الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ بمَكَّةَ؟ قَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاع؟! "، ثمّ قَالَ:"لَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ، وَلَا المُسْلِمُ الكَافِرَ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1511)، كتاب: الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها، و (2893)، كتاب: الجهاد، باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون، فهي لهم، و (4032)، كتاب المغازي، باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، ومسلم (1351)، كتاب: الحجِّ، باب: النزول بمكة للحاج وتوريث دورها، و (1614)، كتاب: الفرائض.
قلت: قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(8/ 63): هذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواضع مفرقًا وَمجموعًا -ثم بعد ذكرِها- قال: إذا عرفت ذلك، فلفظ المصنف بسياقه ليس واحد منهما، وأقربها إلى روايته سياق البخاري له في باب المغازي، انتهى.
قلت: لفظ البخاري في المغازي برقم (4032) -كما تقدم-: أن زيدًا رضي الله عنه قال زمن الفتح: أين تنزل غدًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" ثم قال: "لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن".
قلت: ولعل المصنف رحمه الله قد جمع بين سيأتي حديث أسامة رضي الله عنه، فالأول وهو قوله:(قلت: يا رسول الله! أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع") رواه البخاري (1511)، ومسلم برقم (1351) -كما تقدم تخريجه عندهما-. =
(عن) أبي محمدٍ (أسامةَ بنِ زيدِ) بنِ حارثة - رضي الله عنهما - وأسامةُ هو الحِبُّ بن الحبِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدّمت ترجمته في باب: فسخ الحج إلى العمرة، وأما زَيْدٌ والدُ أُسامة رضي الله عنهما، فهو زيدُ بنُ حارثةَ مولى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يُكنّى بابنه أسامةَ، وحارثةُ -بالحاء المهملة وبالمثلثة- ابنُ شَراحِيلَ -بفتح الشين المعجمة وكسر الحاء المهملة- ابنِ كعبِ بنِ عبدِ العزى بنِ امرىء القيسِ بنِ النعمانِ بنِ عبدِ ودّ بنِ امرىء القيسِ بنِ عامرٍ القضاعيُّ الكلبيُّ، وكان قد أصابه في الجاهلية سبيًا؛ لأن أمه خرجت به تزور قومها، فأغارت عليهم خيلٌ لبني العين بن حَسْرٍ،
= والثاني: وهو قوله: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" رواه البخاري (6383) كتاب: الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، ومسلم (1614)، في أول كتاب الفرائض.
وقد جمعهما ابن ماجة (2730)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك.
ورواه أبو داود (2010)، كتاب: المناسك، باب: التحصيب، و (2909 - 2910)، كتاب: الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر، والترمذي (2107)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر، وابن ماجة (2729)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 100)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 257)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 324)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 567)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 120)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (17/ 4)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1243)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 451)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 226)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 192).
فأخذوا زيدًا فباعوه وهو ابن ثمان سنين، وأمُّ زيد سعدى بنت ثعلبةَ من بني معن من طيٍّ، فوافوا به بعد سَبْيِه سوقَ عكاظ، فاشتراه حكيمُ بنُ حزامِ بنِ خُويلدٍ لعمّته خديجةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنهما بأربع مئة درهم، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وهبته له، فقبضه، وكان أبوه حارثةُ قال حين فقده:[من الطَّويل]
بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ
…
أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الأَجَلْ
فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ سَائِلًا
…
أَغَالَكَ سَهْلُ الأَرْض أَمْ غَالَكَ الجَبَلْ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَكَ الدَّهْرَ رَجْعَةٌ
…
فَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا رُجُوعُكَ لَوْ بَجَلْ
تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا
…
ويعْرِضُ ذِكْرَاهُ إِذَا قَارَبَ الطَّفَلْ
وَإِنْ هَبَّتِ الأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ
…
فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصَّ الِعيسِ فِي الأَرْضِ جَاهِدًا
…
وَلا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمَ الإِبِلْ
حَيَاتِيَ أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي
…
وَكُلُّ امْرِىءٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ
وَأُوصِي بِهِ قَيْسًا وَعَمْرًا كِلَيْهِما
…
وَأُوصِي يَزِيدًا ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ جَبَلْ
يعني: جبلةَ بنَ حارثة أخا زيد، ويزيدُ هو أخو زيدٍ لأمه.
قال الحافظ ابنُ الجوزي في "منتخب المنتخب": فحجّ ناسٌ من كعب، فرأوا زيدًا، فعرفوه وعرفهم، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد حرقوا عليَّ، فقال:[من الطويل]
أُبَكِّي إِلَى قَوْمِي وَإِنْ كُنْتُ نائِيًا
…
بِأَنِّيَ قَطينُ البَيْتِ عِنْدَ المَشَاعِرِ
فَكُفُّوا عَنِ الوَجْدِ الَّذِي قَدْ شَجَاكُمُ
…
وَلا تُعْمِلُوا فِي الأَرْضِ نَصَّ الأَباعِرِ
فَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ
…
كِرَامِ مَعَدٍّ كابِرًا بَعْدَ كابِرِ
فانطلقوا فأعلموا أباه، فخرج حارثةُ وكعبٌ ابنا شَراحيلَ بفدائه، فدخلا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا بنَ هاشمٍ! يا بنَ سيّدِ قومِه! أنتم أهلُ حرم الله وجيرانُه، تفكون العانيَ، وتطعمون الأسير، جئنا في ابننا، فامننن علينا، فإنّا سندفع لك الفداء، فقال:"ما هو؟ "، فقالوا: زيد، قال:"فهلّا غير ذلك؟ "، قالوا: ما هو؟ قال: "ادعوه فخيّروه، فإن اختاركم، فهو لكم بغيرِ فداء، وإن اختارني، فوالله! ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدًا"، قالا: قد زدتنا على النصفة، فدعاه، فقال:"هل تعرف هؤلاء؟ "، قال: هذا أبي، وهذا عمي. قال:"وأنا من قد علمتَ، فاخترني أو اخترهما"، فقال: ما أنا بالذي أختار عليكَ أحدًا، فقالا: ويحك يا زيد! تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك! قال: نعم، إنِّي قد رأيتُ في هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختارُ عليه أحدًا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أخرجه إلى الحِجْر، فقال:"يا من حضر! اشهدوا أنّ زيدًا ابني، يرثني وأرثه"، فلما رأى ذلك أبوه وعمه، طابت أنفسهما، وانصرفا، فدعي: زيدَ بنَ محمّد إلى أن جاء الإسلام ونزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، فقيل له: زيدُ بنُ حارثةَ، فزوجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش.
قال الزهري: زيدٌ أولُ من أسلم، وقال غيره: أسلمَ بعدَ علي، وقيل: هو أولُ من أسلم من الموالي، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والحديبية وخيبر، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة حين خرج إلى المريسيع، وخرج أميرًا في سبع سرايا، ولم يَذكر في القرآن صحابيًا باسمه غيره في قوله -تعالى-:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37].
قال في "جامع الأصول": كان النبي صلى الله عليه وسلم أكبرَ منه بعشر سنين، وقيل: بعشرين سنة، وزوجه صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة، ثم زوجه
زينب بنت جحش، وكان يقال له: حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين زيد وبين حمزة عمّه.
وفي "مستدرك الحاكم": أنّ حارثة والد زيد أسلم، فأسامة وأبوه وجدُّه صحابة.
ويروى: أنّ ابنًا لأسامة صحابي أيضًا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سريّة إلّا أمّرَه عليهم، ولو بقي، لاستخلفه (1).
واستشهد [زيد](2) رضي الله عنه في غزوة مؤتة، وهو أمير الجيش في جمادى الأولى سنة ثمان، وهو ابن خمسٍ وخمسين سنة أو نحوها.
روى عنه ابنه أسامة وغيره.
قال الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": رُوي لزيد أربعة أحاديث، ولم يُذكر له شيء في "الصحاح"(3).
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا: "أَحَبُّ النَّاس إليَّ مَنْ أنعم اللهُ عليه
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(4962).
(2)
[زيد] ساقطة من "ب".
(3)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 40)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 379)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 235)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 542)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 342)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 378)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 408 - "قسم التراجم")، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 53)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 598).
وأنعمتُ عليه" (1)، يعني: زيدَ بنَ حارثة رضي الله عنه.
(قال) أسامةُ بنُ زيد: (قلتُ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسولَ الله! أتنزل غدًا) إذا قدمت مكّة، وذلك في حجّة الوداع، (في دارك بمكة؟). وفي رواية: أين تنزل غدًا (2)؟ في دارك بمكة؟ (قال)، وفي لفظ: فقال، بزيادة الفاء (3):(وهل ترك لنا عَقيلٌ) -بفتح العين المهملة وكسر القاف- ابنُ أبي طالب، القُرَشي، الهاشميُّ، هو أخو علي بن أبي طالب لأبيه وأمه، وكان أسنَّ من علي بعشر سنين، كنّاه النبي صلى الله عليه وسلم: أبا يزيد، ويزيدُ أحد بنيه، قدم عقيل البصرة، ثم أتى الكوفة، ثم الشّام، وكان قد شهد بدرًا مع المشركين مكرهًا، وأُسر، وفداه العبّاس، ثم أسلم قبل الحديبية، ومات بعدما أضر في أيام معاوية، ودفن بالبقيع، وقبره مشهور، وكان أعرفَ قريش بأنسابها، وكان فاضلًا ذكيًا، حاضر الجواب، وله في ذلك حكايات، وكان عارفًا بمثالب قريش، وكانت قريش تُبغضه لذلك، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قليلة (4). (من رباع) -بكسر الراء- جمع رَبعْ: المحلّة أو المنزل المشتمل على أبيات، أو الدار، وحينيذٍ فيكون قوله: "أو
(1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(445)، والحاكم في "المستدرك"(6529)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم.
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153).
(4)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 42)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 50)، و"الاستعاب" لابن عبد البر (3/ 1078)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (41/ 4)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 61)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 309)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 235)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 531)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 226).
دور" تأكيدًا، أو شكًا من الراوي، وجمعُ النكرة -وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري- تفيد العموم، للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة شيء، و (مِنْ) للتبعيض. قاله الكرماني.
وقيل: إنّ هذه الدار كانت لهاشم بن عبد مناف، ثم صارت لابنه عبد المطلب، فقسمها بين ولده، فمن ثَمَّ صار للنبي صلى الله عليه وسلم حقُّ أبيه عبد الله، وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الفاكهي.
وظاهر قوله: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ " أما كانت ملكه، فأضافها إلى نفسه، فيحتمل أنّ عقيلًا تصرّف فيها، كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين، ويحتمل غير ذلك.
وقد فسّر الراوي، ولعلّه أسامة رضي الله عنه المراد بما أدرجه هنا، حيث قال كما في "البخاري" (1): وكان عقيل ورث أباه أبا طالب، -واسمُه عبدُ مناف- هو وأخوه طالب المكنى به عبدُ مناف، ولم يرثه؛ أي: لم يرث أبا طالب الذي هو عبد مناف ابناه جعفر وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما لمّا مات أبوهما، كانا مسلمين، ولو كانا وارثين، لنزل عليه السلام في دورهما، وكانت كأنها ملكه، لعلمه بإيثارهما إيّاه على أنفسهما، وكان قد استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما، لكونهما كانا لم يسلما حين موت أبي طالب، وباعتبار تركِ النبي صلى الله عليه وسلم لحقّه منهما بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها.
وحكى الفاكهي أنّ الدار لم تزل بيد أولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمئة ألف دينار، كما في "القسطلاني"(2).
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1511)، وعند مسلم برقم (1351).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153 - 154).
وقال: الداودي وغيره: كان من هاجرَ من المؤمنين باع قريبُه الكافرُ دارهَ، فأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية، تأليفًا لقلوب من أسلمَ منهم (1).
تنبيه:
من متعلقات هذا الحديث مسألةُ رِباعِ مكة ودورها، وهل يجوز بيعُها أم لا، وفي ذلك خلاف مشهور للعلماء.
قال علماؤنا: لا يصحّ بيعُ رباع مكةَ، وهي المنازله، ودارُ الإقامة، ولا الحرم كله، وبقاع المناسك، وأولى، إذ هي كالمساجد، ولأنها فُتحت عنوة، ولا إجارةُ ذلك، فإن سكن بأجرة، لم يأثم بدفعها (2)، وهو مذهب ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم، فذهبوا إلى التسوية بين البادي والعاكف في منازل مكّة، وهو مذهب أبي حنيفة -أيضًا-، وبه قال محمّد بن الحسن، فليس المقيمُ بها أحقَّ بالمنزل من القادم عليها، واحتجّ لذلك بحديث علقمة بن نضلة عند ابن ماجة، قال: توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وما تدعى رباع مكّة إلا السوائب، من احتاج، سكن (3)، زاد البيهقي: من استغنى أسكن (4)، زاد الطحاوي بعد قوله: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم:
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 452).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 164).
(3)
رواه ابن ماجة (3107)، كتاب: المناسك، باب: أجر بيوت مكة.
(4)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 35)، وهذه الزيادة هي في لفظ ابن ماجة السالف ذكره.
ما تُباع ولا تُكرى (1)، لكنه منقطع؛ لأن علقمة ليس بصحابي.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر قال: يا أهل مكة! لا تتخذوا لدوركم أبوابًا، لينزل البادي حيث شاء (2).
وروى عمرو بنُ شعيب عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة: "لا تُباع رباعها، ولا تكرى بيوتها" رواه الأثرم (3).
وروى سعيد بنُ منصور عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: "مكة حرام بيعُ رباعها، حرامٌ إجارتُها"(4)، وأجاب من أجاز البيع والإجارة بأن المراد: كراهة الكراء، رفقًا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء (5)، والله أعلم.
(ثم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه كما في "مسند الإمام أحمد"(6)، و"الصحيحين"، و"سنن أبي داود"، و"الترمذي"(7)، وغيرهم:(لا يرث الكافرُ المسلمَ، ولا) يرث (المسلمُ الكافرَ) لانقطاع الموالاة بينهما، ومن "تراجم البخاري" على هذا الحديث باب:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، وإن أسلم قبل أن يقسم الميراث، فلا ميراث له"(8)، انتهى.
(1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 49).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(9211).
(3)
ذكره ابن قدامة في "المغني"(4/ 177).
(4)
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14679).
(5)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153).
(6)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 200).
(7)
تقدم تخريجه عندهم.
(8)
انظر: "صحيح البخاري"(6/ 2484).
قال الإمام محمد بن شهاب الزهري: وكانوا؛ أي: السلفُ يتأولون قول الله -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] الآية (1). فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نُسخ ذلك بقوله -تعالى-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (2)[الأحزاب: 6]،
وأما مع اختلاف الدين، فلا توارث، وإن أسلم قريبُ الميتِ المسلمِ قبل قسم التركة عند الجمهور؛ لأن الاعتبار بوقت انتقال التركة، وهو زهوق روح الميّت، لا وقت القسمة عند الجمهور، فلا يرث المسلم الكافر، وقيل: يرثه، لخبر:"الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"(3)، وأجاب الجمهور عن الخبر بأن معناه: فضل الإسلام، ولا تعرض فيه للإرث، فلا يترك النص الصريح لذلك (4).
واعلم أنّ عدم إرث الكافر للمسلم مجمَعٌ عليه، وأما عكسه فعند الجمهور خلافًا لمعاذ بن جبل ومعاوية ومن وافقهما، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال في "الفروع": وورَّثَ شيخُنا المسلمَ من الذميّ، لئلا يمتنع قريبه من الإسلام، ولوجوب نصرهم، ولا ينصروننا، ولا مولاة لمن آمن ولم
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1511).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 154).
(3)
رواه الروياني في "مسنده"(7836)، والدارقطني في "سننه"(3/ 252)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 205)، والديلمي في "مسند الفردوس"(395)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(8/ 240)، عن عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه.
(4)
انظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1244 - 1245).
يهاجر بنصرة، ولا ولاءَ له، للآية، فهؤلاء لا ينصروننا، ولا هم بدارنا لننصرهم دائمًا فلم يكونوا يرثون، ولا يورثون، والإرث كالعقل، وقد بيّن في قوله -تعالى-:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأحزاب: 6] في الأحزاب: أنّ القريب المشارك في الإيمان والهجرة أولى ممن ليس بقرابة، وإن كان مؤمنًا مهاجرًا، ولما فُتحت مكة، توارثوا.
وقال في "الردّ على الزنادقة": إن الله حكم على المؤمنين لمّا هاجروا ألَّا يتوارثوا إلّا بالهجرة، فلما أكثر المهاجرون، ردّ الله الميراث على الأولياء، هاجروا أو لم يهاجرواه.
وفي "عيون المسائل": كان التوارث في الجاهلية، ثم في صدر الإسلام بالحلف والنصرة، ثم نُسخ إلى الإسلام والهجرة بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة مع وجود النسب، ثمّ نُسخ بالرحم والقرابة، فهذا نُسخ مرّتين، كذا رواه عكرمة، انتهى كلام "الفروع"(1).
تنبيهان:
الأوّل: معتمد المذهب: أنه لو أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم، ورثه، نقله الأثرم محمد بن الحكم، واختاره الشريف،
وأبو الخطاب في "خلافيهما".
قال في "الإنصاف": هذا المذهب، جزم به في "الوجيز"، وغيره.
قال في "الرعايتين": هذا المذهب (2).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 35).
(2)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 349).
قال الزركشي: هذا المشهور (1). انتهى.
وسواء كان الوارث كافرًا أصليًا، أو مرتدًّا، أو زوجة، بشرط إسلامها قبل قسمة التركة، وقبل انقضاء عدّتها، لا إن أسلم زوج بأن تسلم المرأة أولًا، ثم تموت في مدّة العدّة، لم يرثها زوجها الكافر، ولو أسلم قبل القسمة، لانقطاع علق الزوجية منه بموتها، قاله في "القواعد"(2).
وهذا يعني: كونَ الوارث إذا أسلم بعد موت مورثه، وقبل قسمة التركة، يرثه، مرويًا نحوه عن عمر، وعثمان، والحسن بن علي، وابن مسعود، وبه قال جابر بن زيد، والحسن، ومكحول، وقتادة، وحميد، وإياس بن معاوية، وإسحاق بن راهويه، وسنده قوله صلى الله عليه وسلم:"من أسلم على شيء، فهو له" رواه سعيد في "سننه"(3).
وروى أبو داود وابن ماجة بإسناديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلّ قسم قسم في الجاهلية، فهو على ما قسم، وكلّ قسم أدركه الإسلام، فإنه على قسم الإسلام"(4).
وروى ابن عبد البر بإسناده عن [يزيد](5) بن قتادة العنبري: أنّ إنسانًا من أهله مات على غير دين الإسلام، فورثته أختي دوني، وكانت على دينه، ثمّ إنّ جدّي أسلم، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينًا، فتوفي، فلبثت سنة،
(1) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي"(4/ 535).
(2)
وانظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (4/ 637 - 638).
(3)
رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 97) من طريق عروة بن الزبير وابن أبي مليكة.
(4)
رواه أبو داود (2914)، كتاب: الفرائض، باب: فيمن أسلم على ميراث، وابن ماجة (2485)، كتاب: الرهون، باب: قسمة الماء.
(5)
في الأصل: "زيد"، والصواب ما أثبت.
وكان ترك ميراثًا، ثمّ إنّ أختي أسلمت، فخاصمتني في الميراث إلى عثمان رضي الله عنه، فحدّثه عبدُ الله بن أرقم: أن عمر قضى: أنّ من أسلم على ميراث قبل أن يُقسم، فله نصيبه، فقضى به عثمان، فذهبت بذلك الأول، وشاركتني في هذا (1)، وهذه قضية انتشرت ولم تُنكر، فكان الحكم فيها كالمجمعَ عليه (2)، والحكمة في ذلك الترغيبُ في الإسلام، والحثُّ
عليه، فلو قسم بعض الميراث، فأسلم قبل قسم بقيته، ورث فيما لم يُقسم، وإن كان الوارث واحدًا، فإذا تصرّف في التركة، واحتازها، كان ذلك بمنزلة قسمتها (3).
وعن الإمام أحمد فيمن أسلم بعد الموت، ولو قبل قسم التركة: لا يرث، صححها جماعة، كقنّ عتق قبل قسمة، على الأصح، قاله في "الفروع"(4).
قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب فيمن أسلم بعد الموت: لا يرث، قد وجبت المواريث لأهلها.
وروي عن علي، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والزهري، والنخعي، وهو مذهب الثلاثة (5)، والله أعلم.
الثاني: معتمد المذهب: يرث المسلم الكافر بالولاء كعكسه، لما روى جابر: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم النصراني، إلّا أن يكون
(1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 56 - 57).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 249).
(3)
انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (4/ 637 - 638).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 35).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 249).
عبدَه أو أمته" رواه الدارقطني (1)، ولأنّ ولاءه له بالإجماع، وهو شعبة من الرق، فورثه كما يرثه قبل العتق (2)، وعنه: لا إرث بالولاء مع المخالفة للدين، وهو مذهب الثلاثة (3).
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 74)، وكذا النسائي في "السنن الكبرى"(6389)، والحاكم في "المستدرك"(8007)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 218).
(2)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 476).
(3)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 105 - 106).