الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لاخْتَصَيْنَا (1).
التبتل: ترك النكاح، ومنه قيل لمريم عليها السلام: البتول.
* * *
(عن) أبي إسحاقَ (سعدِ بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه، قال: ردَّ
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (4786)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره عن التبتل والخصاء، ومسلم (1402/ 6 - 8)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، والنسائي (3212 - 3213)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل، والترمذي (1083)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتل، وابن ماجة (1848)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 529)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 88)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 176)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 27)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1257)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 118)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 72)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 15)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 225).
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على عثمانَ بنِ مظعونٍ التبتلَ) المراد بالتبتل هنا: الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة، وأما المأمور به في قوله -تعالى-:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 18] فقد فسّره مجاهد بالإخلاص، فقال: أخلصْ له إخلاصًا (1)، وهو تفسير معنى، وإلا، فأصل التبتل: الانقطاع، المعنى: انقطعْ إليه انقطاعًا، لكن لمّا كانت حقيقة الانقطاع إلى الله -تعالى- إنما تقع بإخلاص العبادة له، فسّرها بذلك، ومنه: صدقة بتلة؛ أي: منقطعة عن الملك، وسُمِّيت مريمُ: البتول، لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة، وقيل لفاطمة: البتول، لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف، ولانقطاع نظرها عما سوى ابن عمها عليٍّ - رضوان الله عليه (2) -. وأراد بقوله: ردّ على عثمان؛ أي: لم يأذن له به، بل نهاه عنه، فأخرج الطبراني من حديث عثمان بن مظعون نفسِه: أنه قال: يا رسول الله! إني رجلٌ يشق عليَّ العزوبة، فأذنْ لي في الخِصاء، قال:"لا، ولكن عليك بالصيام"(3).
ومن طريق سعيد بن العاص: أنّ عثمان قال: يا رسول الله! ائذنْ لي في الاختصاء، فقال:"إنّ الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة"(4)، فيحتمل أن يكون الذي طلبه عثمانُ رضي الله عنه في الاختصاء حقيقة، فعبّر عنه الراوي بالتبتل؛ لأنه ينشأ عنه (5).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 216)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35459)، وغيرهما.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 118).
(3)
رواه الطَّبرانيُّ في "المعجم الكبير"(8325)، وكذا ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 396).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 118).
وعثمانُ بنُ مَظْعون -بفتح الميم وسكون الظاء المعجمة وضم العين المهملة- ابنِ حبيبِ بنِ وهبِ بنِ حُذافَةَ -بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وبالفاء- ابنِ جُمَحَ -بضم الجيم وفتح الميم ثم حاء مهملة-: من بني كعب بن لؤي، الجُمَحيُّ القرشيُّ، أسلم قديمًا بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، وكان ممن حرّم الخمرَ على نفسه في الجاهلية، وقال: أشرب شيئًا يُذهب عقلي، ويُضحك مني من هو أدنى مني (1)؟! وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة في شعبان على رأس ثلاثين شهرًا، وقيل: اثنين وعشرين شهرًا بعدَما رجع من بدر، وقبّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجهَه بعدَ موته، ولمّا دفن، قال صلى الله عليه وسلم:"نِعْمَ السلفُ هو لنا"(2)، ودُفن في البقيع، وهو أول من دُفن فيه، ولما مات إبراهيمُ بنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:"اْلَحِقْ سلفنا الصالحَ عثمانَ بَن مظعون"(3)، وروي أنه قال ذلك حين توفيت زينبُ ابنتهُ صلى الله عليه وسلم (4). وكان صلى الله عليه وسلم يزوره، وكان قد أعلم قبره بحجر لذلك، وكان رضي الله عنه عابدًا مجتهدًا من فضلاء الصحابة، روى عنه ابنه السائب وغيره.
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 393 - 394).
(2)
ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 1053).
(3)
رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 378)، والطبراني في "المعجم الكبير"(837)، عن الأسود بن سريع، قال: لما مات عثمان بن مظعون، أشفق المسلمون عليه، فلما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون".
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 237)، والطيالسي في "مسنده"(2694)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 398)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8317)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 105).
وفي "البخاري ": أنّ أم العلاء الأنصارية قالت: رأيتُ في النوم لعثمان بن مظعون عينًا تجري، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك علمه"(1) رضي الله عنه (2).
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (ولو أذن)، أي: النبيُّ صلى الله عليه وسلم (له)، أي: لعثمانَ بنِ مظعون رضي الله عنه بالتبتل، (لاختصينا)؛ لأنه الذي طلبه عثمان -كما قدّمنا- في حديث الطبراني وغيره، أو المراد: لفعلنا فعلَ من يختصي، وهو الانقطاع عن النساء، قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون: تحريمُ النساءِ والطيبِ وكلِّ ما يلتذ به، فلهذا نزل في حقّه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، وتقدم تَسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون.
قال الطيبي: قوله: ولو أذن له، لاختصينا كان الظاهر أن يقول: ولو أذن له، لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: لاختصينا، لإرادة المبالغة، أي: لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمرُ إلى الاختصاء، ولم يرد به حقيقة الاختصاء؛ لأنه حرام، وقيل: بل هو على ظاهره، وكان ذلك
(1) رواه البخاري (6615)، كتاب: التعبير، باب: العين الجارية في المنام، إلا أن فيه:"عمله" بدل "علمه".
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 393)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 210)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 260)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 209)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 102)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1053)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 449)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 589)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 300)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 153)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 461)، و"تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 283).
قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيده تواردُ استئذانِ جماعة من الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كأبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغَ من التعبير بالتبتل؛ لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة ووجود الشهوة، ينافي المراد من التبتل، فيتعين الخصاء طريقًا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أنّ فيه ألمًا عظيمًا في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به في الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد آكلة، صيانةً لبقية اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققًا، بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الراوي عبّر بالخصاء عن الجب؛ لأنه هو الذي يحصل المقصود.
والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل، ليستمر جهاد الكفار، وغير ذلك، ولو أذن صلى الله عليه وسلم في ذلك، لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية (1).
قال: الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: (التبتل) الذي ردّه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون، ولم يأذن له فيه، أي المراد به:(ترك النكاح) -كما قدّمناه-، (ومنه)، أي: من كون المراد بالتبتل: ترك النكاح، أي: من أجل ذلك (قيل لمريم) بنت عمران (عليها السلام: البتول)، لانقطاعها عن التزويج، واسم أمها حنّة، وأخت حنّة أمُّ يحيى اسمها يساع، واسم أبيها فاقود، وعمران ابن ماثان، والله أعلم.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 118).