الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ
الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ
عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] : إنَّ الْقُرْآنَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ الزَّكَاةُ وَقَالُوا: لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ وَاعْتَبَرُوا بِالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي اللُّغَةِ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَيْنَهُمَا لِافْتِقَارِ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إلَى مَا تَتِمُّ بِهِ فَإِذَا تَمَّ بِنَفْسِهِ لَمْ تَجِبْ الشَّرِكَةُ إلَّا فِيمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ وَهَذَا أَكْثَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُحْصَى
ــ
[كشف الأسرار]
فِيهَا بَعْدَ تَفَحُّصٍ وَإِتْقَانٍ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي مَكَان آخَرَ وَيَحْتَمِلُ التَّحَرُّزَ وَالتَّوَرُّعَ عَنْ الْمُجَازَفَةِ أَيْ أَنَّا تَفَحَّصْنَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَنُخْبِرُ عَمَّا تَحَقَّقْنَا وَلَا نُخْبِرُ مُجَازَفَةً عَنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ لِأَنَّا لَمْ نَتَفَحَّصْ فِيهَا فَعَارَضَ هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ فَلَا يُمْنَعُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ التُّهْمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ الثَّابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ لَمَّا مَاتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ قَبِيلَتِهِ هَلْ يَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ نَسَبًا قَالُوا: لَا إلَّا ابْنَ أُخْتٍ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ إلَى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ» فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِيهِمْ نَسَبًا وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلَ بِشَهَادَتِهِمْ كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ.
[الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ]
قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْعَمَلِ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ مَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ إنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَصُورَتَهُ أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ مَتَى دَخَلَ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ تُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمَعْطُوفَ إذَا كَانَ نَاقِصًا يُشَارِكُ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا فِي خَبَرِهِ وَحُكْمِهِ جَمِيعًا وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْقِرَانَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِوَاوِ النَّظْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] يُوجِبُ سُقُوطَ الزَّكَاةِ عَنْ الصَّبِيِّ كَسُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْحُكْمِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فِي اللُّغَةِ وَلِهَذَا يُسَمَّى وَاوُ الْعَطْفِ عِنْدَهُمْ وَمُوجِبُ الْعَطْفِ هُوَ الِاشْتِرَاكُ وَمُطْلَقُ الِاشْتِرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُتَعَرِّيًا عَنْ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي خَبَرِهِ وَحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَا كَلَامَيْنِ تَامَّيْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَاعْتَبِرُوا بِالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي كَلَامِ النَّاسِ يُوجِبُ الْقِرَانُ الِاشْتِرَاكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ يُوجِبُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْحُرِّيَّةِ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ تَامًّا مُفِيدًا بِنَفْسِهِ فَكَذَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي اللُّغَةِ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِنَفْسِهِ وَيَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ جَعْلَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا وَاحِدًا وَهُوَ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا احْتَاجَتْ إلَى الْخَبَرِ أَوْجَبَ عَطْفُهَا عَلَى الْكَامِلَةِ الشَّرِكَةَ فِي الْخَبَرِ ضَرُورَةَ الْإِفَادَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ عُدِمَتْ فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ عَلَى مِثْلِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ الشَّرِكَةُ.
وَهَذَا أَيْ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِدُونِ الشَّرِكَةِ كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ: إنَّ الْعِتْقَ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ تَامًّا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّعْلِيقِ قَاصِرٌ
ــ
[كشف الأسرار]
مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] .
وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} [الحج: 5] وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] وَقَوْلُهُ جل جلاله {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] وَغَيْرُ ذَلِكَ فَهَذِهِ جُمَلٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَمْ تُشَارِكْ مَا تَقَدَّمَهَا فِي الْإِعْرَابِ فَأَنَّى تُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَثْبُتُ لِلِافْتِقَارِ قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ كَانَ تَامًّا إيقَاعًا لَكِنَّهُ قَاصِرٌ تَعْلِيقًا أَيْ نَاقِصٌ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّ غَرَضَهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَا التَّنْجِيزُ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ شَرْطًا عَلَى حِدَةٍ فَصَارَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْغَرَضُ وَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ الشَّرِكَةُ لِلِافْتِقَارِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ طَلَاقُ عَمْرَةَ بِالشَّرْطِ بَلْ يُتَنَجَّزُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْلِيقَ لَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ وَعَمْرَةُ لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ فَيَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِالْعَطْفِ وَحَيْثُ لَمْ يَقْتَصِرْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ التَّنْجِيزُ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَزَيْنَبُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَعَمْرَةُ طَالِقٌ أَنَّ طَلَاقَ عَمْرَةَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ أَيْضًا لِأَنَّ غَرَضَهُ تَعْلِيقُ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ زَيْنَبَ وَتَعْلِيقُ نَفْسِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّ عَمْرَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِعَادَةِ الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَبْدِي حُرٌّ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ فِي قَوَانِينِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ رِعَايَةَ التَّنَاسُبِ شَرْطٌ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَدَرَجَاتُ الْحَمْلِ ثَلَثُونِ وَكُمُّ الْخَلِيفَةِ فِي غَايَةِ الطُّولِ وَفِي عَيْنِ الذُّبَابِ جُحُوظٌ وَكَانَ جَالِينُوسُ مَاهِرًا فِي الطِّبِّ وَالْخَتْمُ فِي التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ وَالْقِرْدُ شَبِيهٌ بِالْآدَمِيِّ سُجِّلَ عَلَيْهِ بِكَمَالِ السَّخَافَةِ أَوْ عُدَّ مَسْخَرَةً مِنْ الْمَسَاخِرِ فَدَلَّ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ.
قُلْنَا لَا نُنْكِرُ أَنَّ التَّنَاسُبَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَلَكِنَّا نُنْكِرُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهِ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهَذَا كَالْمَفْهُومِ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْكَلَامِ وَعَلَيْهِ بُنِيَ عِلْمُ الْمَعَانِي وَلَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ افْتِقَارَ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ فِي أَمْرٍ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَامًّا بِنَفْسِهِ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى إلَى آخِرِهِ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَاخْتُلِفَ فِي طَرِيقِ الرَّدِّ فَعِنْدَنَا لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ تَتْمِيمًا لِلْحَدِّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَقْبَلُ لِلْفِسْقِ فَإِنَّهُ بِالْقَذْفِ بِلَا شُهُودٍ هَتَكَ سِتْرَ الْعِفَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ بِهِ فَاسِقًا وَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِارْتِكَابِ جَرِيمَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْفِسْقِ وَإِذَا ثَبَتَ فِسْقُهُ بِالْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْحَدِّ أَيْضًا لِوُجُودِ الْفِسْقِ وَيَقْبَلُ إذَا تَابَ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَهُ لِزَوَالِ الْفِسْقِ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْفَسَقَةِ إذَا تَابُوا وَعِنْدَنَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ تَتْمِيمًا لِلْحَدِّ وَسَبَبُهُ الْقَذْفُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إتْيَانِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ لَا نَفْسَ
وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] : إنَّ قَوْلَهُ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] جَزَاءٌ وَقَوْلَهُ لَا تَقْبَلُوا وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ جَزَاءً وَاحِدًا مُفْتَقِرًا إلَى الشَّرْطِ فَجُعِلَ مُلْحَقًا بِالْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ جُرْحَ الشَّهَادَةِ إيلَامٌ كَالضَّرْبِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْقَذْفِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.
وَرُبَّمَا يَكُونُ حِسْبَةً مِنْ الْقَاذِفِ إذْ عَلِمَ إصْرَارَهُ وَوَجَدَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ فَإِذَا عَجَزَ لَمْ يَكُنْ قَذْفُهُ حِسْبَةً وَإِقَامَةً لِحَقِّ الشَّرْعِ بَلْ كَانَ هَتْكًا لِلسِّتْرِ لَا غَيْرَ وَأَنَّهُ حَرَامٌ شَرْعًا فَصَارَ سَبَبًا لِلْحَدِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَسْمَعُ بَيِّنَةَ الْقَاذِفِ عَلَى إثْبَاتِ مَا قَذَفَ وَلَوْ كَانَ قَذْفُهُ كَبِيرَةً بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا وَلَا مَعْمُولًا بِحُكْمِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كَبِيرَةً بِالْعَجْزِ فَإِذَا عَجَزَ وَصَارَ الْقَذْفُ حِينَئِذٍ فِسْقًا لَزِمَ الْقَاضِي إقَامَةُ الْحَدِّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِظُهُورِ فِسْقِهِ وَلَكِنَّهَا بَعْدَ الْقَذْفِ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْسُقْ بَعْدُ وَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُقْبَلُ بَعْدُ وَإِنْ تَابَ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَصْلَ الْحَدِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فَمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ لَا يَسْقُطُ أَيْضًا وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ تَمَسَّكُوا فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِمْ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] جَزَاءٌ لَهُ وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهِ الْفَاءُ أَيْ مَنْ رَمَى مُحْصَنَةً فَاجْلِدُوهُ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْأُولَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا بِنَفْسِهِ وَالْوَاوُ لِلنَّظْمِ فَلَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَقَوْلَهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] جُمْلَةٌ تَامَّةٌ أَيْضًا وَلَكِنَّهَا فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا أَيْ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ بِذَلِكَ الرَّمْيِ فَكَانَتْ مُتَّصِلَةً بِمَا تَقَدَّمَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ اللَّاحِقِ بِهَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْجَمْلِ الْمَعْطُوفَةِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْكُلِّ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْقِطَ الْكُلَّ بِالتَّوْبَةِ رَدَّ الشَّهَادَةِ لِزَوَالِ الْفِسْقِ وَالْجَلْدَ لِزَوَالِ الْقَذْفِ بِإِكْذَابِ النَّفْسِ إلَّا أَنَّ الْجَلْدَ حَقُّ الْمَقْذُوفِ فَتَوْبَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعْفِيَهُ فَلَا جُرْمَ إذَا اسْتَعْفَاهُ فَعَفَا عَنْهُ سَقَطَ الْحَدُّ أَيْضًا.
وَأَصْحَابُنَا رحمهم الله قَالُوا: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا قَالَ: وَلَكِنَّ نَفْسَ الرَّمْيِ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْجِنَايَةِ وَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْجِنَايَةِ إلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالشُّهُودِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا لِتَرَجُّحِ جَانِبِهَا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّرْطِ فَكَانَ الْكُلُّ شَرْطًا لِلْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ كَمَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ: الدَّارَ ثُمَّ تُكَلِّمُ زَيْدًا فَهِيَ طَالِقٌ كَانَ دُخُولُ الدَّارِ مَعَ كَلَامِ زَيْدٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ.
وَإِنَّمَا عَطَفَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ لِأَنَّ إقَامَةَ الشُّهُودِ تَتَرَاخَى عَنْ الْقَذْفِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ وَلَا تُقَامُ عَقِيبَ الرَّمْيِ مُتَّصِلًا بِهِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] فَتَعَلَّقَ الْجَلْدُ بِهِ وَصَارَ مِنْ حُكْمِهِ مِثْلَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فَشَارَكَهُ فِي كَوْنِهِ جَزَاءً وَاحِدًا لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَامًّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصْمُ
وَأَلَا تَرَى أَنَّهُ فُوِّضَ إلَى الْأَئِمَّةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَلَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُقَامُ ابْتِدَاءً بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ فَأَمَّا الْحِكَايَةُ عَنْ حَالٍ قَائِمَةٍ فَلَا فَاعْتُبِرَ تَمَامُهَا بِصِيغَتِهَا فَكَانَتْ فِي حَقِّ الْجَزَاءِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] وَمِثْلُ قَوْلِهِ {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله قَطَعَ قَوْلَهُ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِاتِّصَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَقُلْنَا نَحْنُ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَذْفَ سَبَبٌ وَالْعَجْزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ بِصِفَةِ التَّرَاخِي وَالرَّدَّ حَدٌّ مُشَارِكٌ لِلْجَلْدِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ وَالْعَجْزَ عَطْفٌ بِثُمَّ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ جَزَاءً وَاحِدًا مُفْتَقِرٌ إلَى الشَّرْطِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ وَيَصِيرُ الْكُلُّ حَدًّا لِلْقَذْفِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَتَغْرِيبُ عَامٍ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْبِكْرِ لِلْعَطْفِ وَلَكِنَّا لَمْ نَجْعَلْ التَّقْرِيبَ حَدًّا لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِغْرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ دُونَ الزَّجْرِ فَأَمَّا رَدُّ الشَّهَادَةِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ وَأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَتْمِيمِ الْحَدِّ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ تُقَامُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَقْذُوفِ عَلَى مَا عُرِفَ وَحَقُّهُ فِي زَوَالِ مَا لِحَقِّهِ مِنْ الْعَارِ بِتُهْمَةِ الزِّنَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يَصِيرَ الْقَاذِفُ مُكَذِّبُ الشَّهَادَةِ مَرْدُودَ الْكَلَامِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَإِبْطَالِ كَلَامِهِ فَوْقَ مَا يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ فَيَصْلُحُ عُقُوبَةً فَيَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ ثُمَّ جَرِيمَةُ الْقَاذِفِ بِاللِّسَانِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ حَدٌّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْجَرِيمَةُ فَكَانَ جَزَاءً وِفَاقًا كَشَرْعِيَّةِ حَدِّ السَّرِقَةِ فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْجَلْدِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ لِأَنَّهُ إيلَامٌ بَاطِنًا كَالْقَذْفِ إلَّا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَا يَنْزَجِرُ بِهِ عَنْ الْقَذْفِ فَضَمَّ إلَيْهِ الْإِيلَامَ الْحِسِّيَّ لِيَشْمَلَ الزَّاجِرُ الْجَمِيعَ وَيَحْصُلَ الِانْزِجَارُ عَامًّا وَجُعِلَ الرَّدُّ تَتْمِيمًا لَهُ لِيَكُونَ جَزَاءً وِفَاقًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] شَهَادَةٌ يُقِيمُهَا الْقَاذِفُ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بِدَلِيلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ يَعْنِي إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لَا تَقْبَلُوا لِأَجْلِهِمْ شَهَادَةً عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاذِفَ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ لَقِيلَ وَلَا تَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ قُلْنَا: الْمُرَادُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَوَادِثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا قَامَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وقَوْله تَعَالَى لَهُمْ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ شَهَادَتُهُمْ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُك وَهَذِهِ دَارٌ لَك وَالدَّالُّ عَلَيْهِ أَنَّ شَهَادَةً نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي النَّفْيِ فَيُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهَا لِأَنَّ شَهَادَةً تُقِيمُهَا عَلَى سَائِرِ حُقُوقِهِ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: وَلَا تَقْبَلُوا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِأَنَّهُ تَحْرِيمُ الْقَبُولِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا لِأَنَّ الْحَدَّ فِعْلٌ يَلْزَمُ لِلْإِمَامِ إقَامَتُهُ لَا حُرْمَةُ فِعْلٍ وَلَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَصَوُّرِهِ وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ وَالْإِبْطَالُ فَوْقَ النَّهْيِ. قُلْنَا قَوْلُكُمْ النَّهْيُ لَا يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ مُسَلَّمٌ غَيْرَ أَنَّ النَّهْيَ الْمُحَرِّمَ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ دَلَّنَا عَلَى بُطْلَانِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالْحَدِّ الَّذِي أُمْضِيَ عَلَى الْقَاذِفِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَلْدِ دَلَّنَا عَلَى الْوُجُوبِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ الْقَذْفُ إذْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِإِقَامَةِ مَا وَجَبَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَفٍّ بِسَبَبٍ وَإِذَا دَلَّ النَّهْيُ عَنْ الْقَبُولِ عَلَى سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ أَبْطَلَتْهَا وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ عُلِمَ أَنَّهُ بَطَلَ حَدًّا كَأَنَّهُ قَالَ عز وجل {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] مُؤْلِمَةً مُحَرِّمَةً لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَوْ مُبْطِلَةً لِأَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ وَقَوْلُكُمْ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
قُلْنَا: الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ شَهَادَةٌ تَحَرَّمَ قَبُولُهَا حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْعَبْدِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَجُمْلَةٌ تَامَّةٌ بِنَفْسِهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَهَا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَهَا جُمْلَتَانِ فِعْلِيَّتَانِ أَمْرٌ بِفِعْلٍ وَنَهْيٌ عَنْ آخَرَ خُوطِبَ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إخْبَارٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِالْقَاذِفِينَ وَبَيَانٌ لِجَرِيمَتِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ جَزَاءً عَلَى الْقَذْفِ حَتَّى يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ إزَالَةُ إشْكَالٍ عَسَى يَقَعُ وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ وَرُبَّمَا يَكُونُ حِسْبَةً إذَا كَانَ الرَّامِي صَادِقًا لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ وَالزَّانِي مُصِرًّا فَكَانَ يَقَعُ الْإِشْكَالُ أَنَّهُ لِمَاذَا كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ عُقُوبَةٍ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] أَيْ الْعَاصُونَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ حِينَ عَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَطْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ بَقِيَ كَلَامًا مُبْتَدَأً وَكَانَتْ الْوَاوُ لِلنَّظْمِ وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفًا إلَيْهِ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهَاهُنَا قَدْ انْقَطَعَ هَذَا الْكَلَامُ عَمَّا تَقَدَّمَهُ فَاقْتَصَرَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ فَإِذَا تَابَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ أَبَدًا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] بِالْفَاءِ فَلَمَّا قِيلَ بِالْوَاوِ عُلِمَ أَنَّهُ إخْبَارٌ لَا تَعْلِيلٌ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَكَانَ فِي الْآيَةِ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي الْبَيَانِ وَلِهَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَوَانُهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَذُكِرَ فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ وَغَيْرِهَا أَنَّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إتْيَانِ الشُّهُودِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ مَرْدُودَةٌ وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ إذَا تَابَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يَقْبَلُ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَجْزِ تَحَقُّقُ فِسْقِهِ وَلَكِنْ تَوَقَّفَ بُطْلَانُهَا حَدًّا عَلَى الْجَلْدِ لِأَنَّ الْحَدَّ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ وَإِنْ وَجَبَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ حُكْمُ الْإِبْطَالِ لَا حُكْمُ وُجُوبِ الْإِبْطَالِ كَمَا أَنَّ الْأَلَمَ الَّذِي يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَلْدِ لَا حُكْمُ وُجُوبِ إيقَاعِهِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُقَامُ ابْتِدَاءً بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ أَيْ الْجَزَاءُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلٍ يَحْدُثُ بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ لَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِالْجَانِي أَحْدَثَهَا بِنَفْسِهِ.
فَاعْتُبِرَ تَمَامُهَا أَيْ تَمَامُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَتِهَا أَيْ بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لَهَا بِالْأُولَى فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَقِّ الْجَزَاءِ أَيْ فِي كَوْنِهَا جَزَاءً فِي حُكْمِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ الْكَلَامِ الْمُسْتَأْنَفِ الْمُنْقَطِعِ عَمَّا سَبَقَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ سَابِقٍ فَلَا يُجْعَلُ فِي هَذَا مُبْتَدَأً وَالشَّافِعِيُّ قَطَعَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا عَمَّا سَبَقَ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِاتِّصَالِ وَهُوَ كَوْنُهُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً صَالِحَةً لِلْجَزَاءِ مُفَوَّضَةً إلَى الْأَئِمَّةِ مِثْلُ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهُ