الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ سُبَيْعةَ الأَسْلَمِيَةِ: أَنَّها كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نَفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابلِ بْنُ بَعْكَكٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكَ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّيْنَ النِّكَاحَ، وَاللهِ! مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَني بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لي.
قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُها زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (3770)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا، و (5013 - 5014)، كتاب: الطلاق، باب:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]،، ومسلم (1484/ 56)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها، بوضع الحمل، واللفظ له، وأبو داود (2306)، كتاب: الطلاق، باب: في عدة الحامل، والنسائي (3518)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها. =
(عن سبيعة) -بضم السين المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية وعين مهملة، مصغرة- بنت الحارث، وفي رواية لابن إسحاق عند الإمام أحمد: سبيعة بنت أبي برزة، فإن كان محفوظًا، فهو أبو برزة آخر غير الصحابي المشهور، وهو إما كنية للحارث والد سبيعة، أو نسبت في الرواية المذكورة إلى جدٍّ لها (الأسلمية) أبوها الحارثُ من ولد أسلَم -بفتح اللام-، وهي صحابية جليلة، روي لها عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر حديثًا.
روى عنها: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عتبة بن مسعود.
قال ابن عبد البر: روى عنها حديثَ العدة فقهاءُ المدينة، وفقهاء الكوفة، والتابعون رضي الله عنها (1). (أنها)؛ أي: سبيعة الأسلمية (كانت تحت) زوجِها (سعدِ بنِ خولةَ) -بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو-، وقدّمنا بعض ترجمته في حديث سعد بن أبي وقّاص في "الوصايا"
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 290)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 210)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 63)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 280)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 108)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 58)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1332)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 471)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 102)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 180)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 85).
(1)
وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 287)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1859)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 138)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 612)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 193)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 690)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 453).
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لكن البائس سعد بن خولة"(وهو في) عداد (بني عامر بن لؤي) من أنفسِهم، وقيل: هو حليفٌ لهم، وقيل: هو مولى أبي رهم بن عبد العزى العامري، (وكان) سعدُ بن خولة رضي الله عنه من الصحابة الأول، (ممن شهد بدرًا)، ومن مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية، (فتوفي) رضي الله عنه (عنها)؛ أي: سبيعة (في حجة الوداع).
نقل ابن عبد البر الاتفاق على ذلك (1)، ونظر فيه في "الفتح" بأن محمد بن سعد ذكر أنه كان مات قبل الفتح (2)، وذكر الطبري أنه مات سنة سبع، والصحيح أنه مات بمكة في حجة الوداع (3)، (وهي) زوجته؛ أي: سبيعة (حامل، فلم تنشب)؛ أي: لم تلبث (أن وضعت حملها بعد وفاته)؛ أي: زوجها وحقيقته؛ أي: لم تتعلق بشيءٍ غيره، ولا اشتغلت بسواه، والمراد: قرب ولادتها بعد موت زوجها كما في رواية في "الصحيحين": بعد وفاة زوجها بليالٍ (4).
وفي حديث سبيعة عن الإمام أحمد: فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت (5).
وفي رواية: فولدت لأدنى من أربعة أشهر (6).
(1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 587).
(2)
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 408).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 472).
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5014)، ورواه مسلم (1485)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 432).
(6)
رواه النسائي (3517)، كتاب: الطلاق، باب: عدة المتوفى عنه زوجها، عن =
وفي رواية يحيى بن أبي كثير عند البخاري: فوضعت بعد موته بأربعين ليلة (1).
وفي بعض طرق البخاري -أيضًا-: فمكثت قريبًا من عشر ليال، ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم (2).
وفي رواية عند النسائي: أما وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين ليلة (3).
وفي رواية عند ابن أبي حاتم: أو خمس عشرة (4).
وفي رواية الأسود: فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يومًا، أو خمسة وعشرين يومًا، كذا عند الترمذيّ والنسائي (5).
والحاصل أنه ورد في تقدير المدة ما بين موت زوجها ووضعها روايات متعددة والجمع بينها متعذر، أقل ما ورد في ذلك خمسة عشر (6)، وأما رواية عشر، أو ثمان، فالمراد: ما بين وضعها واستفتائها النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر
= أبي سلمة رضي الله عنه.
(1)
رواه البخاري (4626)، كتاب: التفسير، باب:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، عن أبي سلمة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (5012)، كتاب: الطلاق، باب:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عن أبي سلمة رضي الله عنه.
(3)
رواه النسائي (3511)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، عن أبي سلمة رضي الله عنه.
(4)
كذا عزاه الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 473)، ولم أقف عليه فيما طبع من "تفسيره"، والله أعلم.
(5)
رواه النسائي (3508)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، والترمذي (1193)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع.
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 473).
ما قيل في المدة ما بين وفاة زوجها ووضعها بالصريح مدة شهرين، وبغيره دون أربعة أشهر، (فلما تَعَلَّتْ من نفاسها)؛ أي: طهرت منه، يقال: تَعَلَّتْ المرأة من نفاسها -بتشديد اللام-. إذا ارتفعت منه، وطهرت عن دمها كما في "جامع الأصول" لابن الأثير (1).
و"في كتاب" الخطابي: تعالت (2)، وهما بمعنى.
قال في "النهاية": ويجوز أن يكون من قولهم: تعلَّى الرجل من علّته: إذا برىء؛ أي: خرجت من نفاسها وسلمت (3)(تجملت) بالغسل والتنظيف ولباس ثياب الزينة (للخطاب) جمع خاطب، وهو الطالب من المرأة أو وليها أن يتزوجها، (فدخل عليها)؛ أي: سبيعة (أبو السنابل) -بسين مهملة فنون فألف فموحدة فلام- جمع سنبلة (بن بَعْكَك) -بموحدة مفتوحة فعين مهملة ساكنة فكافين، بوزن جعفر- بنِ الحارث بن عميلة بن السباق [بن ([رجل من بني](4) عبد الدار) كذا نسبه ابن إسحاق، وقيل: هو بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق، نقله ابن عبد البر عن الكلبي، وكان أبو السنابل بن بعكك من المؤلِّفة، وسكن الكوفة، وكان شاعرًا.
ونقل الترمذيّ عن البخاري: أنه قال: لا نعلم أن أبا السنابل عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قاله، لكن جزم ابن سعد أنه بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمنًا.
وقال: ابن منده في "الصحابة": عداده في أهل الكوفة.
وكذا قال: أبو نعيم أنه سكن الكوفة، ونظر فيه الحافظ ابن حجر بأن
(1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (8/ 111).
(2)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 290).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 293).
(4)
[رجل من بني]: سقطت من "ب".
خليفة قال: أقام بمكة حتى مات، وتبعه ابن عبد البر، ويؤيد كونَه عاش بعد النبي: قول ابن البرقي أن أبا السنابل تزوج سبيعة بعد ذلك، وأولدها سنابلَ بن أبي السنابل، ومقتضى ذلك أن يكون عاش أبو السنابل بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقع في رواية عبد ربه بن سعيد، عن أبي سلمة: أنها تزوجت الشاب، وكذا في رواية داود بن أبي عاصم: أنها تزوجت فتى من قومها (1).
تنبيه:
اختلف في اسم أبي السنابل، فقيل: عمرو، وقيل: حبة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة-، وقيل: -بالنون-، قال: ابن ماكولا: ولا يصح، وقيل: اسمه لبيد -بفتح اللام وكسر الموحدة-، وقيل: لبيد ربّه، وقيل: عامر، وقيل: أصرم، وقيل: عبد الله، وفي "الفتح" وقع في بعض الشروح وقيل: بغيض، وغلط قائله، قال: وسبب الغلط أن بعض الأئمة سئل عن اسمه، فقال: بَغيضٌ يسأل عن بغيض، فظن الشارح أنه اسمه، وليس كذلك؛ لأن في بقية الخبر اسمه لبيد ربّه، وجزم العسكري بأن اسمه كنيته (2)، فهو رجل من بني عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، وهو من مسلمة الفتح، ومات بمكة.
روى عنه الأسود بن يزيد النخعي، روى له الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه (3).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 472).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 449)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 387)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 89)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1684)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 152)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 522)، و"تهذيب الكمال" للمزي =
(فقال) أبو السنابل (لها)؛ أي: سبيعة: (مالي أراكِ متجملة؟).
وفي رواية: صحيحة أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه (1)، فقال:(لعلّك تُرَجِّين) -بضم المثناة فوق وبفتح الراء وتشديد الجيم- من الرجاء (النكاحَ) مفعول ترجين (والله! ما أنت بناكح)؛ أي: ما أنت بمتزوجة؛ أي: لا يحلّ لك ذلك.
وقد أفاد ابن بشكوال فيما حكاه عن محمّد بن وضاح: أن أبا السنابل خطب سبيعة هو وشاب، فآثرت الشاب على أبي السنابل، وأن اسم الشاب أبو البِشْر بن الحارث، وضبطه -بكسر الموحدة وسكون المعجمة- (2).
ووقع في رواية "الموطأ": فخطبها رجلان، أحدهما شاب، و [الآخر] كهل، فحطت إلى الشاب (3)، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه (4).
وفي رواية "الموطأ": فقال الكهل: لم تحلِّي، وكان أهلها غيبًا، فرجا أن يؤثروه بها (5) (حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر) ليال. وفي رواية: حتى تعتدي آخر الأجلين (6).
وفي رواية عند النسائي، قال: وضعت سبيعة حملها بعد وفاة زوجها
= (33/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 190)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 132).
(1)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5012).
(2)
انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 167).
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 589).
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5012).
(5)
تقدم تخريجه قريبًا.
(6)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5012).
بثلاثة وعشرين، أو خمسة وعشرين ليلة، فلما تعلّه، تَشَوَّفت للأزواج، فعيب ذلك عليها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث (1)، ومعنى تشوفت: رغبت ومالت للأزواج، (قالت سبيعة: فلما قال لي) أبو السنابل (ذلك) أي: لا يسوغ لها النكاح إلا بعد أربعة أشهر وعشر (جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت)، وظاهر هذا أنه مساء اليوم الذي قال لها أبو السنابل فيه
ما قال، ويؤيده قولها:(فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك)، فإنه يفيد التعقيب.
وفي رواية عند البخاري: فقال: والله! ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثتْ قريبًا من عشر ليال، ثمّ جاءت النبي صلى الله عليه وسلم (2)، ويمكن الجمع بينهما بأن يحمل قولها: حين أمسيت، على إرادة وقت توجيهها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك في اليوم الذي قال لها فيه أبو السنابل ما قال، (فأفتاني) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (بأني قد حللتُ) للأزواج (حين وضعتُ حملي، وأمرني) صلى الله عليه وسلم أمرَ إرشادٍ وبيانٍ (بالتزويج إن بدا لي) أن أتزوجَ، فلا حرج لانقضاء العدة بوضع الحمل.
قال في "الفتح": ويظهر من مجموع الطرق في قصة سبيعة: أن أبا السنابل رجع عن فتواه أولًا أما لا تحل حتى تمضي مدة عدة الوفاة؛ لأنه قد روى قصة سبيعة، وقد ردّ النبي صلى الله عليه وسلم ما أفتاها أبو السنابل من أنها لا تحل حتى يمضي لها أربعة أشهر وعشر ليال، ولم يرد عن أبي السنابل تصريح في حكمها لو انقضت المدة قبل الوضع، هل كان يقول بظاهر إطلاقه من
(1) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3508).
(2)
تقدم تخريجه برقم (5012).
انقضاء العدة، أو لا؟ لكن نقل غير واحد الإجماع على أما لا تنقضي حتى تضع.
وفي هذا دليل [على] أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أن المفتي إذ كان له ميل إلى الشيء، لا ينبغي له أن يفتي فيه، لئلا يحمله الميلُ إليه على ترجيح ما هو مرجوح، كما وقع لأبي السنابل، حيث أفتى سبيعة أما لا تحل بالوضع، لكونه كان خطبها، فمنعته، ورجا أما إذا قبلت ذلك منه، وانتظرت مضيَّ العدة، حضر أهلها، فرغبوها في زواجه دون غيره.
وفيه: ما كان في سبيعة من الشهامة والفطنة حتى ترددت فيما أفتاها به حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع: وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتي، أو حكمِ الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النص في تلك المسألة، ولعلّ ما وقع من أبي السنابل من ذلك هو السر في إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كذب في الفتوى المذكورة، كما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود (1)، على أن الخطأ قد يطلق عليه الكذب، وهو في كلام أهل الحجاز كثير، وحمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: إنما كذبه؛ لأنه كان عالمًا بالقصة، وأفتى بخلافه، حكاه ابن داود عن الشافعي في "شرح المختصر"، واستبعده في "الفتح".
وفيه: الرجوع في الوقائع إلى الأعلم، ومباشرة المرأة السؤال عمّا ينزل بها، ولو كان مما يستحيي النساء من مثله.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 447).
وفيه: جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها، ففي رواية غير ما مر: أن سبيعة تهيأت للنكاح، واختضبت، وفي رواية عند الإمام أحمد، فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت، وفي رواية: تطيبت وتَصنَّعت.
وفيه: أن الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل (1)، وهو المقصود من إيراد الحديث.
(قال) الإمام الجليل أبو بكر محمّد بن مسلم بن عبد الله (ابن شهاب) بنُ الحارث بنِ زهرة بنِ كلاب بنِ مرّة بنِ كعب بنِ لؤي الزهريُّ، أحد أئمة الفقهاء والمحدِّثين، تابعي جليل، سكن الشام، وسمع سهل بن سعد، وأنس بن مالك، وأبا الطفيل، وغيرهم، وذكر جماعة من حفاظ الحديث أن ابن شهاب سمع عشرة من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد روى عن ابن شهاب خلق كثير، ومناقبه مشهورة، مات في شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومئة، وقيل: خمس وعشرين، وهو ابن سبعين سنة، ودفن بقرية بأطراف الشام يقال لها: شَغْبَدا -بشين مفتوحة فغين ساكنة معجمتين وباء موحدة مفتوحة ثم دال مهملة-، ويقال لها -أيضًا-: شغب بدا، بإفصال لفظة: بدا عن شغب كما في "شرح الزهر" للبرماوي -رحمه الله تعالى (2) -. فمما زاده مسلم على البخاري: و (لا أرى بأسًا أن
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 474 - 475).
(2)
وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 220)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 349)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 360)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 105)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 419)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 326)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 108)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 395).
تتزوج) المرأةُ المتوفَّى عنها زوجُها وهي حامل (حين وضعت)؛ أي: وقت وضعها [يعني: بعد تمام وضعها، (1) لحملها، (وإن كانت في دمها) لم تطهر منه بعد (غير أنه)؛ أي: الزوج (لا يقربُها)؛ أي: لا يطؤها لأجل نفاسها (حتى تطهر) من دمها، وأخرجه أبو داود بالزيادة المذكورة (2).
وقد قال أئمة الفتوى في الأمصار: إن الحامل إذا مات عنها زوجها تحلُّ بوضع الحمل، وتنقضي عدة الوفاة (3).
قال الإمام ابن القيم في "الهدي": قال جمهور الصحابة ومَنْ بعدهم، والأئمةُ الأربعة: عدتها وضعُ الحمل، ولو كان الزوج على مغتسله، فوضعت، حلّت (4)، انتهى.
وخالف في ذلك علي، وابن عباس، وجماعة من الصحابة، فقالوا: تعتد بأبعدِ الأجلين، من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشر ليال.
قال في "الهدي": وهذا أحد القولين في مذهب مالك، اختاره سحنون.
قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب يقولان في عدة الحامل بأبعد الأجلين، وكان ابن مسعود يقول: من شاء باهَلْتُه أن سورة النساء القصرى نزلت بعدُ (5)، وحديث سبيعة يقضي بينهم،
(1)[يعني بعد تمام وضعها] ساقطة من "ب".
(2)
كما تقدم تخريجه برقم (2306) عنده.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 474).
(4)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 597).
(5)
رواه أبو داود (2307)، كتاب: الطلاق، باب: في عدة الحامل، والنسائي (3522)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، بلفظ: "من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشر.
إذا وضعت، فقد حلّت، وابنُ مسعود يتأوّل القرآن {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] هي المتوفَّى عنها زوجها، والمطلقة مثلُها إذا وضعت [حملها](1)، فقد حلّت، وانقضت عدتها، قال: ولا تنقضي عدتها إذا ولدت ولدًا وفي بطنها آخر حتى تلد الآخرَ، قال: ولا تنقضي عدة الحامل إذا أسقطت حتى يتبين خلقُه، فإذا بأن له يدٌ أو رِجْلٌ، عتقت به الأَمَة، وتنقضي به العدة.
قال: ولا تثبت في منزلها الذي أُصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشرًا إذا لم تكن حاملًا، والعدة من يوم يموت، أو يطلق، هذا كلام الإمام أحمد رضي الله عنه.
وقد تناظرَ في هذه المسألة ابنُ عباس وأبو هريرة، فقال: أبو هريرة: عِدَّتها وضعُ الحمل، وقال: ابن عباس: تعتدُّ أطولَ الأجلين، فحكّما أُمَّ سلمةَ، فحكمت لأبي هريرة، واحتجت بحديث سُبيعة (2).
وقد قيل: إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع (3)، ويقويه: أنّ المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة.
وفي البخاري، وأبي داود، والنسائي عن الإمام محمّد بن سيرين، قال: جلست إلى مجلس فيه عظم من الأنصار، وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه، فذكرت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث، فقال عبد الرحمن: لكن عمّه كان لا يقول ذلك، فقلت: إنّي لجريءٌ إن كذبتُ على رجل في جانب الكوفة -يعني:
(1)[حملها] ساقطة من "ب".
(2)
تقدم تخريجه من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه.
(3)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 596 - 597).
عبدَ الله بن عتبة-، ورفع صوته، ثم خرجتُ فلقيت مالكَ بنَ عامر، فقلت: كيف كان قول عبد الله بن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة؟! أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1)[الطلاق: 4].
وله في رواية أخرى: سورة النساء القصرى نزلت بعد البقرة (2).
وفي رواية أبي داود: من شاء لاعنته، لأُنزلت سورةُ النساء القصرى بعد الأربعة أشهر وعشر (3).
وفي "موطأ الإمام مالك": قال نافع: إن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة يتوفَّى عنها زوجها وهي حامل، فقال: إذا وضعت، فقد حلت، فأخبره رجل كان عنده: أن عمر قال: لو ولدت وزوجُها على السرير لم يُدفن بعدُ، حلّت (4).
قال الحافظ ابن حجر عن اختيار سحنون من المالكية بعدم انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها بالحمل: هو شذوذ مردود؛ لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع، والذي حمله على ما اختاره الحرصُ على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومُهما، فقوله -تعالى-:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، عامٌّ في كلّ مَنْ مات
(1) رواه البخاري (4258)، كتاب: التفسير، باب:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]، والنسائي (3520)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها.
(2)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(5717).
(3)
تقدم تخريجه برقم (2307) عنده.
(4)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 589).
عنها زوجها، يشمل الحامل وغيرها وقوله -تعالى-:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، عام -أيضًا-يشمل المطلقة والمتوفى عنها، فجمع من قال بعدم انقضاء العدة بوضع الحمل بين العمومين بقَصْر الثانية على المطلقة، بدليل ذكر عدد الطلقات، كالآيسة والصغيرة قبلها، ثم لم يهملوا ما تناولته الآية الثانية من العموم، لكن قصروه على من مضت عليها
المدة، ولم تضع، فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقربَ إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حق بعض من شمله العموم.
وقد استحسن هذا النظر القرطبيُّ، قال: لأن الجمعَ أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، لكن حديث سبيعة نص بأنها تحل بوضع الحمل، فكان فيه بيان للمراد بقوله -تعالى-:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، أنه في حق من لم تضع، وإلى ذلك أشار ابن مسعود بقوله: إن آية الطلاق نزلت بعد آية البقرة.
قال في "الفتح" وقد فهم بعضهم منه أنه يرى نسخ الأولى بالآخرة، وليس ذلك مراده، وإنما يعني: أما مخصِّصة لها، فإنها أخرجَتْ منها بعضَ متناولاتها (1).
(1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 280 - 281)، وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (9/ 474).
قلت: وقوله: "وقد فهم بعضهم منه أنه يرى نسخ الأولى بالآخرة. . إلى قوله: "بعض متناولاتها" هو من تتمة كلام القرطبي في "المفهم"، وليس من كلام الحافظ ابن حجر، فقد قال في "المفهم": "وظاهرة كلامه -أي: ابن مسعود- أنها ناسخة لها، وليس مراده -والله أعلم- وإنما يعني: أما مخصصة لها، فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها". وقد نقله الحافظ -كما ترى بمعناه، وعليه: لا يصلح تعقيب الشارح رحمه الله في ظنه أن الكلام لابن حجر أولًا، وفي =
قلت: وكأنه أراد الإمام ابن القيم؛ لأنه قال في "الهدي" في جواب ابن مسعود رضي الله عنه من قوله: أشهد لَنزلت سورةُ النساء القصرى بعد الطولى إلى آخره.
قال الإمام ابن القيم: وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير، فإن ظاهره: أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة، لتأخرها عنها، فكانت ناسخة لها، قال: ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعمُّ منه عند المتأخرين، فإنهم يريدون به ثلاثة معانٍ: أحدها: رفع الحكم الثابت بخطاب، الثاني: رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص وإما بتقييد، وهو أعم مما قبله، الثالث: بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج، وهذا أعم من المعنيين الأولين، فإن ابن مسعود رضي الله عنه أشار بتأخر نزول آية الطلاق إلى آية الاعتداد بوضع الحمل بأنها ناسخة لآية البقرة إن كان عمومها مرادًا، أو مخصِّصَةً إن لم يكن عمومُها مرادًا ومُبيِّنَةً للمراد منها، ومقيدة لإطلاقها، وعلى التقديرات الثلاث، فيتعين تقديمُها على عموم تلك وإطلاقها، قال: وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه، ورسوخه في العلم (1)، انتهى.
فإن كان مراد الحافظِ ابنِ حجر ابنَ القيم، فلا يخفى ما في كلامه من المؤاخذة؛ لأن ابن القيم فصّل ذلك أتم تفصيل، فقدس الله روحه ما أجزل كلامه!
تنبيهان:
الأول: دل عموم حديث سبيعة مع قوله -تعالى-: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
= إرادة ابن القيم في الكلام ثانيا، وفي فهم كلام ابن القيم ثالثًا، فإنه موافق لما قاله القرطبي، والعصمة لله وحده.
(1)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 598 - 599).
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] على أن العدة تنقضي بوضع جميع الحمل على أي صفة، حيًا كان أو ميتًا، تام الخلقة أو ناقصها، نفخ فيه الروح أو لم ينفخ، أَمَّا مِنْ عموم الآية، فظاهر، وأما من الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم أفتى سبيعة بانقضاء عدتها بوضعها، ولم يستفصل، وتركُ الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال (1)، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنها حلّت حين وضعت"، وفي رواية:"حللتِ حين وضعتِ"(2)، وعند الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب: أن امرأته أم الطفيل قالت لعمر: قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبيعة أن تنكحَ إذا وضعت (3).
ومعتمد المذهب: انقضاءُ عدة ذوات الحمل بوضعه، سواء كن حرائر أو إماءً، مسلمات أو كافرات، في فرقة حياة أو وفاة.
ولابد من وضع جميع الحمل، ولو لم تطهر وتغتسل من نفاسها، خلافًا للشعبي، والحسن البصري، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، حيث قالوا: لا تنكح حتى تطهر (4)، نعم، يحرم وطؤها في الفرج حتى تطهر، فلو ظهر بعض الولد، فهي عدة حتى ينفصل باقيه إن كان واحدًا، وإن كان أكثر، فحتى ينفصل باقي الأخير، والحمل الذي تنقضي به العدة ما تصير به الأمة أم ولد، وهو ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، كرأسٍ ورِجلٍ، وأما إن وضعت مضغة لم يتبين فيها شيء من ذلك، فذكر ثقاتٌ من النساء أنه مبدأ خلق آدمي، لم تنقض به العدة، وكذا لو وضعت نطفة أو دمًا أو علقة،
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 60).
(2)
كما تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 375).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 475).
نعم لو وضعت مضغة لم يتبين فيها الخلق، فشهدت ثقاتٌ من القوابل أن فيها صورة خفية بانَ بها أنها خلقة آدمي، انقضت بها العدة (1).
ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا.
وعند الإمام مالك، والشّافعيّ في أحد قوليه: تنقضي عدتها بالوضع على أي صفة كان من مضغة أو علقة، سواء استبان خلق الآدمي، أو لا، لكونه صلى الله عليه وسلم رتّب الحل على الوضع من غير تفصيل (2).
قال ابن دقيق العيد: هذا ها هنا ضعيف؛ لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع المضغة والعلقة نادر، وحمل الجواب على الغالب ظاهر، وإنما تقوى قاعدة ترك الاستفصال حيث لا يترجح الاحتمالات بعضُها على بعض، ويختَلَفُ الحكم باختلافها (3).
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ولهذا نقل عن الشافعي قوله بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس فيها صورة بيّنة ولا خفية (4).
قلت: معتمد مذهب الشافعية: انقضاءُ العدة بوضع المضغة بشرط قول القائل: إنها مبدأ خلق إنسان، دون وضع العلقة، والله الموفق.
الثاني: معتمد المذهب: لزومُ عدة الوفاة في المنزل الذي وجبت فيه، وهو الذي مات زوجها فيه وهي ساكنة فيه، وسواء كان لزوجها، أو بإجارة، أو عارية حيث تطوَّع الورثة بإسكانها فيه، أو السلطان، أو أجنبي، وإن انتقلت إلى غيره، لزم العود إليه، إلا أن تدعو الضرورة إلى خروجها
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 6 - 7).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 475).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 60).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 475).
منه، بأن يحولها مالك، أو تخشى على نفسها من هدم أو غرق أو عدو، أو غير ذلك، كخروجها لحق، أو لا تجد ما تكتري، أو لا تجد إلا من مالها (1).
وفي "المغني"، وغيره: أو يطلب منها فوق أجرته، فتسقط السكنى، وتسكن حيث شاءت (2).
ولا سكنى لها ولا نفقةَ في مال الميِّت، ولا على الورثة إذا لم تكن حاملًا، ولهم إخراجها لأذاها، ولا تخرج ليلًا -ولو لحاجة-، بل لضرورة، ولها الخروج نهارًا لحوائجها فقط، ولو وجدت من يقضيها، وليس لها المبيت في غير بيتها، فإن تركت الاحداد في المنزل، أو لم تحد، عصت، وتمت العدة بمضيّ الزمان، والأمة كالحرة في الإحداد والاعتداد في منزلها، إلا أن تكون سكناها في العدة كسكناها في حياة زوجها، للسيد إمساكُها نهارًا، وإرسالُها ليلًا، فإن أرسلها ليلًا ونهارًا، اعتدّت زمانها كله في المنزل، والبدوية كالحضرية فإن انتقلت الحلة، انتقلت معهم، وإن انتقل غير أهل المرأة، لزمها المقام مع أهلها، وإن انتقل أهلها، انتقلت
معهم، إلا أن يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم، فتخير بين الإقامة والرحيل (3).
وقال أبو حنيفة فيمن توفي عنها زوجها وهي في الحج: تلزمها الإقامة على كل حال إن كانت في بلد، أو ما يقاربها.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 18 - 19).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 128).
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 19 - 20).
وقال الثلاثة: إن خافت فوات الحج إن جلست لقضاء العدة، جاز لها المضي فيه (1).
وقال أبو حنيفة في البائن: لايجوز لها أن تخرج من بيتها لقضاء حوائجها، ولو نهارًا
وقال مالك، وأحمد: يجوز لها ذلك.
وعن الشّافعيّ قولان (2).
والقول بلزوم عدة الوفاة في المنزل الذي توفي زوجها وهي فيه قولُ الأئمة الأربعة، وأصحابهم، والأوزاعي، وأبي عبيد وإسحاق.
قال ابن عبد البر: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، ومصر (3)، وحجتهم حديث الفريعة بنتِ مالك أختِ أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أَعْبُد له أَبَقُوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم، لحقهم، فقتلوه، فسألته صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، وقالت: إنه لم يتركني في مسكنه بملكه، ولا نفقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم"، فخرجتُ، قالت: حتى إذا كنتُ في الحجرة، أو في المسجد، دعاني، أو أمر بي فدعيت له، فقال:"كيف قلت؟ "، فرددت عليه القصة التي ذكرتُ من شأن زوجي، قالت: فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان، أرسل إليَّ، فسألني عن ذلك فأخبرته، فقضى به، واتبعه، رواه
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 174).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 31).
الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح (1)، وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث مشهور معروف (2).
قال الإمام ابن القيم في "الهدي": قد تلقاه عثمان بن عفان رضي الله عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول، ولم يعلم أن أحدًا منهم طعن فيه، وقد أدخله الإمام مالك في "الموطأ"(3)، وبنى عليه مذهبه، مع تحريه وتشدده في الرواية (4).
وقالت الظاهرية بعدم وجوب لزومها مسكنًا معينًا، لأنه سبحانه وتعالى إنما أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يأمرها بمكان معين، وهذا الذي احتج به ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قوله -تعالى-:{غَيْرَ إِخْرَاجِ} (5)[البقرة: 240].
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 370)، وأبو داود (2300)، كتاب: الطلاق، باب: في المتوفى عنها تنتقل، والنسائي في "السنن الكبرى"(11044)، والترمذي (1204)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، وابن ماجه (2031)، كتاب: الطلاق، باب: أين تعتد المتوفى عنها زوجها.
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 214).
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 591).
(4)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 687).
(5)
رواه البخاري (4257)، كتاب: التفسير، باب:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا} .
قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقوله -تعالى-:{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} [البقرة: 240].
قال الجمهور: نحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة، ولكن السنّة تفصل بين المتنازعين. قال ابن عبد البر: أما السنّة، فثابتة بحمد الله -تعالى-، وأما الإجماع، فمستغنى عنه مع السنّة؛ لأن الخلاف إذا نزل في مسألة، كانت الحجة في قول من وافقته السنّة (1).
فإن قيل: فهل ملازمة المنزل حقٌّ للزوجة أو حقٌّ عليها؟ فالجواب: أنه حقٌّ عليها إذا تركه لها الورثة، [ولم يكن عليها فيه ضرر، وكان المسكن لها، فلو حولها الورثة، أو طلبوا منها الأجرة](2)، لم يلزمها السكن، وجاز لها التحول؛ لأنها غير ملزومة ببذل أجر المسكن، وإنما هي ملزومة بفعل السكنى، لا تحصيل السكن، وإذا تعذرت السكنى، سقطت، هذا قول أصحاب أحمد، والشّافعيّ، كما في "الهدي"(3).
فإن قيل: هل الإسكان حقٌّ على الورثة، فتقدَّم الزوجةُ على الغرماء، وعلى الميراث، أم لا حق لها في التركة سوى الميراث؟ فأجاب في "الهدي": بأن هذا الموضع مما اختلف فيه، فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلًا، فلا سكنى لها في التركة، ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بُذل لها -كما تقدم-، وإن كانت حاملًا، ففيه روايتان، إحداهما: أن الحكم كذلك،
(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 31).
(2)
[ولم يكن عليها فيه ضرر وكان المسكن لها فلو حولها الوارث أو طلبوا منها الأجرة] ساقطة من "ب".
(3)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 687 - 688).
والثانية: أن لها السكنى حقٌّ ثابت في المال تقدَّم به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال.
وعن الإمام أحمد رواية ثالثة: أن للمتوفى عنها السكنى بكل حال، حاملًا كانت أو حائلًا، فصار في مذهبه ثلاث روايات: وجوبُها للحامل والحائل، وإسقاطُها في حقّهما، ووجوبُها للحامل دون الحائل، هذا محصل مذهب الإمام أحمد في سكنى المتوفَّى عنها.
وأما مذهب مالك، فإيجاب السكنى لها حاملًا كانت أو حائلًا، وإيجاب السكنى عليها مدة العدة، فهي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت، أو كان قد أدى كراءه، فإن لم يكن أدى كراءه، ففي "التهذيب": لا سكنى لها في مال الميت، وإن كان معسرًا وللشافعى في سكنى المتوفى عنها قولان:
أحدهما: لها السكنى حاملًا كانت أو حائلًا.
والثاني: لا سكنى لها، حاملًا كانت أو حائلًا، وعنده: يجب عليها ملازمتها للمسكن في العدة، حاملًا كانت أو متوفّى عنها، إلا أن ملازمة البائن للمنزل عنده آكد، فإنه يجوز للمتوفى عنها الخروجُ نهارًا لقضاء حوائجها، ولا يجوز ذلك للبائن في أحد قوليه، وهو القديم، ولا يوجبه، بل يستحبه.
وأما الإمام أحمد، فعنده ملازمةُ المتوفى عنها للمنزل آكدُ من الرجعية.
وأما أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروجُ من بيتها ليلًا ولا نهارًا، وأما المتوفى عنها، فتخرج نهارًا وبعضَ الليل، ولكن لا تبيت إلا في منزلها، قالوا: لأن المطلقة نفقتُها في مال زوجها، فلا يجوز لها الخروج كالزوجة، بخلاف المتوفَّى عنها، فإنها
لا نفقة لها، فلابد أن تخرج في النهار لإصلاح حالها.
قالوا: وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة، فإن كان نصيبها من دار الميِّت لا يكفيها، وأخرجها الورثة من نصيبهم، انتقلت؛ لأن هذا عذر، والكون في بيتها عبادة، والعبادة تسقط بالعذر، وظاهر كلامهم أن أجرة السكن عليها؛ لأن المتوفى عنها عندهم لا سكنى لها، حاملًا كانت أو حائلًا، وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذي تُوفي زوجها فيه ليلًا لا نهارًا، فإن بذله لها الورثة، وإلا كانت الأجرة عليها، فهذا تحرير مذاهب الأئمة في هذه المسألة كما في "الهدي"(1)، وغيره، والله الموفق.
(1) المرجع السابق، (5/ 688 - 690).