الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ لَهُ أُمِّي -عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفَعَلْتَ هَذَا بوَلَدِكَ كلِّهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ"، فَرَجَع أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ (1).
وَفِي لَفْظٍ قَالَ: "فَلَا تُشْهِدْنِي إذَنْ، فَإنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ"(2). وَفِي لَفْظٍ: "فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"(3).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2447)، كتاب: الهبة، باب: الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623/ 13)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، واللفظ له.
(2)
رواه البخاري (2507)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (1623/ 14)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، واللفظ له، والنسائي (3681 - 3682)، كتاب: النحل، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل.
(3)
رواه مسلم (1623/ 17)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، وأبو داود (3542)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، وابن ماجة (2375)، كتاب: الهبات، باب: الرجل ينحل ولده. =
(عن) أبي عبدِ الله (النعمانِ بنِ بَشيرٍ) -بفتح الموحَّدة وكسر الشين المعجمة- بنِ سعدِ بنِ ثعلبةَ، الخزرجيِّ، الأنصاريِّ، وهو أولُ مولود ولد للأنصار من المسلمين بعدَ الهجرة، وهو وأبوه صحابيان رضي الله عنهما، وأمه عَمرة بنتُ رواحة.
قيل: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، كان عمر النعمان ثمان سنين؛ لأن مولده في الثانية من الهجرة على رأس أربعة عشر شهرًا منها، كما قاله النووي، ثم قال: وقيل في مولده غير ذلك؛ أي: من كونه في الرابعة، أو نحو ذلك، وبعض أهل الحديث يصحح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صرّح بذلك في حديثين أو ثلاثة.
قتل في الشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين، وكان قد استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها يزيد بن معاوية.
وقال ابن الأثير: إنه حين كان واليًا بحمص بعدَ الكوفة، دعا لعبد الله بن الزبير، فطلبه أهل حمص، فقتلوه.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة وأربعة عشر حديثًا، اتفقا على خمسة،
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 171)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 224)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 348)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 584)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 65)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 215)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1201)، و "فتح الباري" لابن حجر (5/ 211)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 143)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 344)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 89)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 109).
وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة، وكان جوادًا شاعرًا (1).
(رضي الله عنهما قال) النعمانُ: (تصدق عليَّ أبي) بشيرُ بنُ سعدٍ المذكور، شهد العقبة الثانية، وبدرًا، وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: إنه أول من بايع الصدّيق الأعظم بالخلافة من الأنصار، واستشهد مع خالد بن الوليد يوم عين التمر بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وهو الذي ثبت في "الصحيح" أنه قال: يا رسول الله! أُمرنا أن نصلي عليك؟. . الحديث (2).
(ببعض ماله) متعلق بتصدق، وكان ذلك غلامًا كما جاء مفسرًا في "الصحيحين" وغيرهما. ففي بعض الألفاظ: أن بشيرًا قال: إنِّي نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي (3)، وفي بعضها: أعطاه أبوه غلامًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هذا الغلام؟ "، قال: أعطانيه أبي. . . الحديث (4)، وفي بعض الألفاظ: قالت امرأةُ بشيرٍ: انحلْ ابني غلامك، وأشهدْ لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (5)، (فقالت له)؛ أي: لأبي؛ يعني: بشير بن سعد (أُمي) فاعل قالت (عمرة بنت رواحة)
(1) تقدمت ترجمة النعمان بن بشير رضي الله عنه في باب: الصفوف من هذا الشرح، وقد أعاد الشارح رحمه الله ذكرها ثانية، ولعله سهو منه رحمه الله.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري (2446)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: الهبة للولد، ومسلم (1623/ 9)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(4)
رواه مسلم (1623/ 12)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(5)
رواه مسلم (1624)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
-بفتح الراء- الأنصارية، لها صحبة، زوجة بشير، وهي أخت عبدِ الله بنِ رواحة (1):(لا أرضى) بذلك.
وفي مسلم من رواية الشعبي: حدثني النعمان بن بشير: أنّ أمّه ابنةَ رواحةَ سألت أباه بعضَ الموهوبة لي -بمعنى الهبة، مصدر ميمي- من ماله، فالتوى بها سنة -أي: مطلَها-، ثم بدا له (2)، وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: بعدَ حولين (3)، والتوفيق بين الروايتين بأن يقال: إن المدة كانت سنة وشيئًا، فجبر الكسر تارة، وأُلغي أخرى (4)(حتى تُشهد) عليه؛ أي على الموهوب له، أو المتصدَّق به عليه (رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قطعًا للنزاع، وحسمًا لمادة الخصام، (فانطلق أبي) بشيرٌ رضي الله عنه (إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية: أنه قال: إن أباه أتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم (5).
وفي رواية عند مسلم: فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذٍ غلام (6).
وفي أخرى: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).
والتوفيق بينهما بأن يقال: إنه أخذ بيده، فمشى به بعض الطريق،
(1) انظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 361)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 324)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 198)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 31).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1623/ 14).
(3)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(5104)، إلا أنه قال:"بعد حول أو حولين".
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 212).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2446)، وعند مسلم برقم (1623/ 9).
(6)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1623/ 14).
(7)
رواه مسلم (1623/ 17)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
وحمله في بعضها، لصغر سنه (1)، (ليشهده) صلى الله عليه وسلم (على صدقتي) التي تصدّق بها عليّ، وهو الغلام، (فقال له) أي: لبشير والدِ النعمان (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أفعلتَ هذا) استفهامٌ منه صلى الله عليه وسلم (بولدك)؛ أي: تصدّقتَ عليهم ووهبتهم (كلِّهم) مثلَ الذي فعلته بالنعمان؟ (قال) بشيرٌ: (لا)، ما فعلت بهم كلهم ذلك، ولا بواحد منهم سوى هذا.
وقد روى ابنُ حبان، والطبرانيُّ من حديث الشعبي: أنّ النعمان خطب بالكوفة، فقال: إنّ والدي بشيرَ بنَ سعد أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ عمرةَ بنتَ رواحة نُفِست بغلام، وإني سمَّيته النعمان، وإنّها أبت أن تربيه حتى جعلتُ له حديقة من أفضل مالٍ هو لي، وإنها قالت: أشهدْ على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أشهدُ على جَوْر"(2).
ووفق ابنُ حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين:
إحداهما: عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة.
والأخرى: بعد كبره، وكانت العطية عبدًا (3).
واستبعد بعضهم نسيان بشير بن سعد -مع جلالته- الحكمَ في المسألة حتى يعود يستشهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم على العطية (4).
وأجاب غيره: بأنّ الإنسان يغلب عليه النسيان، حتى قيل: إنّه مأخوذ من النسيان (5).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 212).
(2)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(5107).
(3)
انظر: "صحيح ابن حبان"(11/ 507).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 212).
(5)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 146).
(قال) الرسول المرشد صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله)؛ أي: عذابه وغضبه ومقته المرتب على عدم العدل بين الأولاد، (واعدلوا في أولادكم) بالتسوية بينهم، وعدم اختصاص بعضِهم دون بعضهم بشيء، اللهم إلا أن يكون سبب أوجب لذلك.
قال النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (فرجع أبي، فردَّ تلك الصدقةَ) التي كان تصدّقها عليّ.
وفي لفظٍ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارجعه"(1)، وفي آخر:"فاردده"(2)، وفي لفظٍ في البخاري:"فرجع فردّ عطيته"(3)، (وفي لفظٍ: قال) -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تُشهدني إذًا)؛ أي: حيث لم تعدل بين كل أولادك في العطيّة؛ لأنّ ذلك يكون جورًا، (فإني لا أشهد على جور)، وفي لفظٍ آخر:"ألك بنون سواه؟ "، قال: نعم، قال:"أكلهم وهبتَ له مثل هذا؟ "، قال: لا، قال:"فلا تشهدني إِذًا فإني لا أشهد على جور"(4)، وفي آخر:"فلا تشهدني على جور"(5)، (وفي لفظ) آخر:(فأشهد على هذا غيري)، ثم قال:"أيسرك أن يكونوا مواليك في البر سواء؟ "، قال: بلى، قال:"فلا إِذًا"(6)، وفي
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2446)، وعند مسلم برقم (1623/ 9).
(2)
رواه مسلم (1623/ 10)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2447).
(4)
رواه مسلم (1623/ 14)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(5)
رواه مسلم (1623/ 16)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(6)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1623/ 17).
لفظٍ: "أكلَّ ولدك أعطيته مثل هذا؟ "، قال: لا، قال:"أليس تريد منهم البِرَّ مثلَ ما تريد منه؟ "، قال: بلى، قال:"فإني لا أشهد"(1)، وفي آخر قال:"فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق"(2)، وكل هذه الألفاظ في "الصحيح"، والجور: هو الظلم والحيف والميل عن الحق.
قال علماؤنا -رحمهم الله تعالى-: يجب على الأب والأم وغيرهما التعديلُ بين حق من يرث بقرابة من ولد وغيره في عطيتهم، لا في شيء تافه بقدر إرثهم منه إلا في نفقة وكسوة، فتجب الكفاية (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يجب على المسلم التسوية بين أولاده الذمة (4)، انتهى.
قال في "الإقناع": وله التخصيص بإذن الباقي، فإن خصّ بعضهم، أو فضله بلا إذن، أثم، وعليه الرجوع، أو أعطى الآخر، ولو في مرض الموت حتى يستووا، كما لو زوّج أحدَ بنيه في صحته، وأدّى عنه الصداقَ، ثم مرض الأبُ، فإنّه يعطي ابنَه الآخرَ كما أعطى الأول، ولا يحسب من الثلث؛ لأنه تدارك للوجوب أشبه قضاء الدين. وإن مات قبل التسوية، ثبت معطى، ما لم تكن العطيّة في مرض الموت.
والتسوية هنا: القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، والرجوع المذكور يختص به الأب دون الأم وغيرها.
(1) رواه مسلم (1623/ 18)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1624).
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 108).
(4)
انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 516)، وقوله:"أولاده الذمة" أي: الذميين.
قال: وتحرم الشهادة على التخصيص والتفضيل تحملًا وأداءً، ولو بعد موت المخصص والمفضل إن علم، وكذا كل عقد مختلف فيه فاسد عند الشاهد.
وقيل: إن أعطاه لمعنى فيه، من حاجة، أو زمانة، أو عمًى، أو كثرة عائلة، أو لاشتغاله بالعلم ونحوه، أو منع بعض ولده، لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه، جاز التخصيص، اختاره الإمام الموفق وغيره (1)، انتهى.
وفي كتاب الإمام المحقق ابن القيّم "بدائع الفوائد": عطية الأولاد المشروع أن تكون على قدر مواريثهم؛ لأن الله تعالى منع ما يؤدي إلى قطيعة الرحم، والتسويةُ بين الذكر والأنثى محالة، لما وضعه الشرع من التفضيل، فيفضي ذلك إلى العداوة، ولأن الشرع أعلمنا بمصالحنا، فلو لم يكن الأصلح التفضيل بين الذكر والأنثى، لما شرعه، ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى، ولأن الله جعل الأنثى على النصف من الذكر في الشهادات والميراث والدِّيات وفي العقيقة بالسنّة، ولأن الله جعل الرجال قوّامين على النِّساء، فإذا علم الذكر أنَّ الأب زاد الأنثى على العطيّة التي أعطاها الله، وسوّاها بمن فضَّله الله عليها، أفضى ذلك إلى العداوة والقطيعة، كما إذا فضّل عليه من سوّى الله بينه وبينه، فأيّ فرقٍ بين أن يفضل من أمر الله بالتسوية بينه وبين أخيه، ويسوي بين من أمر الله بالتفضيل بينهما؟
قال: واعترض ابن عقيل على ذلك التفضيل، فقال: بناء العطيّة حال الحياة والصحة والمال لاحق لأحد فيه، ولهذا يجوز له الهبات والعطايا
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 108 - 109).
للوارث، وما زاد على الثلث للأجانب عبرة بحال صحته، وقطعًا له عز حال مرض الموت، فضلًا عن الموت، وكذا يعطي الإخوان مع وجود الابن والأب، وإن لم يكن لهم حقٌّ في الإرث، وتلك عطية من الله على سبيل التحتم، لا اختيار لأحدٍ فيه، وهذه عطيّة من مكلّف غيرِ محجور عليه، فكانت على حسب اختياره من تفضيل وتسوية.
قال: وهذا هو القول الصحيح عندي، انتهى.
قال الإمام ابنُ القيّم: وهذه الحجة ضعيفة جدًا باطلة بما سلمه من امتناع التفضيل بين الأولاد المتساوين في الذكورة والأنوثة، وكيف يصح قوله: إنّها عطيةٌ من مكلّف غير محجور عليه، فجازت على حسب اختياره، وأنتَ قد حجرتَ عليه في التفضيل بين المتساويين، انتهى (1).
تنبيهات:
* الأول: اختلف الأئمة في هبة الأولاد هل الأفضل والمشروع فيها التسوية، أم للذكر مثل حظ الأنثيين، فقال الثلاثة: السنّة: التسوية بينهم على الإطلاق، ذكورًا كانوا أو إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا.
وقال الإمام أحمد: إن كانوا كلهم ذكورًا، أو كلهم إناثًا، فالتسوية، وإن كانوا ذكورًا وإناثًا، فللذكر مثلُ حظ الأنثيين -كما قدّمنا-.
واتفقوا على أنّ تخصيص بعضهم بالهبة مكروه.
وكذلك اتفقوا على أن تفضيل بعضهم على بعض مكروه.
واختلفوا في التحريم:
فقال أبو حنيفة، والشافعي بعدم الحرمة.
(1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 672 - 673).
وقال مالك: يجوز أن ينحل الرجل بعضَ ولده ببعض ماله، ويُكره أن ينحله جميعَ ماله، وإن فعل ذلك، نفذ إذا كان في الصحّة (1).
وقد علمت أنّ مذهب الإمام أحمد حرمة ذلك.
قال ابن دقيق العيد: التفضيل يؤدي إلى الإيحاش والتباغض، وعدم البر من الولد لوالده، أعني: الولدَ المفضّلَ عليه، قال: وقد ذهب بعضهم إلى أنّه محرّم بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشهدْني على جور"، فسمّاه جَورًا، وأمره بالرجوع فيه، لاسيّما إذا أخذ بظاهر هذا الحديث أنّه كان صدقة، فإنّ الصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها، فإنّ الرجوع يقتضي أنها وقعت على غير الموقع الشرعي حيث نقضت بعد لزومها، انتهى (2).
وقال بالحرمة في التخصيص والتفضيل: البخاري، وهو قول طاوس، والثوري، وإسحاق بن راهويه، وقال به بعض المالكية.
ثم المشهور عند هؤلاء: أنها باطلة، وعند الإمام أحمد: تصح، ويجب عليه أن يرجع، أو يساوي، كما تقدم، وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار.
ومن ذهب إلى أن التسوية مستحبّة حمل الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "فارجعه"، وفي لفظ:"فاردده، واتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" على التنزيه، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله" يؤذن بأن اختلاف التسوية ليس بتقوى الله، وأن التسوية تقوى (3).
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 57).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 215 - 216).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 214).
واستدل بعض من لم يقل بالمنع بالرواية التي فيها: "أَشهدْ على هذا غيري"، فإنها تقتضي إباحة إشهاد الغير، ولا يباح إشهاد الغير إلا على أمرٍ جائزٍ، فيكون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الشهادة على وجه التنزيه.
ولا يخفى ما في هذا من التهافت، فإن الصيغة، وإن كان ظاهرها الإذن، إلا أما مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل، حيث امتنع الرسول من المباشرة، فهذه الشهادة معللة للامتناع؛ لأنها جور، فلا جرم أن الصيغة تخرج من ظاهر الإذن بهذه القرائن، وقد استعملوا مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير، ومنه:{فَاعْبُدُواْ مَا شِئْمُ} (1)[الزمر: 15].
* الثاني: الهبة، والعطية، والصدقة، والهدية، والنِّحلة، معانيها متقاربة تجري فيها أحكام الهبة، لكن المعطي إن قصد بإعطائه ثوابَ الآخرة فقط، فصدقة، وإن قصد إكرامًا وتوددًا ومكافأةً، فهديّة، وإلا يقصدْ توددًا ولا مكافأة، فهي هبة، وعطيّة، ونحلة، وهي مستحبة إذا قصد بها وجه الله تعالى، كالهِبَة للعلماء، والفقراء، والصالحين، وما قصد به صلة رحم، لا مباهاةً ورياءً وسمعة (2).
قال شيخ الإسلام: والصدقةُ أفضل من الهبة، إلّا أن يكون في الهبة معنًى تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبّةً له، والإهداء لقريب يصل به رحمه، أو أخٍ له في الله، فهذا قد يكون أفضل من الصَّدقة (3).
* الثالث: لا يجوز لواهب، ولا يصح أن يرجع في هبته -ولو صدقة
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 216).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 101).
(3)
انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 517).
وهدية ونحلة - بعد لزومها، إلّا الأب الأقرب، ولو أسقط من الرجوع كما في "الإقناع"(1)، خلافًا لما في "المنتهى"(2)، ومشى عليه في "الغاية"(3)؛ لأن الحق له، وقد أسقطه، فسقط.
ويشترط لرجوع الأب ثلاثة شروط:
أحدها: أن تكون عينًا باقيةً في ملك الابن، فلا رجوع في دينه على الولد بعد الإبراء، ولا في منفعةٍ أباحها له بعد الاستيفاء، كسكنى ونحوها، فإن خرجت العين عن ملك الولد ببيع أو هبة أو وقفٍ أو غير ذلك، ثم عادت إليه بسببٍ جديدٍ، كبيعٍ أو وصيّةٍ أو إرثٍ أو نحوه، لم يملك الرجوع، ولا يمنع الرجوع إن عادت إلى ملكه بنحو فسخ.
الثاني: أن تكون العين باقية في تصرف الولد، فإن تلفت، فلا رجوع في قيمتها، وإن رهن العين، أو أفلس، وحجر عليه، فكذلك، ومتى زال المانع، ملك الرجوع.
الثالث: ألا تزيد زيادة متصلة تزيد في قيمتها، كالسِّمَن، والكبر، وتعلُّم صنعة، وإن زاد ببرئه من مرض أو صمم، منع الرجوع، فإن اختلف الأب وولده في حدوث زيادة، فقول أب (4).
والقول بأنّ الأب يملك الرجوع فيما وهب لولده قولُ الثلاثة.
وقال أبو حنيفة: ليس له الرجوع بحالٍ.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 109 - 110).
(2)
انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 407).
(3)
انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 404).
(4)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 110 - 112).
لكن قال مالك: للأب أن يرجع فيما وهب للابن على جهة الصلة، لا على جهة الصدقة (1).
ومعتمد المذهب: منعُ الأم من الرجوع وفاقًا لأبي حنيفة.
وقال مالك: تملك الأم الرجوع على الابن في حياة الأب.
وقال: الشافعي: تملك مطلقًا.
وأما الجد، فلا يملكه عند الثلاثة.
وقال الشافعي: بلى (2).
وفرّق الإمام أحمد بين الأب والأم بأن له أن يتملك من مال ولده، بخلافها، لحديث:"أنت ومالك لأبيك" رواه الطبراني في "معجمه" مطولًا (3)، ورواه غيره، وزاد:"إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم"(4)، وعن عائشة مرفوعًا:"إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم" أخرجه سعيد، والترمذي، وحسنّه (5)، والله أعلم.
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 58).
(2)
المرجع السابق، (2/ 59).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6570)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (3530)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجة (2292)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(5)
رواه الترمذي (1358)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده، وابن ماجة (2290)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، انظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 395).