تُحْمَلُ عَلَى لَامِ السَّبَبِ إنْ أَمْكَنَ وَشَرْطُ الْإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ مَعْقُودًا عَلَى فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ شَخْصٍ وَالْأُخَرُ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ لِأَنَّ فِعْلَ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِفِعْلِهِ عَادَةً إذْ الْجَزَاءُ مُكَافَأَةُ الْفِعْلِ وَهُوَ لَا يُكَافِئُ نَفْسَهُ عَادَةً.
فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَطْفِ. وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُهَا لِلْبِرِّ فَإِنْ أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَةِ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ. وَمِنْ حُكْمِ لَامِ السَّبَبِ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُ مَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَا وُجُودُ الْمُسَبِّبِ. وَمِنْ حُكْمِ الْعَطْفِ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُهُمَا لِلْبِرِّ قَوْلُهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وَ {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَ {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] . كَلِمَةُ حَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى إلَى لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {قَاتِلُوا} [آل عمران: 167] .
وَقَوْلُهُ {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] . وَقَوْلُهُ. لَا تَدْخُلُوا. يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ إذْ الْمُقَاتَلَةُ تَمْتَدُّ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ يَصْلُحُ مُنْهِيًا لَهَا.
وَكَذَا الْمَنْعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ جُنُبًا مُمْتَدٌّ وَالِاغْتِسَالُ يَصْلُحُ مُنْهِيًا لَهَا. وَكَذَا الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ مُمْتَدٌّ وَالِاسْتِئْنَاسُ وَهُوَ الِاسْتِئْذَانُ يَصْلُحُ مُنْهِيًا لَهُ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أَيْ كَيْ لَا يَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ مُحَارَبَةٌ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ حَتَّى هَذِهِ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ لِأَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ لَا يَصْلُحُ لِانْتِهَاءِ الصَّدْرِ إذْ الْقِتَالُ وَاجِبٌ مَعَ عَدَمِ الْمُحَارَبَةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْدَؤُنَا بِالْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْنَا مُحَارَبَتُهُمْ وَصَدْرُ الْكَلَامِ يَصْلُحُ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الْفِتْنَةِ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى لَامِ كَيْ.
وَهَذَا إذَا فُسِّرَتْ الْفِتْنَةُ بِالْمُحَارَبَةِ فَإِنْ فُسِّرَتْ بِالشِّرْكِ يَكُونُ حَتَّى بِمَعْنَى إلَى عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] إلَى أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ شِرْكٌ قَطُّ
{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] بِالنَّصْبِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إلَى أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ سَبَبًا لِمَقَالَةِ الرَّسُولِ وَيَنْتَهِي فِعْلُهُمْ عِنْدَ مَقَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الْغَايَاتِ أَنَّهَا إعْلَامُ الِانْتِهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَالثَّانِي وَزُلْزِلُوا لِكَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ فِعْلُهُمْ سَبَبًا لِمَقَالَتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ وَقُرِئَ حَتَّى يَقُولُ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ أَيْ حَتَّى الرَّسُولُ يَقُولُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ سَبَبًا وَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تُصْبِحَ أَوْ حَتَّى تَشُكِّي يَدِي أَوْ حَتَّى يَشْفَعَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ أَنَّ هَذِهِ غَايَاتٌ حَتَّى إذَا أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَاتِ حَنِثَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِطَرِيقِ التَّكْرَارِ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ فِي حُكْمِ الْبِرِّ وَالْكَفُّ عَنْهُ مُحْتَمَلُهُ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ دِلَالَاتُ الْإِقْلَاعِ عَنْ الضَّرْبِ
ــ
[كشف الأسرار]
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] وَيَضْمَحِلُّ عَنْهُمْ كُلُّ دِينٍ بَاطِلٍ.
وَيَبْقَى فِيهِمْ دَيْنُ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] أَوَّلُ الْآيَةِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة: 214] أَمْ مُنْقَطِعَةٌ وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِيهَا لِلتَّقْرِيرِ وَإِنْكَارِ الْحُسْبَانِ وَاسْتِبْعَادِهِ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى النَّبِيِّينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ. وَلِمَا فِيهَا مَعْنَى التَّوَقُّعِ أَيْ إتْيَانُ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ مُنْتَظَرٌ أَيْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ بَلَاءٍ وَلَا مَكْرُوهٍ {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ} [البقرة: 214] . أَيْ حَالُهُمْ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الشِّدَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَثَلَ فَقَالَ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [البقرة: 214] الشِّدَّةُ وَالضَّرَّاءُ الْمَرَضُ وَالْجُوعُ وَزُلْزِلُوا وَأُزْعِجُوا إزْعَاجًا شَدِيدًا شَبِيهًا بِالزَّلْزَلَةِ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْأَهْوَالِ وَالْأَفْزَاعِ. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَلِلنَّصَبِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ حَتَّى بِمَعْنَى إلَى أَيْ حُرِّكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا إلَى الْغَايَةِ الَّتِي قَالَ الرَّسُولُ وَهُوَ الْيَسَعُ أَوْ شُعَيْبٌ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] أَيْ بَلَغَ بِهِمْ الضَّجَرُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرٌ حَتَّى قَالُوا ذَلِكَ. وَمَعْنَاهُ طَلَبُ النَّصْرِ وَتَمَنِّيه وَاسْتِطَالَةُ زَمَنِ الشِّدَّةِ {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] . عَلَى إرَادَةِ الْقَوْلِ يَعْنِي فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ إجَابَةً لَهُمْ إلَى طَلَبَتِهِمْ مِنْ عَاجِلِ النَّصْرِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ أَيْ زَلْزَلَتُهُمْ وَامْتِحَانُهُمْ بِالْبَلَايَا سَبَبًا لِمَقَالَةِ الرَّسُولِ بَلْ يَنْتَهِي فِعْلُهُمْ عِنْدَ مَقَالَتِهِ.
وَلَا يُقَالُ لَيْسَ لَهُمْ فِعْلٌ بَلْ وَقَعَ الزِّلْزَالُ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ فِعْلَهُمْ. لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا زُلْزِلُوا كَانَ التَّزَلْزُلُ مَوْجُودًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ إذَا حُرِّكُوا كَانَ التَّحَرُّكُ مَوْجُودًا مِنْهُمْ خُصُوصًا عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ النَّحْوِ فَإِنَّهُمْ هُمْ الْفَاعِلُونَ بِسَبَبِ أَنَّ الزِّلْزَالَ أُسْنِدَ إلَيْهِمْ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الْغَايَاتِ أَنَّهَا أَعْلَامُ الِانْتِهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ يَعْنِي أَنَّ الْغَايَةَ عَلَامَةٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُغَيَّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ فِي انْتِهَائِهِ كَالْمِيلِ لِلطَّرِيقِ وَالْمَنَارَةِ لِلْمَسْجِدِ وَالْإِحْصَانِ لِلرَّجْمِ فَإِنَّهَا أَعْلَامٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا وُجُودُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ. أَوْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُغَيَّا أَثَرٌ فِي إيجَادِ الْغَايَةِ وَإِثْبَاتِهَا كَحُدُودِ الدَّارِ أَعْلَامٌ عَلَى انْتِهَائِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلدَّارِ أَثَرٌ فِي إيجَادِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ كَقَوْلِك أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَيْ وَزُلْزِلُوا لِكَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ أَيْ زَلْزَلَتُهُمْ سَبَبًا لِمَقَالَتِهِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ بَلْ يَكُونُ دَاعِيًا إلَيْهِ. وَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِمْ شَرِبَتْ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءُ الْبَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ إلَّا أَنَّهَا حَالٌ مَاضِيَةٌ مَحْكِيَّةٌ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَقِيَ فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ أَوْ غَايَةً وَهِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْفِعْلَ) أَيْ الْفِعْلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الضَّرْبُ.
يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ بِطَرِيقِ التَّكْرَارِ يَعْنِي لَا امْتِدَادَ لِفِعْلٍ مَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَا يُتَصَوَّرُ امْتِدَادُهُ لَكِنَّ بَعْضَ الْأَفْعَالِ قَدْ يُحْتَمَلُ الِامْتِدَادُ بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ كَالْجُلُوسِ وَالرُّكُوبِ. وَالضَّرْبِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ الْمَدُّ إلَى الْغَايَةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُ مُتَصَوَّرًا وَإِذَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِلِامْتِدَادِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا كَانَ الْكَفُّ عَنْهُ أَيْ عَنْ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقْلِعَ قَبْلَ الْغَايَةِ مُحْتَمَلُ هَذَا الْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ مُتَصَوَّرًا أَيْضًا وَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ شَرْطِ الْحِنْثِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ حَتَّى لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا. وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ هُنَا كَشَرْطِ الْبِرِّ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ أَيْ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الصِّيَامِ وَاشْتِكَاءِ الْيَدِ أَيْ تَأَلُّمِهَا وَشَفَاعَةِ فُلَانٍ وَدُخُولِ
فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهَا فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ الْكَفَّ عَنْهُ قَبْلَ الْغَايَةِ وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةِ الْإِتْيَانِ وَالْإِتْيَانُ يَصْلُحُ سَبَبًا وَالْغِدَاءُ يَصْلُحُ جَزَاءً فَحُمِلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّبَبِ غَايَتُهُ فَاسْتَقَامَ الْعَمَلُ بِهِ فَصَارَ شَرْطُ بِرِّهِ فِعْلَ الْإِتْيَانِ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِالْغِدَاءِ وَقَدْ وُجِدَ وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك كَانَ هَذَا لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ إحْسَانٌ فَلَا يَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ وَلَا يَصْلُحُ إتْيَانُهُ سَبَبًا لِفِعْلِهِ وَلَا فِعْلُهُ جَزَاءً لِإِتْيَانِ نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الْعَطْفِ الْمَحْضِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أُغَدِّيَك فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَدَّى عِنْدَك حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ
ــ
[كشف الأسرار]
اللَّيْلَةِ دِلَالَاتُ الْإِقْلَاعِ أَيْ الْإِمْسَاكِ وَالْكَفِّ عَنْ الضَّرْبِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الضَّرْبِ بِهَا. فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهَا أَيْ بِحَقِيقَةِ الْغَايَةِ وَحَمْلُ حَتَّى عَلَيْهَا فَإِذَا أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَةِ كَانَ حَانِثًا. فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ الْبِرِّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَلِمَاذَا يَحْنَثُ فِي الْحَالِ. قُلْنَا الْيَمِينُ تَقَعُ عَلَى أَوَّلِ الْوَهْلَةِ لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْيَمِينِ غَيْظٌ لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْحَالِ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ الْيَمِينُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْحَقِيقَةِ عُرْفٌ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا عُرْفٌ ظَاهِرٌ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى أَقْتُلَك أَوْ حَتَّى تَمُوتَ كَانَ هَذَا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَصْدُهُ الْقَتْلَ لَا يُذْكَرُ لَفْظَةَ الضَّرْبِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْقَتْلَ وَجَعْلُ الْقَتْلِ غَايَةً لِبَيَانِ شِدَّةِ الضَّرْبِ مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ.
وَلَوْ قَالَ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْك أَوْ حَتَّى تَبْكِيَ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مُعْتَادٌ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله قَوْلُهُ (حَتَّى تُغَذِّيَنِي لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ) التَّغْذِيَةُ لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى انْتِهَاءِ الْإِتْيَانِ وَكَذَا الْإِتْيَانُ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ أَيْضًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ فِيهِ فَفَاتَ شَرْطَا الْغَايَةِ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْذِيَةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَةِ إحْسَانٌ بَدَنِيٌّ إلَى الْمَزُورِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِإِحْسَانٍ مَالِيٍّ مِنْهُ إلَى الزَّائِرِ وَعَنْ هَذَا قِيلَ مَنْ زَارَ حَيًّا وَلَمْ يُذَقْ عِنْدَهُ شَيْئًا فَكَأَنَّمَا زَارَ مَيِّتًا. وَالتَّغْذِيَةُ صَالِحَةٌ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ أَيْضًا فَيَصْلُحُ مُكَافَأَةً لِلْإِحْسَانِ.
وَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَةُ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِتْيَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ بِأَنْ أَتَاهُ لِيَضْرِبَهُ أَوْ يَشْتُمَهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْذِيَةِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْبِرِّ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى أُغَذِّيَك. وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك أَوْ قَالَ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى تُغَذِّيَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ. لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَيْ التَّغَذِّيَ مِنْ غِذَاءِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِبَاحَةِ إحْسَانٌ قَالَ عليه السلام «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت» . أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ عِنْدَ الْإِبَاحَةِ إسَاءَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى الْعَدَاوَةِ حَتَّى أَوْجَسَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه خِيفَةً فِي نَفْسِهِ مِنْ الضَّيْفِ إذْ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ ضِيَافَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مُنْهِيًا لِلْإِتْيَانِ. أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ التَّغْذِيَةُ أَيْ التَّغْذِيَةُ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا الغذي إحْسَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا تَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ بَلْ هِيَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ إذْ الْإِنْسَانُ عَبِيدُ الْإِحْسَانِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ حَتَّى عَلَى الْغَايَةِ وَلَا يَصْلُحُ إتْيَانُهُ سَبَبًا لِفِعْلِهِ أَيْ الْفِعْلُ نَفْسُهُ كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِإِتْيَانِهِ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ أَيْضًا فَحُمِلَ عَلَى الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْفَاءِ أَوْ بِمَعْنَى ثُمَّ لِأَنَّ التَّعْقِيبَ يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ فَيَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلَيْنِ بِوَصْفِ التَّعْقِيبِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَذَّى عِنْدَك قَوْلُهُ (حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَذَّ) إلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَمَّا إنْ وَقَّتَ بِالْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك. أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ. فَإِنْ وَقَّتَ فَشَرْطُ الْبِرِّ وُجُودُ الْفِعْلَيْنِ فِي الْيَوْمِ وَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ أَحَدِهِمَا فِيهِ حَتَّى إذْ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ وَتَغَذَّى عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُتَّصِلًا بِالْإِتْيَانِ أَوْ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَانَ بَارًّا لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ. إلَّا إذَا عَنَى الْفَوْرَ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ
ثُمَّ تَغَدَّى مِنْ بَعْدُ غَيْرَ مُتَرَاخٍ فَقَدْ بَرَّ وَإِنْ لَمْ يَتَغَذَّ أَصْلًا حَنِثَ وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لَا يُوجَدُ لَهَا ذِكْرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ فِيمَا أَعْلَمُ لَكِنَّهَا اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ اقْتَرَحَهَا أَصْحَابُنَا عَلَى قِيَاسِ اسْتِعَارَاتِ الْعَرَبِ لِأَنَّ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْغَايَةِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ حَيْثُ يُوصِلُ الْغَايَةَ بِالْجُمْلَةِ كَالْمَعْطُوفِ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى الْعَطْفِ مَعَ قِيَامِ الْغَايَةِ بِلَا خِلَافٍ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُسْتَعَارَ لِعَطْفِ الْمَحْضِ إذَا تَعَذَّرَتْ حَقِيقَتُهُ وَهَذَا عَلَى مِثَالِ اسْتِعَارَاتِ أَصْحَابِنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى هَذَا جَاءَنِي زَيْدٌ حَتَّى عَمْرٌو وَهَذَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنْ الْعَرَبِ وَإِذَا اُسْتُعِيرَ لِلْعَطْفِ اُسْتُعِيرَ لِمَعْنَى الْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّ الْغَايَةَ تُجَانِسُ التَّعْقِيبَ. .
ــ
[كشف الأسرار]
الْفِعْلَيْنِ بِصِفَةِ الِاتِّصَالِ. وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ كَانَ شَرْطُ الْبِرِّ وُجُودَ الْفِعْلَيْنِ فِي الْعُمُرِ بِصِفَةِ الِاتِّصَالِ أَوْ التَّرَاخِي إذَا لَمْ يَنْوِ الْفَوْرَ وَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ أَحَدِهِمَا فِي الْعُمُرِ هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الزِّيَادَاتِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ أَيْضًا فَقَالَ إذَا قَالَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك الْيَوْمَ أَوْ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى تَتَغَذَّى عِنْدَك الْيَوْمَ فَكَذَا فَأَتَاهُ ثُمَّ لَمْ يَتَغَذَّ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَنِثَ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ وُجُودُ الْأَمْرَيْنِ فِي الْيَوْمِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ بِالْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُرْجَى الْبِرُّ وَهُوَ التَّغَذِّي فِي وَقْتٍ آخَرَ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ أَيْضًا. وَإِذَا تَحَقَّقَتْ هَذَا عَلِمْت أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَذَّ ثُمَّ تَغَذَّى مِنْ بَعْدُ غَيْرَ مُتَرَاخٍ فَقَدْ بَرَّ نَوْعَ اشْتِبَاهٍ لِأَنَّ لِقَوْلِهِ فَلَمْ يَتَغَذَّ مَعَ قَوْلِهِ تَغَذَّى مِنْ بَعْدُ غَيْرَ مُتَرَاخٍ نَوْعَ مُنَافَاةٍ. وَظَنِّي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْكِتَابِ فِي الْيَوْمِ مِثْلُهَا فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ نُسَخِ الزِّيَادَاتِ فَسَقَطَ لَفْظُ الْيَوْمِ عَنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ.
وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرَ كَانَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حَتَّى إذَا أَتَاهُ أَيْ فِي الْيَوْمِ. فَلَمْ يَتَغَذَّ عِنْدَهُ أَيْ عَلَى فَوْرِ الْإِتْيَانِ. ثُمَّ تَغَذَّى مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدُ إنْ لَمْ يَتَغَذَّ عَلَى الْفَوْرِ. غَيْرَ مُتَرَاخٍ أَيْ عَنْ الْيَوْمِ فَقَدْ بَرَّ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَذَّ فِي الْيَوْمِ أَصْلًا حَنِثَ. فَأَمَّا إذَا أَجْرَيْنَاهَا عَلَى إطْلَاقِهَا كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَأَنَا لَا أَدْرِي مَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَ مُتَرَاخٍ إذْ لَوْ قُدِّرَتْ غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْإِتْيَانِ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ فَلَمْ يَتَغَذَّ وَلَوْ قُدِّرَتْ غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْعُمُرِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّغَذِّي مُتَرَاخِيًا عَنْ الْعُمُرِ.
وَفِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ثُمَّ تَغَذَّى مَنْ تَغَذَّى غَيْرَ مُتَرَاخٍ أَيْ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا أَعْرِفُ صِحَّتَهُ قَوْلُهُ (وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ) أَيْ اسْتِعَارَةُ حَتَّى لِمَعْنَى الْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ بِوَجْهِ اسْتِعَارَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كَلَامِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ رَأَيْت زَيْدًا حَتَّى عَمْرًا كَمَا يَقُولُونَ رَأَيْت زَيْدًا فَعَمْرًا أَوْ ثُمَّ عَمْرًا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ اللُّغَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي لُغَتِهِمْ لَكِنَّ هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ اقْتَرَحَهَا مُحَمَّدٌ أَيْ اسْتَخْرَجَهَا بِقَرِيحَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعَارَاتِهِمْ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الدَّلِيلِ فَإِنْ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الدَّلِيلِ:
إذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا
…
. فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
وَذَكَرَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّ الْمُبَرِّدَ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى الْغَزَالَةِ فَقَالَ هِيَ الشَّمْسُ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِعَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ السَّمَاعُ بَلْ يُشْتَرَطُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الصَّالِحِ لِلِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَقَدْ وُجِدَ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِعَارَةِ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ عَلَى مِثَالِ اسْتِعَارَاتِ أَصْحَابِنَا. فِي غَيْرِ هَذَا الْبَاب أَيْ بَابِ حَتَّى مِثْلُ اسْتِعَارَتِهِمْ الْبَيْعَ لِلنِّكَاحِ وَالْعَتَاقَ لِلطَّلَاقِ وَالْحَوَالَةَ لِلْوِكَالَةِ وَنَحْوَهَا. وَإِذَا اُسْتُعِيرَ أَيْ حَتَّى لِلْعَطْفِ اُسْتُعِيرَ بِمَعْنَى الْفَاءِ أَيْ بِمَعْنَى حَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ مِثْلَ الْفَاءِ أَوْ ثُمَّ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّ التَّعْقِيبَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً وَمُجَانَسَةً لِلْغَايَةِ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا.
وَالْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَقَالَ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَزَاءِ يُحْمَلُ عَلَى الْعَطْفِ كَقَوْلِك جَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ أَيْ وَزَيْدٌ ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك تَقْدِيرُهُ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ وَأَتَغَذَّى عِنْدَك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ