الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العاشر
عَنْ رَاح بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه: قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا، فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ، وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الوَرِقُ، فَلَمْ يَنْهَنَا عنه (1).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَة بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَافِعٍ بْنَ خَدِيجِ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كانَ النَّاسُ يُؤاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما على المَاذِيَانَاتِ، وأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، وأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هذا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ للنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِه (2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2202)، كتاب: المزارعة، باب: قطع الشجر والنخل، و (2573)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في المزارعة، ومسلم (1547/ 117)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق، واللفظ له، وابن ماجة (2458)، كتاب: الرهون، باب: الرخصة في كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضة.
(2)
رواه مسلم (1547/ 116)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق، وأبو داود (3392)، كتاب: البيوع، باب: في المزارعة، والنسائي (3899)، كتاب: المزارعة، باب: ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع. =
المَاذِيَانَاتُ: الأَنْهَارُ الْكِبَارُ، وَالجَدَاوِلُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ.
* * *
(عن رافع بن خديج) -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة والجيم- بنِ رافعِ بنِ عديِّ بنِ زيدِ بنِ عمرَ بنِ يَزِيد -بفتح المثناة تحت وكسر الزاي-، الحارثيِّ، الأنصاريِّ، الأوسيِّ، من أهل المدينة، لم يشهد بدرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ردّه يومئذٍ لصغره، ثمّ أجازه يومَ أُحُد، وأصابه سهمٌ يومَها، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أنا أشهدُ لك يوم القيامة"(1)، ثم انتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان، فمات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: سنة أربع، بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل: ماتَ في أيّام معاوية.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، ويكنى: أبا عبد الله (2)(رضي الله عنه، قال: كنّا) معشرَ بني حارث من الأوس (أكثرَ الأنصار)، وهم الأوس والخزرج وحلفاؤهم (حقلًا) جمع حقلة، ومنه: لا ينبت البقلَـ[ـة] إلّا الحقلةُ (3).
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 93)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 195)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 410)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 197)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 219)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1208)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 10)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 163)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 176)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 78)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 11).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
قلت: تقدمت ترجمة رافع بن خديج رضي الله عنه في الحديث العاشر من باب: ما نهي عنه من البيوع.
(3)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 230).
قال في "القاموس": الحقل: قراح طيب يزرع فيه، كالحقلة (1).
وفي "المطالع": المحاقل: المزارع، وقيل: الحقل: الزرع مادام أخضر، وقيل: أصلها أن يأخذ أحدهما حقلًا من الأرض لحقل له آخر (2).
(فكنا نكري الأرض على أنّ لنا هذه)؛ أي: ما يخرج من هذه الحقلة، (ولهبهم)؛ أي: العاملين عليها (هذه)؛ أي: ما يخرج من الحقلة الأخرى من الطعام، (فربما أخرجت هذه) التي لنا، (ولم تخرج هذه) التي صارت لهم، وربما صار الأمر بالعكس، (فنهانا) صلى الله عليه وسلم (عن ذلك)، لما فيه من الغرر والضرر، (فأمَّا الوَرِق) من الفضة، وكذا الذهب المعلوم المقدار، (فلم ينهنا عنه) صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظٍ للبخاري: كنا أكثرَ أهل الأرض مُزْدَرَعًا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض، قال: فربما يُصاب ذلك، وتسلم الأرض، وربما تصابُ الأرض، ويسلم ذلك، فنُهينا، فأمّا الذهب والورق، فلم يكن يومئذٍ (3).
(و) في لفظٍ (لمسلم عن حنظلة) -بفتح الحاء المهملة وسكون النون وبالظاء المعجمة- (بنِ قيسِ) بنِ عمرَ بنِ حصنٍ، المدنيِّ، الزرقيِّ، نسبةً إلى جدٍّ له يسمى: زُريق -بتقديم الزاي- الأنصاريِّ.
قال في "جامع الأصول": هو من ثقات أهل المدينة وتابعيهم، سمع رافعَ بنَ خديج، وأبا هريرة، وابن الزبير، وكذا رَوَى عن عمر،
وعثمان، كما في "شرح الزهر" للبرماوي، وعنه: الزهريُّ، وربيعةُ بنُ
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1273)، (مادة: حقل).
(2)
وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 209).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2202).
أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له الجماعة إلّا الترمذي.
قال ابن سعد: كان ثقةً، قليلَ الحديث (1).
(قال: سألتُ رافعَ بنَ خديج رضي الله عنه عن كراء الأرض بالذَّهب والورق) المعلومين المقدار، (فقال)؛ أي: رافع بن خديج: (لا بأس)؛ أي: لا حرجَ، ولا إثمَ (به)؛ أي: بكراء الأرض بذلك (إنما كان الناسُ يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذِيانات) -بالذال المعجمة المكسورة فمثناة تحتية بعدها ألف فنودن فألفٌ ومثناة ففوقية- جمع ماذيان، وهو النهر الكبير، كما يأتي في كلام المصنف رحمه الله، وليست بعربية، وهي سوادية كما في "النهاية" (2)؛ أي: بالذي يخرج على حافَتَي ذلك، (و) بما يخرج على (أقبال)؛ أي: أطراف (الجداول).
قال في "النهاية": في قوله: وأقبال الجداول، الأقبال: الأوائل والرؤوس، جمع قبل، والقبل: رأس الجبل، والأكمة، وقد تكون جمع قَبَل -بالتحريك-، وهو الكلأ في مواضع من الأرض، والقبل أيضًا: ما استقبلك من الشيء (3)، (و) بـ (أشياء من الزرع) المعيَّن له، (فيهلكُ هذا)؛ أي: فربما يهلك هذا الذي للعامل، لما يصيبه من الجوائح، (ويسلم هذا)
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 73)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 88)، و"جامع الأصول" له أيضًا (14/ 323 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 173)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 453)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 155)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 55).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 313).
(3)
المرجع السابق (4/ 9).
الذي لرب الأرض، (و) ربما (يسلم هذا) الذي للعامل، (ويهلك هذا) الذي لرب الأرض، (ولم يكن للناس) يومئذٍ (كراء)؛ أي: أجرة (إلا هذا)، فلم يكن ذهب ولا فضة، (فلذلك)؛ أي: لكونه ربما سلم منه جانب، وعطب جانب، فيتضرر الذي عطب بالجانب الذي صار له دون ذاك (زجر) صلى الله عليه وسلم؛ أي: نهى (عنه، فأما) بـ (شيء) من الذهب أو الفضة أو الطعام (معلومٍ) لكلٍّ منهما (مضمونٍ) على العامل لرب الأرض، (فلا بأس)؛ أي: لا إثم ولا حرج (به) على واحدٍ منهما.
قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: (الماذيانات) في الحديث: هي (الأنهار الكبار)، وتقدم أما ليست بعربية، (والجداول): جمع جدول، كجعفر:(النهر الصغير)(1).
فإذا كان هذا ثابتًا من حديث رافع بن خديج، وقد علمتُ ثبوته، وأنه في "الصحيحين"، فليس هو من محل النزاع، فإن هذا الذي ذكره لا خلاف في فساده، وحينيذٍ لا تعارض بين الحديثين، فإن لم يحمل حديث رافع على هذا الذي فسره من نفسه وبيَّنه بيانًا شافيًا، وإلا فليحمل على الكراء بثلث أو ربع، والنزاع في المزارعة، ولم يدل حديثه عليها أصلًا، وحديثه الذي في المزارعة يحمل على الكراء أيضًا؛ لأن القصة واحدة أتت بألفاظٍ مختلفة، فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر، فإن لم يحمل لا على هذا ولا على هذا، وتمادى الخصم مع ظاهر بعض ألفاظ حديثه بوهم النهي عن المزارعة، قلنا: لا جرم أن حديث رافع هذا ورد بألفاظٍ وروايات مضطربة جدًا، مختلفة اختلافًا كثيرًا يوجب ترك العمل بها لو انفردت، فكيف تُقدم على مثلِ حديثنا؟
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1261)، (مادة: جدل).
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: حديث رافع ألوان.
قال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع من عدة روايات مختلفة مضطربة، وقد أنكر حديثه فقيهان من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم:
أحدهما: زيدُ بن ثابت رضي الله عنه، قال عن حديث رافع لمّا بلغه: أنا أعلم بذلك منه، وإنما سمع النبيُّ في رجلين قد اقتتلا، فقال:"إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع" رواه أبو داود (1).
والثاني: ما روى البخاري عن عمرو بن دينار، قال: قلتُ لطاوس: لو تركتَ المخابرةَ، فإنهم يزعمون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فقال: إن أعلمهم -يعني: ابن عباس رضي الله عنهما أخبرني: أنّ النبي في لم ينه عن ذلك، ولكن قال:" [لَـ]ـأَنْ يمنح أحدكم أخاه [أرضه] خيرٌ له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا"، ورواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وأبو داود (2).
وروى الترمذي، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة، ولكن أمر برفق بعضهم ببعض (3).
(1) رواه أبو داود (3390)، كتاب: البيوع، باب: في المزارعة، والنسائي (3927) كتاب: المزارعة، باب: ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، وابن ماجة (2461)، كتاب: الرهون، باب: ما يكره من المزارعة.
(2)
رواه البخاري (2205)، كتاب: المزارعة، باب: إذا لم يشترط السنين في المزارعة، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 281)، وأبو داود (3389)، كتاب: البيوع، باب: في المزارعة، وابن ماجة (2457)، كتاب: الرهون، باب: الرخصة في كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضة. وكذا رواه مسلم (1550)، كتاب: البيوع، باب: الأرض تمنح، وعندهم:"خرجًا معلومًا" بدل "خراجًا معلومًا".
(3)
انظر فيما ذكره الشارح رحمه الله: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (5/ 582 - 586).
ثم إن أحاديث رافع:
- منها ما يخالف الإجماع، وهو النهي عن كراء المزارع بالإطلاق.
- ومنها ما لا يختلف في فساده، كما قد بيّنا.
- وتارةً يحدث عن عمومته.
- وتارةً عن سماعه.
- وتارةً عن ظهير بن رافع.
فإذا كانت أخبار رافع هكذا، فطرحُها أولى وأحرى من الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها، وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم، فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث المضطربة.
ولمّا كان الإمام أحمدُ أعلم الناس بالمنقوله، وأحفظَهم لأحاديث الصحابة والرسوله، لم يعرِّجْ على خبر رافع، ولم يلوِ إليه عِنانه، لعلمه بثبوت أحاديث المزارعة، وعدمِ ما يقاومها من الأحاديث المخالفة لها.
وأَمّا حملُ الشافعية أحاديثَ المزارعة على الأرض التي بين النخيل، وأحاديثَ النهي على الأرض البيضاء، جمعًا بينها، فهذا بعيد جدًا، فإنه يبعد أن يكون بلدٌ كبيرةٌ يأتي منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرضٌ بيضاء.
ثم إنّ هذا تحكم لا طائل تحته.
ثم إنّ موافقة الخلفاء الراشدين وأهليهم، وفقهاءِ الصحابة، وهم الأعلمُ بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته ومعانيها أولى وأحرى من قول من خالفهم.
وقد نقل الإمام أبو جعفر الإجماعَ على ما ذهبنا إليه، فإجماعُ السلف أولى بالاتباع، بل لا مندوحة للقول بخلافه.
وأيضًا: فإن القياس يقتضي ذلك، فإنّ الأرض عين تنمى بالعمل، فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها، كالمال في المضاربة، والنخل في المساقاة، والله تعالى أعلم (1).
تنبيهات:
الأول: تجوز المزارعة بجزءٍ مشاعٍ معلوم يُجعل للعامل من الزّرع -كما تقدم-، ويشترط كون البذر من ربّ الأرض، ولو أنه العامل، وبقر العمل من الآخر، ولا تصحّ إذا كان البذر من العامل، أو منهما، أو من أحدهما، والأرض لهما، أو الأرض والعمل من الآخر، أو البذر من ثالث، أو البقر من رابع.
وعن الإمام أحمد رضي الله عنه: أنّه لا يُشترط كون البذر من ربّ الأرض.
واختار هذا الإمامُ الموفق، والمجد، والشارح، وابن رَزين، وأبو محمد الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن قاضي الجبل في "الفائق"، وصاحب "الحاوي الصغير"(2).
قال الإمام الموفق في "المغني": وهو الصحيح، وعليه عمل الناس (3).
(1) المرجع السابق.
(2)
نقله الحجاوي في "الإقناع"(2/ 483 - 484).
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 244 - 245).
قال في "الإنصاف": وهو أقوى دليلًا (1).
قال الإمام شمس الدين بن أبي عمر في "شرح المقنع": اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رضي الله عنه في هذه المسألة، فروي عنه: اشتراطُ كون البذر من ربِّ الأرض، نصّ عليه في رواية جماعة، وهو اختيار الخرقي، وعامة الأصحاب، وهو قول ابن سيرين، وإسحاق؛ لأنه عقدٌ يشترك ربُّ المال والعامل في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كلّه من عند أحدهما، كالمساقاة والمضاربة.
قال: وروي عنه ما يدل على أنّ البذر يكون من العامل، فإنّه قال في روايةٍ مهنّا في الرجل تكون له الأرض فيها نخلٌ وشجرٌ، يدفعها إلى قومٍ يزرعون الأرض، ويقومون على الشجر على أن له النصف ولهم النصف، فلا بأس بذلك، قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، فأجازَ دفعَ الأرضِ ليزرعها من غيرِ ذكر البذر، فعلى هذا أيهما أخرج البذر، جاز، وروي نحو ذلك عن عمر رضي الله عنه، وهو قول أبي يوسف وطائفة من أهل الحديث.
قال: وهو أصح -إن شاءَ الله تعالى-.
وروي ذلك عن سعد، وابن مسعود، وابن عمر: أنَّ البذر من العامل، ولعلّهم أرادوا به: يجوز أن يكون من العامل، فيكون كقول عمر رضي الله عنه.
قال: ولا يكون قولًا ثالثًا.
قال: والدليل على ذلك قولُ ابن عمر: دفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبرَ نخلَ خيبر وأرضَها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 483).
شطرُ ثمرها، وفي لفظٍ:"أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها" رواه أبو داود، ورواه مسلم -أيضًا- (1)، وتقدم.
قال: المجد في "المنتقى": وظاهر هذا أن البذر منهم، وأنّ تسمية نصيب العامل تغني عن تسمية نصيب ربّ المال، ويكون الباقي له، انتهى (2).
قال شمس الدين: فجعل عملَها من أموالهم، وزرعَها عليهم، ولم يذكر شيئًا آخر، وظاهره: أن البذر من أهل خيبر.
قال: والأصل المعمول عليه في المزارعة قصةُ خيبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ البذر على المسلمين، فلو كان شرطًا، لما أخلّ بذكره، ولو فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لنقل، ولم يجز ترك نقله، ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعًا، فروى البخاري عنه: أنّه عامل الناس على أنّه إن جاء بالبذر من عنده، فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر، فلهم كذا، وتقدّم (3).
وظاهر هذا: أنّ ذلك اشتهر، فلم ينكر، فكان إجماعًا.
فإن قيل: هذا بمنزلة بيعيتن في بيعة، فكيف يفعله عمر؟
قلنا: يُحمل على أنّه قال ذلك ليخبرهم في أيّ العقدين شاؤوا، فمن اختار عقدًا، عقده معه معيّنًا، كما لو قال في البيع: إن شئتَ بعتُك بعشرةٍ صحاح، وإن شئتَ بأحدَ عشرَ مكسرة، فاختار أحدهما، فقد وقع البيعُ عليه معيّنًا. انتهى (4).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "المنتقى" للمجد ابن تيمية (2/ 311)، عقب حديث (2345).
(3)
وتقدم تخريجه.
(4)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 587 - 589).
وفي "مختصر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": المزارعة على الأرض بشطر ما يخرج منها جائز، سواء كان البذر من ربِّ الأرض، أو من العامل، هذا هو الصواب الذي دلت عليه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه زارعَ أهلَ خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمرٍ وزرعٍ على أن يعملوها من أموالهم.
قال: والمزارعة على الأرض البيضاء مذهبُ الثوري، وابن أبي ليلى، والإمام أحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والمحققون (1) من أصحاب الشافعي العلماء بالحديث، وبعض أصحاب مالك، وغيرهم.
قال: ونهيُه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة هو أنّهم كانوا يعملون ويشرطون للمالك بقعة معينة من الأرض، وهذا باطل بالاتفاق، انتهى (2).
الثاني: حكم المساقاة كالمزارعة في ذلك، فيصحّ على هذا القول أن يكون الغراس من مُساق ومُناصب (3).
قال الإمام المنقح علاء الدين في "تنقيحه": وعليه العمل (4).
قال الإمام شمس الدين في "شرح المقنع": ولو دفع إلى رجل أرضه يغرسها على أن الشجر بينهما، لم يجز، ويحتمل الجواز بناء على المزارعة، فإن المزارع يبذر في الأرض، فيكون بينه وبين صاحب الأرض، وهذا نظيره.
(1) كذا في الأصل "ب".
(2)
وانظر: "الفتاوي المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 453)، وما بعدها.
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 477).
(4)
انظر: "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع" لعلاء الدين المرداوي (ص: 218).
فأما إن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما، فذلك فاسدٌ، وجهًا واحدًا، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه يشترط اشتراكهما في الأصل، ففسد، كما لو دفع إليه الشجر والنخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما.
ويدل لصحة كونِ الغراس من العامل قولُ الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية المروذي: من قال لرجلٍ: اغرس في أرضي هذه شجرًا أو نخلًا، فما كان من غلّةٍ، فلكَ بعملك كذا وكذا، فأجازه، واحتجّ بحديث خيبر في الزرع والنخل، لكن يشترط أن يكون الغرس من ربِّ الأرض، كما يشترط في المزارعة كون البذر من ربِّ الأرض، فإن كان من العامل، خرجَ على الروايتين في المزارعة إذا شرط البذر من العامل (1)، وقد علمت الخلاف في ذلك.
الثالث: دلَّ الحديث على جواز كراء الأرض بالذهب والورق المعلومين، فلا يصح كون الأجرة بشيء غير معلوم المقدار عند العقد، لما دلَّ الحديث على عدم اغتفار جهالة الأجرة، ويستدل به أيضًا على جواز كراء الأرض بطعامٍ مضمون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن استأجر أرضًا بجزءٍ معلومٍ من زرعها، فظاهر المذهب صحتها، سواء سميِّت إجارة، أو مزارعة، فإن لم تزرع الأرض، وصححناها، ضمنت بالمسمى الصحيح (2).
قال في "الإقناع": وتصحُّ إجارةُ أرضٍ بنقدٍ وعُروضٍ، وبجزءٍ مُشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها.
(1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 560 - 561).
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/ 122 - 123).
قال: وتصحُّ إجارتُها بطعامٍ مَعلومٍ من جنسِ الخارجِ منها، ومن غير جِنسِه.
وفيه -أيضًا-: وتصحُّ -يعني: المساقاةَ- بلفظِ مُساقاة، ومُعاملةٍ، ومُفالحةٍ، وبكلِّ لفظٍ يؤدِّي معناها، وتصحُّ هي ومزارعةٌ بلفظِ إجارة (1). والله تعالى الموفق.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 475 - 476).