الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ، فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"(1).
وفي رواية: "اقْسِمُوا المَالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا تَرَكتِ الفَرَائِضُه، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ"(2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (6351)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه، و (6354)، باب: ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، و (6356)، باب: ميراث الجد مع الأب والإخوة، و (6365)، باب: ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج، ومسلم (1615/ 2 - 3)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، والترمذي (2098)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث العصبة.
(2)
رواه مسلم (1615/ 4)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وأبو داود (2898)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث العصبة، وابن ماجة (2740)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث العصبة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 97). و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 327)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 564)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 53) و "شرع عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 15)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1239)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 265)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 11)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 241)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 98)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 170).
(عن) أبي العباس (عبدِ الله بنِ عباسٍ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ألحقوا الفرائض بأهلها)؛ أي: الأنصبة المقدرة في كتاب الله -تعالى-، وهي النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، ومن عباراتهم في ذلك: الثلث والربع وضعفُ كل، ونصف كل ومنهما السدس والثمن وضعفهما وضعف ضعفهما (1).
والحاصل: أنّ الفروض المقدرة: الثلثان، والثلث، والسدس، والنصف، والربع، والثمن (2).
ودلّ الحديث على أنّ قسمة المواريث تكون البدأة فيها بأهل الفرض، وبعد ذلك ما بقي فللعصبة (3)، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"بأهلها".
فأهل النصف خمسة: الزوج عند عدم الفرع الوارث بالإجماع، والأنثى من الأولاد، وهي البنت عند انفرادها عمن يساويها من الإناث، أو يعصبها من الذكور، وبنت الابن عند فقد الولد، ومن يساويها في درجتها من الإناث أو من يعصبها من الذكور، والأخت الشقيقة حيث لا ولد للميت، ولا ولد ابن، ولا في درجتها من يساويها من الإناث، ولا من يعصبها من الذكور، والأخت للأب حيث فقد من مرَّ ذكرهم، ولا ثَمَّ من يساويها من الإناث، ولا من يعصبها من الذكور.
وأما الربع، ففرض الزوج مع فرع وارثٍ للميّت، وفرض الزوجة فأكثر حيث لا فرع له وارث.
وأما الثمن، ففرض الزوجة فأكثر حيث كان للميّت فرعٌ وارث.
(1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 406).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 183).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 15).
وأما الثلثان، ففرض أربعة أصناف: فرض البنتين فصاعدًا، وفرض بنتي الابن فصاعدًا، وفرض الشقيقين، وفرض الأختين للأب فصاعدًا بالشروط المعتبرة.
وأمّا الثلث، ففرض الأم بشرطين عدميين:
أحدهما: حيث لا ولد للميّت، ولا ولد ابن.
والثاني: حيث لا عدد من الإخوة والأخوات، سواء كان الإخوان فصاعدًا أشقاء، أو لأبٍ، أو لأمٍ، أو مختلفين، وسواء كانا ذكرين، أو أنثيين، أو مختلفين، ولا فرق في الإخوة بين كونهم وارثين، أو محجوبين، أو بعضهم، والمراد: حجب شخص، وأمّا المحجوب بالوصف، فوجوده كعدمه، وقد لا ترث الأم حقيقة مع عدمِ مَنْ ذُكر في مسألتين يسميان بالغرَّاوين، وبالعمريتين، وهما:
زوج وأم وأب، فلها ثلث الباقي بعد فرض الزوج.
وزوجة وأم وأب، فلها ثلث الباقي بعد فرض الزوجة.
وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة.
والثلث أيضًا فرض الأخوين للأم فصاعدًا، يستوي فيه الذكر والأنثى منهم، وتسقط الإخوة للأم بالولد، ذكرًا كان أو أنثى، وبولد الابن كذلك، وبالأب والجد.
وقد يرث الجد في بعض أحواله مع الإخوة، وكذلك ربما ورث معهم في بعض أحواله ثلث الباقي.
وأما السدس، ففرض سبعة: فرض الأب مع الفرع الوارث، وفرض الأم معه أيضًا، أو مع عدد من الإخوة والأخوات، وفرض بنت الابن فأكثر
مع البنت الواحدة، وكذا كلّ بنت ابن نازلة مع بنت ابن واحدة أعلى منها، وجَدٍّ مع الفرع الوارث، وكذا في حالٍ من أحواله مع الإخوة، وفرض الأخت للأب مع الأخت الشقيقة الواحدة، وفرض الجدّة فأكثر، وفرض ولد الأم الواحد ذكرًا كان أو أنثى.
والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة: الابن وابنه وإن نزل، والأب وأبوه وإن على، والأخ من كلّ جهة، وابن الأخ لا من الأم، والعم وابنه كذلك، والزوج ومولى النعمة (1).
ومن الإناث سبع: للبنت وبنت الابن وإن سفل أبوها، والأم، والجدّة، والأخت، من كلّ جهة، والزوجة، ومولاة النعمة.
تنبيه:
جاءت الأخبار وصحت الآثار بالحثّ على تعلم علم الفرائض، والاعتناء به، وعدم إهماله، فروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آيةٌ محكمة، [أ] وسنّةٌ قائمة، فريضةٌ عادلة"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعلّموا الفرائضَ وعلّموها الناسَ، فإنه نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول علم يُنزع من أمّتي" رواه ابن ماجة (3).
(1) انظر فيما نقله الشارح رحمه الله في هذا الموضع: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 82 - 85).
(2)
رواه أبو داود (2885)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في تعليم الفرائض، وابن ماجة (54)، في المقدمة.
(3)
رواه ابن ماجة (2719)، كتاب: الفرائض، باب: الحث على تعليم الفرائض.
ويروى عن عبد الله رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا الفرائض وعلّموها الناس، فإني امرؤٌ مقبوض، وإنّ العلم سيُقبض حتى يختلف الرجلان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما"(1).
وقال عمر رضي الله عنه: تعلّموا الفرائض، فإنها من دينكم (2)، والله أعلم.
(فما بقي) بعد أن أخذ ذو الفرض فرضه (فهو)؛ أي: الباقي بعد الفريضة (لأَولى)؛ أي: لأقرب (رجلٍ) من عصبات الميّت.
(ذَكَرٍ) احترز به عن الخنثى في الجملة.
قال الإمام الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": المراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سمّاه الله لهم، فما بقي بعد هذه الفروض، فيستحقه أولى الرجال، والمراد بالأولى: الأقرب كما يقال: هذا يلي هذا؛ أي: يقرب منه، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات، فيستحق الباقي بالتعصيب، وبهذا المعنى فسّر الحديثَ جماعة من الأئمة، منهم: الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، نقله عنهما إسحاقُ بنُ منصور، وعلى ظاهر هذا فإذا اجتمع بنت وأخت وعم، أو ابن عم أو ابن أخ، فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يتمسك بهذا الحديث، ويقرّ بأن الناس كلهم على خلافه، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضًا، وقال إسحاق: إذا كان مع البنت والأخت عصبة، فالعصبة
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(7950)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 208)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31034)، والدارمي في "سننه"(2851)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 209).
أولى، وإن لم يكن معهما أحد، فالأخت لها الباقي.
وحكي عن ابن مسعود: أنه قال: الأخت عصبةُ من لا عصبةَ له، ورد هذا بأنه لم يصح عن ابن مسعود، وكان ابن الزُّبير ومسروق يقولان بقول ابن عبّاس، ثم رجعا عنه.
ومذهب جمهور العلماء: أن الأخت مع البنت عصبة، لها ما فضل، منهم: عمر، وعلي، وعائشة، وزيد، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وتابعهم سائر العلماء، ومن حجّتهم ما في "صحيح البخاري" عن أبي قيس الأودي، عن هُزَيْل بن شرُحبيل، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى رضي الله عنه، فسأله عن ابنة وابنة ابنٍ وأختٍ لأبٍ واحدٍ، فقال: للابنة النصف، وللأخت ما بقي، فأئى ابنَ مسعود، فسيتابعني، فأتى ابنَ مسعود، فذكر له ذلك، فقال: لقد ضللتُ إِذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم (1).
وفي "البخاري" -أيضًا- عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: النصف للابنة، والنصف للأخت، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يذكره (2)، وخرجه أبو داود من وجهٍ آخر، وفيه: ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ حيّ (3).
(1) رواه البخاري (6355)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث ابنة ابن مع ابنة.
(2)
رواه البخاري (6360)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الأخوات مع البنات عصبة.
(3)
رواه أبو داود (2893)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الصلب.
واستدل ابن عباس رضي الله عنهما لمذهبه بقوله -تعالى-: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]، وكان يقول:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]؟ يعني: أنّ الله لم يجعل لها النصف إِلَّامع عدم الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد، وهو البنت، والصواب قول عمر والجمهور، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك؛ لأن المراد بقوله:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك} [النساء: 176] بالفرض، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية، ولهذا قال بعده:{فَإِن كَانَتَا اْثنَتَين فَلَهُمَا الْثلثُانِ مِمَّا تَرَك] [النساء: 176] يعني: بالفرض، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدًا إنما يستحقان الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، فإن كان هناك ولد، فإن كان ذكرًا، فهو مقدم على الإخوة مطلقًا، وإن لم يكن هناك ولد ذكر، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها، فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات، كالعم وابنه، وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطًا لها، فيتعين تقديمها عليه، لامتناع مشاركته لها، فمفهوم الآية أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض، وهذا حقٌّ، لا أن مفهومها أنّ الأخت تسقط بالبنت، ولا تأخذ ما فضل عن ميراثها، يدل عليه قوله -تعالى-: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات، وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كلّه، فكما أن الولد إن كان ذكرًا منع الأخ من الميراث، وإن كان أنثى، لم يمنعه الفاضل من ميراثها، وإن منعه حيازة الميراث، فكذلك الولد إن كان ذكرًا،
منع الأخت الميراث بالكليّة، وإن كان أنثى، منعت الأخت أن يفرض لها النصف، ولم تمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها (1). (وفي رواية) لمسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " (اقسموا المال) المخلف عن الميّت، يعني: تَرِكته (بين أهل الفرائض)؛ أي: المستحقين لها (على) حكم (كتاب الله) -تعالى-، (فما)؛ أي: أَيَّ شيء (تركت الفرائض)؛ أي: الذي تركته الفرائض، يعني: فضل عنها، فـ (هو لأولى)؛ أي: أقرب (رجل) من عصبات الميت (ذكر).
قال الحافظ ابن رجب: قد قيل: إنّ المراد به العصبة البعيدة خاصّة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دون العصبة القريب، بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبة قريبًا، كالأولاد والإخوة بالاتفاق، وكذلك الأخت مع البنت بالنصّ الدّال عليه، وأيضًا فإنه يخص منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك يخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق، فيخصّ منه صورة الأخت مع البنت بالنّص.
وقال بعضهم: المراد بقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها": ما يستحقه ذَوو الفروض في الجملة، سواء أخذوه بفرض، أو بتعصيب طرأ لهم، والمراد بقوله:"فما بقي فلأولى رجل ذكر": العصبة الذي ليس لها فرض بحال، ويدل عليه أنّه روي الحديث باللفظ الذي أخرجه مسلم، فقوله:"اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى" يدخل فيه كلّ من كان من أهل الفروض بوجهٍ من الوجوه، وعلى هذا، فما تأخذه الأخت مع أخيها أو ابن عمها إذا عصبها هو داخل في هذه القسمة؛ لأنها من أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت.
(1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 399 - 401).
وقالت فرقة: المراد بأهل الفرائض في قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، وقوله:"اقسموا المال بين أهل الفرائض": جملة من سمّاه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلهم، فإنّ كل ما تأخذه الورثة فهو فرضٌ فرضه الله لهم، سواء كان مقدّرًا، أو غير مقدر، كما قال بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11]، وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]، وهذا يشمل العصبات، وذوي الفروض، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"اقسموا الفرائض بين أهلها على كتاب الله" يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله، فإن قسم على ذلك، ثم فضل منه شيء، فيختصّ بالفاضل أقربُ الذكور من الورثة، وكذلك إن لم يوجد في كتاب الله تصريح بقسمته بين من سمّاه الله من الورثة فيكون حينئذٍ المال لأولى رجل ذكر منهم، فهذا الحديث مبيّن لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله -تعالى- بين أهلها، ومبيّن لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة ممّا لم يصرّح به في القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبيّن -أيضًا- لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضُمّ هذا الحديث إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كلّه معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها": الحديث هذا عام خصّ منه المُعْتِقَة والملاعِنَة والملتَقِطَة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "تحوز
(1) المرجع السابق، (ص: 401 - 402).
المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعَنَتْ عليه" (1)، وإذا كان عامًا مخصوصًا، خصّت منه هذه الصور بما ذكر من الدلالة، فإن قيل: قوله: "فلأولى رجلٍ ذكر" إنما هو من الأقارب الوارثين بالنسب، قيل: فالمنازع يقدّم المعتق على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، وهو صلى الله عليه وسلم قال: "فلأولى رجل ذكر"، فأكدّه بالذكر، ليبيّن أنّ العاصب المذكور هو الذكر دون الأنثى، وإنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول الأنثى، كما في قوله: "أَيُّما رجلٍ وجد متاعَه"، ونحو ذلك مما يذكر فيه لفظة الرجل، والحكم يعمّ النوعين الذكور والإناث. ثمّ قال: فقوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن هناك من يكون عصبة بغيره؛ أي: مع غيره، وهو من أهل الفرض في بعض الأحوال (2).
تنبيهات:
الأوّل: الإرث ثلاثة أنو اع: فرضٌ، وتعصيب، وذو رحمٍ، فالفرضُ تقدّم ذكره، وذكر الوارثين به.
والعصبة مصدر عصب يعصب تعصيبًا، فهو عاصب، ويجمع العاصب على عَصَبَة، وتجمع العصبة على عَصَبات، ويسمى بالعصبة: الواحدُ وغيره، والعصبة لغة: قرابة الرجل لأبيه، سمّوا بها؛ لأنهم عصبوا به؛ أي: أحاطوا به، وكلّ ما ما استدار حول شيء، فقد عصب به، ومنه:
(1) رواه أبو داود (2906)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث ابن الملاعنة، والترمذي (2115)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء ما يرث النساء من الولاء، وابن ماجة (2742)، كتاب: الفرائض، باب: تحوز المرأة ثلاث مواريث، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (31/ 349) وما بعدها.
العصائب؛ أي: العمائم، وقيل: سمّوا بها، لتقوي بعضهم ببعض، من العصب، وهو الشدّ والمنع، يقال: عصبت الشيء عصبًا: إذا شددته، والرأسَ بالعمامة: شددتها، ومنه: العصابة، لشدّ الرأس بها، ومدار هذه المادّة على الشدّ والقوّة والإحاطة (1).
والعصبة اصطلاحًا: من يرث بغير تقدير، إن انفرد، أخذ المال كلّه، وإن كان معه ذو فرض، أخذ ما فضل عنه، وإن استوعبت الفروض التركة، سقط.
وهم: كلّ ذكر ليس بينه وبين الميّت أنثى، وهم: الابن وابنه، والأب وأبوه، والأخ وابنه لا من الأم، والعم وابنه كذلك، ومولى النعمة، وأحقّهم بالميراث أقربُهم، ويسقط به من بَعُد، وأقربُهم الابنُ فابنه وإنْ نزله، ثمّ الأب، ثمّ الجد وإن على، فهو أولى من الإخوة لأب أو لأبوين أو لأب في الجملة، وإن كان، إن اجتمعوا معه فقاسموه، ثم الأخ من الأبوين، فمن الأب، ثم ابن الأخ من الأبوين، فمن الأب، ثم أبناؤهم وإن نزلوا، ثم الأعمام فأبناؤهم كذلك، ثم أعمام الأب فأبناؤهم [ثم أعمام الجد فأبناؤهم](2) كذلك أبدًا، لا يرث بنو أب أعلى من بني أب أقرب منهم، وإن نزلت درجتهم.
والحاصل: أنّ جهات العصوبة عندنا ست: البنوّة، ثم الأبوّة، ثم الجدودة مع الأخوّة، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم ذوو الولاء، فلا ترث جهة من هذه الجهات الست مع وجود جهة مقدمة عليها -يعني:
(1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 302)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 607)، (مادة: عصب).
(2)
[ثم أعمام الجد فأبناؤهم] ساقطة من "ب".
بالعصوبة-، وإلّا، فالأب، وكذا الجدّ مع عدم الأب يرث مع ولد أو ولد ابن بالفرض سدسًا، وبالفرض والتعصيب مع أنوثيتهما، فيأخذ السدس فرضًا، ثم ما بقي تعصيبًا، فإن اجتمع اثنان فأكثر من جهةٍ واحدةٍ، قدّم بالدرجة؛ أي: قدم أقربهم إلى الميّت؛ كتقديم الابن على ابنه مثلًا، وتقديم العم على ابنه، فإن اتحدا جهة ودرجة، قدم بالقوّة، فيقدّم الأخ الأبوين على الأخ من الأب، وكذلك ابن الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب، وكذا العم لأبوين على العم لأب، وبنوهم كذلك، وإلى هذه القاعدة أشار
الجعبريُّ -رحمه الله تعالى (1) - بقوله: [من الطويل]
فَبِالْجِهِة التَّقْدِيمُ ثُمَّ بِقُرْبِهِ
…
وَبَعْدَهُمَا التَّقْدِيمَ بِالقُوَّةِ اجْعَلَا (2)
فذو القرابتين أقوى من ذى القرابة الواحدة كما مثلنا، والله أعلم.
الثاني: اعلم أنّ العصبة ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه، وهم من قدّمنا ذكرَهم، وعصبةٌ بغيره، وهم البنت فأكثر، فإنّه يعصبها الابن فأكثر، وبنتُ الابن فأكثر يعصبها ابنُ الأبن فأكثر، فيكون المال أو الباقي بعد الفروض بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين، والأخُ الشقيق فأكثر يعصب الأختَ الشقيقة فأكثر، والأخ من الأب فأكثر يعصب الأختَ من الأب فأكثر، فيقسم المالُ أو الفاضل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إجماعًا؛ لقوله -تعالى-:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]، ويعصب -
(1) هو الشيخ صالح بن تامر بن حامد أبو الفضل الجعبري الشافعي، صاحب:"الجعبرية" في الفرائض، كان خيرًا متواضعًا، حسن الخلق، سمع من المجد ابن تيمية وغيره. توفي سنة (706 هـ)، انظر:"الدرر الكامنة" لابن حجر (2/ 355).
(2)
انظر: "حاشية النجدي على منتهى الإرادات"(3/ 518)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.
أيضًا- الأختَ لأبوين، أو لأب الجد، ولا يعصب الأخُ لأب الأختَ الشقيقة، بل لها معه النصفُ فرضًا، وله الباقي تعصيبًا إجماعًا، ولا يعصب الأخُ الشقيق الأختَ لأب.
بل يسقطها إجماعًا، فتلخّص أنّ العصبة بالغير أربعة: البنت، وبنت الابن، والأخت لأبوين، والأخت لأب.
وأمّا العصبة مع الغير، فالأخت فأكثر لأبوين، أو لأب مع البنت، أو بنت الابن فأكثر، فإذا كانت البنت واحدة، فلها النصف فرضًا، والباقي للأخت فأكثر تعصيبًا، وإذا كانت بنات الصلب ثنتان فأكثر، فلهما أو لهنَّ الثلثان فرضًا، والباقي للأخت فأكثر تعصيبًا، وإن كانت بنت وبنت ابن وأخت، فللبنت النصف فرضًا، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين فرضًا والباقي للأخت تعصيبًا، وإذا صارت الأخت الشقيقة مع البنت عصبة، فهي بمنزلة الشقيق، فتُسقط الأخَ والأختَ من الأب كما يُسقطهم الشقيق.
والفرق بين العصبة بغيره والعصبة مع غيره: أنّ الأول لابد أن يشاركه من عصبه، وأما العصبة مع غيره، فلا يشاركه، بل إن بقي شيء بعد الفروض، أخذه العصبة، وإلّا، سقط، فزوج وبنتان وأم شقيقة: المسألة من اثني عشر: للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، فتعول إلى ثلاثة عشر، وتسقط الشقيقة.
فتلخص: أن العصبة مع غيره جنُس الأخت للأبوين أو لأب مع جنس البنت أو بنت الابن، والله -تعالى- الموفّق (1).
(1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي مع "شرحه" للبهوتي (4/ 562)، و"الإقناع" للحجاوي (3/ 193)، و"حاشية النجدي على المنتهى"(3/ 517)، و"الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 83)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 54).
الثالث: ذوو الأرحام: كلّ قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة، وهم أحد عشر صنفًا: ولد البنات، وولد بنات الابن، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وأولاد الإخوة من الأم، والعم من الأم، والعمّات، والأخواله، والخالات، وأبو الأم، وكلّ جدّة أدلت بأب بين أميّن، كأم أبي الأم، أو بأبٍ أعلى من الجد، كأم أبي أبي أبي الميّت، ومن أدلى بهم، ويرثون بالتنزيل، وهو أن تجعل كلّ شخص بمنزلة من أدلى به، فولد البنات، وولد بنات الابن، وولد الأخوات كأمهاتهم، وبنات الإخوة، والأعمام لأبوين أو لأب، وبنات بنيهم، وولد الإخوة من الأم كآبائهم، والأخواله، والخالات، وأبو الأم كالأم، والعمّات والعم من الأم كالأب،
وأبو أم أب، وأبو أم أم، وأخواهما، وأختاهما، وأم أبي جد بمنزلتهم، ثم يُجعل نصيبُ كلّ وارث لمن أدلى به، فإن انفرد واحد من ذوي الأرحام، أخذ المال كلّه، وإن أدلى جماعة منهم بواحد، واستوت منازلهم منه بلا سبق، فنصيبه بينهم بالسويّة ذكرهم وأنثاهم ولو خالًا وخالة، فإن أسقط بعضهم بعضًا، كأبي الأم والأخوال، فأسقط الأخوال؛ لأن الأب يسقط الإخوة والأخوات، فإن كان بعضهم أقرب من بعض، فالميراث لأقربهم، ويسقط البعيد منهم كما يسقط البعيد من العصبات بقريبهم، كخالة وأم
أبي أم أو ابن خاله، فالميراث للخالة؛ لأنها تلقى الأمَّ بأول درجة، فإن اختلفت منازلهم من المدلي، به جعلته كالميّت، وقسَمت نصيبه بينهم على ذلك، كثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمّات متفرقات، فالثلت بين الخالات على خمسة، والثلثان بين العمّات كذلك، فاجتزِ بإحداهما، واضربها في ثلاثة، تكن خمسة عشر: للخالة من قبل الأم والأب ثلاثة، وللتي من قبل الأب سهم، وللتي من قبل الأم سهم، وللعمّة التي من قبل
الأم والأب ستة، وللتي من قبل الأب سهمان، وللتي من قبل الأم سهمان.
وإن أسقط بعضهم بعضًا، عملت بذلك، فإن كان بعضهم أقرب من بعض في السبق إلى الوارث، ورثَ، وأسقط غيره إذا كانوا من جهة واحدة؛ كبنت بنتٍ وبنت بنتِ بنتٍ، وإن كانوا من جهتين، فينزل البعيد حتى يلحق بوارثه، سواء سقط به القريب، أو لا، كبنت بنت بنت، وبنت أخ من أم، فالمال لبنت بنت البنت.
والجهات ثلاثة: أبوّة، وأمومة، وبنوّة، ومن أدلى بقرابتين، ورث بهما (1)، وهذا مذهب أهل التنزيل، وهو معتمد مذهب الحنابلة والشافعية، وهو أقيس، ومذهب الحنفية، ويسمى مذهب أهل القرابة، فيقدّمون الأقرب فالأقرب كالعصبات (2)، وفي ذلك تفصيلٌ يطول لا حاجة بنا إلى ذكر شيء منه، والله أعلم.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 215 - 217).
(2)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 90).