الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ"، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللهِ! لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكتَافِكُمْ (1).
* * *
(عن أبي هريرةَ) عبد الرحمنِ بنِ صخر (رضي الله عنه: أنَّ
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2331)، كتاب: المظالم، باب: لا يمنع جاره أن يغرز خشبه في جداره، ومسلم (1609)، كتاب: المساقاة، باب: غرز الخشب في جدار الجار، وأبو داود (3634)، كتاب: الأقضية، باب: من القضاء، والترمذي (1353)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الرجل يضع على حائط جاره خشبًا، وابن ماجة (2335)، كتاب: الأحكام، باب: الرجل يضع خشبه على جدار جاره.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 180)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 192)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 105)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 317)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 530)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 47)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 224)، و"العمدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1213)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 110)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 10)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 266)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 60)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 385).
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعنَّ) نهي مؤكد بالنون الثقيلة. وفي لفظٍ: "لا يمنعْ" -بالجزم- على أنَّ كلمة "لا" ناهية، وفي رواية: بالرفع على أنَّ "لا" نافية خبرٌ بمعنى النّهي (1)(جارٌ) -بالرفع- فاعلُ يمنع (جارَه) بالنصب مفعولٌ (أن يغرز)؛ أي: بأن يغرز، وكلمة (أن) مصدرية؛ أي: يغرز (خَشَبه) -بفتح الخاء والشين المعجمتين- جمعُ خشبة، ويجمع أيضًا على
خُشْب -بضم الخاء وسكون الشين-، و-بضمتين-، وخشبان (2)، وقد روي في الحديث بالإفراد، وأنكر ذلك الحافظُ عبد الغني بن سعيد، فقال: الناسُ كلّهم يقولونه بالجمع، إلّا الطحاوي (3) (في جداره)؛ أي: حائطه، وفي قول أبي هريرة رضي الله عنه بعد إيراده للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، يُشعر بوجوب ذلك (4)؛ فإن الراوي، وهو الأعرجُ قال:(ثمّ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: مالي أراكم عنها)؛ أي: عن هذه المقالة، أو عن هذه السنّة، وفي رواية أبي داود عن ابن عُيينة، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا
استأذنَ أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره، فلا يمنعه"، فنكسوا، فقال أبو هريرة: مالي أراكم قد أعرضتم (5)؟!
وفي رواية الإمام أحمد: فلما حدّثهم أبو هريرة بذلك، طأطؤوا رؤوسهم (6)(معرضين) غير عاملين بمضمونها، ولا ممتثلين لها، (واللهِ
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 110).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 102)، (مادة: خشب).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 47).
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 225).
(5)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3634).
(6)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 240).
لأرمينَّ بها)، وفي رواية:"لأرمينّها"(1)، وفي رواية أبي داود: لألقينّها (2)(بين أكتافكم).
قال ابنُ عبد البَر: رويناه في "الموطأ" بالتاء المثناة، وبالنون، يعني: بالوجهين (3)، فأكتافكم جمع كتف -بالتاء-، وبأكنافكم -بالنون- جمع كَنَف، وهو الجانب (4)
قال الخطابي: معناه: إن لم تقبلوا هذا الحكم، وتعملوا به راضين، لأجعلنّها؛ أي: الخشبة على رقابكم كارهين، وأراد بذلك المبالغة، ووقع ذلك من أبي هريرة حين كان يلي أمر المدينة لمروان، ووقع في رواية عند ابن عبد البر من وجه آخر: لأرمينّ بها بين أعينكم وإن كرهتم (5)، ولا يخفى ما في هذا من مزيد التشديد المقتضي بأن ذلك حقٌّ على الجارِ للجار من غرز خشبه في الجدار، لكن بشروطٍ معلومةٍ، واعتبارات مفهومة.
تنبيه:
اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قومٌ: معناه: الندب إلى بِرِّ الجار، وليس على الوجوب، وبه قال أبو حنيفة، ومالك.
وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال: ليس يقضى على رجلٍ أن يغرز
(1) رواه ابن الجارود في "المنتقى من الأحكام"(1020)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 68).
(2)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3634).
(3)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(10/ 221): اختلفوا علينا في أكتافكم وأكنافكم، والصواب فيه -إن شاء الله-، وهو الأكثر: التاء.
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 111).
(5)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(10/ 229)، وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (5/ 111).
خشبه في جدار جاره، وإنما نرى أنَّ ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوصاة بالجار (1)، قال: وأكثر علماءِ السلف أن ذلك على الندب، وقال قوم: هو واجب إذا لم يكن في ذلك مضرة على صاحب الجدار، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال الشافعي في "القديم"، وأبو ثور، وداود، وجماعة من أصحاب الحديث، وهو قول عمر بن الخطاب، فقد روى
الشافعي عن مالك بسند صحيح: أن الضحاك سأل محمدَ بنَ مسلمةَ أن يسوق خليجًا له، فيمر به في أرض محمّد بن مسلمة، فامتنع، فكلمه عمر رضي الله عنه في ذلك، فأبى، فقال: والله! ليمرنّ به ولو على بطنك (2)، فحمل عمر الأمر على ظاهره، وعدَّاه إلى كل ما يحتاج الجار الانتفاع به من جداره وأرضه (3).
وقال الحافظ في "الفتح": قد قوى الشافعي في "القديم" القول بالوجوب بأنَّ عمر رضي الله عنه قضى به، ولم يخالفه أحدٌ من أهل عصره، فكان اتفاقًا منهم على ذلك (4)، واعترضه العيني بأن ما ذكره مجردُ دعوى تحتاج إلى إقامة دليل (5).
قلتُ: ولا يخفى على منصف أن الدّليل على مثبت الخلاف بين الصحابة الكرام، إذ النفْي مصحوب بالأصل، والله أعلم.
(1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(10/ 222).
(2)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 224)، وفي "الأم"(7/ 230 - 231) من طريق الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 746).
(3)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 10 - 11).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 111).
(5)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 11).
قال علماؤنا ومن وافقهم: وليس للجار وضع خشبه على حائط جاره،
أو المشترك إلّا عند الضرورة (1).
وفي "المغني": إلا للحاجة، نص عليه (2).
قال في "الإقناع": بأن لا يمكنه التسقيف إلّا به، فيجوز، ولو ليتيم ومجنون، ما لم يتضرر الحائط، وليس له منعه منه إذن، فإن أبى، جبره الحاكم، وإن صالحه عنه بشيء، جاز، وكذا حكمُ جدار مسجد.
ومن ملك وضع خشبه على حائط، فزال بسقوطه، أو قلعه، أو سقوط الحائط، فله إعادته بشرط ألا يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر.
وإن قلنا: له وضع خشبه على جدار جاره، لم يملك إجارته، ولا إعارته، ولا بيعه، ولا المصالحة عنه للمالك، ولا لغيره؛ لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته، ولو أراد صاحب الحائط إعارته، أو إجارته على وجهٍ يمنع هذا المتستحق من وضع خشبه، لم يملك ذلك، وكذا لو أراد هدم الحائط لغير حاجة.
ولو أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه، أو وضع سترة أو خشبة عليه في الموضع الذي لا يستحق وضعه، جاز، وصارت عارية لازمة، وإن أذن له في ذلك بأجرة، جاز، سواء كانت إجارة، أو صلحًا على وضعه على التّأبيد، ومتى زال، فله إعادته، لكن لا بد من معرفة البناء، والعرض والطول، والسُّمك، والآلات من الطين واللَّبِن وما أشبهَ ذلك (3)، كما هو مفصل في فروع الفقه، والله الموفق.
(1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 262).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 324).
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 381 - 382).