المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب اللقطة قال في "المطلع": اللُّقَطَة: اسمٌ لما يُلقط، وفيها أربع - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٥

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب اللقطة

- ‌باب الوصايا

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الفرائض

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كتاب النكاح

- ‌الحديث الأول

- ‌بَابِ

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب الصداق

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب العدة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كتاب اللعان

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌كتاب الرضاع

- ‌الحديث الأول

الفصل: ‌ ‌باب اللقطة قال في "المطلع": اللُّقَطَة: اسمٌ لما يُلقط، وفيها أربع

‌باب اللقطة

قال في "المطلع": اللُّقَطَة: اسمٌ لما يُلقط، وفيها أربع لغات نظمها ابنُ مالك في قوله:[من الرجز]

لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ

وَلَقْطَةٌ مَا لاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ

فالثلاث الأُول: بضم اللام، والرابع: بفتح اللام [تسكين] والقاف.

وروي عن الخليل: اللُّقَطة -بضم اللام وفتح القاف-: الكثيرُ الالتقاط، و -بسكون القاف-: ما يُلتَقط (1).

قال أبو منصور: وهو قياس اللغة؛ لأن فُعَلَة -بفتح العين- أكثر ما جاء فاعل (2)، وبسكونها مفعول، كضُحَكَة: للكثير الضحك، وضُحْكة: لمن تضحك منه (3)، انتهى.

وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو ما أشير إليه بقوله:

(1) انظر: "العين" للخليل (5/ 100).

(2)

انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" لأبي منصور الأزهري (ص: 264).

(3)

انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 282).

ص: 128

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، الذَّهَبِ أَوِ الوَرِقِ؟ فَقَالَ:"اعْرِفْ وِكَاءَها وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتكُنْ عِنْدَكَ وَدِيعَةً، فَإنْ جَاءَ إِلَيْهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إِلَيْهِ"، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِل، فَقَالَ:"مَالَكَ وَلَهَا؟! دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذاءَهَا وَسِقَاءَها، تَرِدُ المَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حتَّى يَجِدَهَا رَبُّها"، وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ، فَقَالَ:"خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ"(1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (91)، كتاب: العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، و (2243) كتاب: المساقاة، باب: شرب الناس والدواب من الأنهار، و (2295)، كتاب: في اللقطة، باب: ضالة الإبل، و (2296)، باب: ضالة الغنم، و (2297)، باب: إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لين وجدها، و (2304)، باب: إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه لأنها وديعة عنده، و (2306)، باب: من عَرَّف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان، و (4986)، كتاب: الطلاق، باب: حكم المفقود في أهله وماله، و (5761)، كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، ومسلم (1722/ 5)، واللفظ له، و (1722/ 81)، في أول كتاب: اللقطة، وأبو داود (1704 - 1707)، في أول كتاب: اللقطة، والترمذي (1372 - 1373)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم، وابن ماجة (2507)، كتاب: اللقطة، باب: اللقطة.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 243)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 135)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 5)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 20)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 239)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1217)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 257)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 78)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 157)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 242)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 94)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 89).

ص: 129

(عن) أبي عبد الرحمن (زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ) الصحابي (رضي الله عنه)، والجُهَني -بضم الجيم وفتح الهاء- نسبة إلى جُهينةَ بنِ زيدِ بنِ ليثِ بنِ سُود -بضم السين المهملة- بن أسلُم -بضم اللام- ابنِ الحافِ بنِ قضاعةَ.

وكان زيد حامل لِواء جهينة يومَ الفتح، توفي بالمدينة كما قال النووي، وقيل: في الكوفة سنة ثمان وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين، ويقال: مات في آخر خلافة معاوية، وهو ابن خمسٍ وثمانين سنة.

رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ وثمانون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة (1).

(قال) زيدُ بنُ خالدٍ المذكورُ: (سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم).

قال البرماوي: قال الضيعي شارح "العمدة": إنّ هذا السائل هو بلالُ بنُ رباحٍ مؤذِّنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نظر فيه البرماوي بما في بعض روايات البخاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عمّا يلتقطه، الحديث، وبلال لا يقال فيه: جاء أعرابي، انتهى.

وقال غيره: زعم ابن بشكوال أنَّ هذا السائل هو بلال، وعزاه لأبي داود (2).

(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 344)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 562)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 139)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 549)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 355)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 199)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 63)، و"الإصابة في تمييز الصّحابة" لابن حجر (3/ 602)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 354).

(2)

انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 841 - 842).

ص: 130

وردّ عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح" بأنه ليس في نسخ أبي داود شيء من ذلك، قال: وفيه بُعد أيضًا؛ لأنه لا يوصف بأنه أعرابي، ثم قال: فإن أبا داود روى هذا الحديث بطرقٍ كثيرةٍ، وليس فيه ما عزاه ابن بشكوال إليه، وإنما لفظه: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة، وليس لبلال ذكر أصلًا.

ثمّ قال: الحافظ: ثم ظفرتُ بتسمية السائل، وذلك فيما أخرجه الحُميدي، والبغوي، وابن السَّكن، والباوردي، والطبراني، كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري، عن ربيعة، عن عقبة بن سويد الجهني، عن أبيه، قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال:"عرفها سنة، ثم أوثق وعاءها"، الحديث (1)، قال: وهو أَولى ما فسرّ به هذا المبهم، لكونه من رهط زيد بن خالد الجهني (2)، وتعقبه البدر العيني بما لا طائل تحته (3).

(عن اللقطة الذهب أو الورق) متعلق بسُئل، وتقدم أنّ الورق المراد به: الفضة، وهو -بكسر الراء وقد تسكن-، وفي حديث عرفجة لمّا قطع أنفه اتخذ أنفًا من وَرِقٍ، فأنتن، فاتّخذ أنفًا من ذهب (4)، وقد حكى القتيبي عن

(1) رواه الطَّبرانيُّ في "المعجم الكبير"(4/ 168 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والبغوي في "معجم الصحابة"(1/ 291).

وقد روى أبو داود (1708)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 362) طرفًا منه.

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 80 - 81).

(3)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 269).

(4)

رواه أبو داود (4232)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في ربط الأسنان بالذهب، والنسائي (5161)، كتاب: الزينة، باب: من أصيب أنفه هل يتخذ أنفًا من ذهب، والترمذي (1770)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في شد الأسنان بالذهب.

ص: 131

الأصمعي: أنّه إنّما اتّخذ أنفًا من وَرَق -بفتح الراء- أراد: الورق الذي يُكتب فيه، قال: لأنّ الفضة لا تنتن، قال القتيبي: وكنت أحسب أن قول الأصمعي: إنّ الفضة لا تنتن صحيحٌ حتى أخبرني بعض أهل الخبرة أن الذهب لا يُبليه الثرى، ولا يصدئه الندى، ولا تنقصه الأرض، ولا تأكله النار، فأمّا الفضة، فإنها تبلى، وتصدأ، ويعلوها السواد، وتنتن (1). ثم إن الذهب والفضة في الحديث ليس بقيد، بل هو كالمثال، فإنَّ حكمَ غيرهما كحكمِهما، وقد وقع في رواية لأبي داود: سُئل عن النفقة (2)، (فقال) صلى الله عليه وسلم للسائل:(اعرفْ وِكاءَها) -بكسر الواو وبالمد-، وهو الخيطُ الذي يُشد به رأس الكيس أو الصرّة أو غيرهما، يقال: أوكيته إيكاء، فهو مُوكًى -بلا همز- (3).

زاد في حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه عندهما: قال: أخذتُ مرّة مئة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث، وفيه: فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها"(4)، فالوعاء -بكسر الواو، وقد تُضم، وبالمد-، وقرأ الحسن بالضم من قوله تعالى:{وِعَاءِ أَخِيهِ} (5)[يوسف: 76]، وقرأ سعيد بن

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 174).

(2)

كذا في الأصل: "النفقة"، وهكذا هي الكلمة في "عمدة القاري" للعيني (12/ 269) الذي نقل عنه الشارح رحمه الله، والذي في "سنن أبي داود": سئل عن اللقطة.

(3)

انظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 405)، (مادة: وكي). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 266)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.

(4)

رواه البخاري (2294)، كتاب: اللقطة، باب: وإذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه، ومسلم (1723)، في أوائل كتاب: اللقطة.

(5)

انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 266). وانظر: "معجم القراءات القرآنية"(3/ 184).

ص: 132

جبير: {إعاء أخيه} بقلب الواو همزة مكسورة (1)، والوعاء: ما يُجعل فيه الشيء، سواء كان من جلد، أو خِرَق، أو خشب، أو غير ذلك، ويقال: الوعاء: هو الذي تكون فيه النفقة، وقال ابن القاسم: هو الخرقة (2).

وقال في "المطلع": ما يجعل فيه المتاع (3).

(وعِفاصها) -بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء، وبالصاد المهملة-.

قال في "شرح المقنع": العِفاص: الوعاء الذي هي فيه من خرقة أو قرطاس أو غيرهما، قاله أبو عبيد (4)، قال: والأصل في العفاص أنه الجلد الذي يلبسه رأس القارورة (5).

وقال البدر العيني: العِفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة، سواء كان من جلدٍ، أو خرقة، أو حرير، أو غيرهما، واشتقاقه من العفص، وهو الثني والعطف؛ لأن الوعاء يُثنى على ما فيه (6).

ووقع في "زوائد المسند" للإمام عبد الله بن الإمام أحمد، عن طريق الأعمش، عن سَلَمة من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه:"وخرقتها"(7) بدل "عفاصها".

والحاصل: أنّ تفسير العفاص بالوعاء أصح وأثبت، وهو الذي تدل عليه الأحاديث.

(1) انظر: "معجم القراءات القرآنية"(3/ 184).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 266).

(3)

انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 283).

(4)

انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 201).

(5)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 318).

(6)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 269).

(7)

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائد المسند"(5/ 127).

ص: 133

(ثم) بعد معرفة ما ذكر (عرفها سنةً) نهارًا متواليًا، ويكون بعد أخذها على الفور بالنداء عليها بنفسه، أو نائبه، في مجامع للناس، كالأسواق، والجماعات، وأبواب المساجد، أدبار الصلوات، ويُكره في المساجد، ويُكثر منه في موضع وجدانها، وفي الوقت الذي يلي التقاطها حولًا كاملًا نهارًا كلّ يوم مرّة أسبوعًا، ثمّ مرّة من كل أسبوع من شهر، ثم مرّة في كل شهر، ولا يصفها، بل يقول: من ضاع منه شيء أو نفقة؟ (1)

وكون التعريف حَوْلًا هو ما رُوي عن عمر، وعلي، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وبه قال ابن المسيب، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.

وقيل: بل يعرفها ثلاثة أعوام؛ لأن أُبي بن كعب عرفها ثلاثة أعوام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (2).

والجواب عنه: أن الراوي قال: لا أدري، ثلاثة أعوام، أو عام واحد؟ قال أبو داود: شك الراوي في ذلك (3).

وقال ابن بطال: لم يقل أحد من أئمة الفتوى بظاهره بأن اللقطة تعرّف ثلاثة أحوال (4)، (فإن لم تُعرَف) اللقطة -بضم التاء المثناة فوق، مبنيًا لما لم يسم فاعله-؛ أي: إن لم يعرفها أحد (فاستنفِقْها) استفعالٌ من الإنفاق، وباب الاستفعال للطلب، لكن الطلب على قسمين: صريح، وتقديري،

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 45 - 46).

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 343).

(3)

انظر: "سنن أبي داود"(2/ 134).

(4)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 267).

ص: 134

والمراد هنا: الطلب التقديري، كذا قال العيني (1).

قلتُ: المراد بالأمر هنا: الإباحة.

قال علماؤنا ومن وافقهم: وإذا عرّفها فلم تُعرف، دخلت في ملكه بعد الحول حكمًا، كالميراث، ولو عروضًا، كأثمان، ولو لقطة الحرم، أو كان سقوطها من صاحبها بعُدْوان غيره.

قالوا: لا يجوز التصرف فيها حتى يعرف وعاءها، وهو ظرفُها، كيسًا كان أو غيره، ووكاءها، وهو الخيط الذي تُشد به، وعِفاصَها، وهو الشد والعقد؛ أي: صفتهما وقدرهما، وجنسها، وصفتها؛ أي: يجب معرفة ذلك عند إرادة التصرف فيها، ويسن ذلك عند وجدانها، وإشهاد عدلين عليها، لا على صفتها، فمتى جاء طالبها، فوصفها، لزم دفعُها إليه إن كانت عنده، ولو بلا بينة ولا يمين، ظن صدقه، أو لا، فإن وجدها قد خرجت عن الملتقِط ببيعٍ أو بغيره بعد ملكها، فلا رجوع، وله بدُلها، فإن أدركها مبيعةً بيعَ خيار للبائُع، أولهما في زمنه، وجب الفسخ، أو مرهونةً، وجب انتزاعها، ويأخذها ربُّها بنمائها المتصلِ، فأما المنفصلُ قبل مضي الحول، فلمالكها، وبعدَه لواجدها.

ووارثُ ملتقِطٍ كهو في تعريف وغيره.

وإن تلفت أو نقصت أو ضاعت قبل مضي الحول، لم يضمنها بلا تفريط؛ لأنها في يده أمانة، وبعده يضمنها -وإن لم يفرّط- بمثل مثلية، وقيمة متقومة (2).

(1) المرجع السابق، (12/ 269).

(2)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 46 - 48).

ص: 135

قال في "الإقناع": وإن كان لا يرجى وجود صاحب اللقطة، لم يجب تعريفها في أحد القولين (1)، نظرًا إلى أنه كالعبث.

وظاهر كلام "التنقيح"(2)، و"المنتهى"(3)، وغيرهما: يجب، وكذا قال مالك والشافعي: تُملك جميع اللقطات بعد حول التعريف، سواء كان غنيًا، أو فقيرًا، وسواء كانت اللقطة أثمانًا، أو عروضًا.

وقال مالك: هو بالخيار من أن يتركها في يده أمانة، وإن تلفت، فلا ضمان عليه، وبين أن يتصدّق بها بشرط الضمان، وتصير دينًا في ذمته.

وقال: أبو حنيفة: لا يملك شيئًا الملتقط من اللقطات، قال: ولا يُنتفع بها إذا كان الملتقط غنيًا، فإن كان فقيرًا، جاز له الانتفاع بها بشرط الضمان، فأمّا الغني، فإنه يتصدق بها بشرط الضمان (4).

وشرط كون الفقير من غير ذوي القربى، واستدل بما روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد لقطة، فليُشهد عليها ذَوَي عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن وجد صاحبها، فليردّها عليه، وإلّا، فهي مال الله يؤتيه من يشاء"(5)، قالوا: وما يضاف إلى الله تعالى إنما يتملكه من يستحق الصدقة.

(1) المرجع السابق، (3/ 46).

(2)

انظر: "التنقيح" للمرداوي (ص: 246).

(3)

انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 301).

(4)

انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 63 - 64).

(5)

رواه أبو داود (1709)، كتاب: اللقطة، والنسائي في "السنن الكبرى"(5808)، وابن ماجة (2505)، كتاب: اللقطة، باب: اللقطة.

ص: 136

ونقل حنبل عن الإمام أحمد مثلَ هذا، وأنكره الخلال، وقال: ليس هذا مذهبًا لأحمد (1).

(ولتكن) اللقطةُ بعد حول التعريف (عندَك) أيها الملتقِط لها (وديعةً) بعد استنفاقك لها، وتسميتُها حينيذٍ بذلك مجاز، فإنها تدل على الأعيان، وإذا استنفق اللقطة، لم تكن عينًا، فتجوز بلفظ الوديعة عن كون الشيء بحيث يُرد إذا جاء ربه (2)، وقد شك يحيى بن سعيد الأنصاري في قوله:"ولتكن عندك وديعة"، وفي لفظ:"وكانت وديعة عنده"(3)؛ أي: الملتقط، هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو لا؟ ثمّ جزم يحيى بأنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار البخاري إلى ثبوتها من حديثه صلى الله عليه وسلم مترجمًا بقوله:"إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة، ردّها عليه؛ لأنها وديعة عنده"(4)، (فإن جاء إليها)؛ أي: اللقطة، وفي لفظ:"فإن جاء ربُّها"(5)، وفي آخر:"فإن جاء صاحبها"(6)، وفي آخر:"فإن جاء من يُعرّفها"(7)(يومًا من الدهر)؛ أي: يومًا من أيام الزمان، سواء كان قبل مضي حول التعريف، أو بعده،

(1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 349).

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 241).

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2296).

(4)

انظر: "صحيح البخاري"(2/ 858). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 271).

(5)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (91، 2304، 5761)، ومسلم برقم (1722/ 2).

(6)

تقدّم تخريجه عند البخاري برقم (2243، 2297)، ومسلم برقم (1722/ 2، 6 - 7).

(7)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4986).

ص: 137

(فأدّها)؛ أي: اللقطة (إليه) حيث تبين كونه صاحبَها بوصفه لأماراتها التي عرفها الملتقط.

قال ابن بطال: إذا جاء صاحب اللقطة بعد الحول، لزم ملتقطَها أن يردها إليه، وعلى هذا إجماع أئمة الفتوى.

قال: وزعم بعض من نسب نفسه إلى العلم: أما لا تؤدَّى إليه بعد الحول، استدلالًا بقوله عليه الصلاة والسلام:"فشأنك بها"، قال: فهذا يدل على ملكها.

قال: وهذا القول يؤدي إلى تناقض السنن، إذ قال:"فأدّها إليه"(1).

والمراد: أنه إذا استنفقها، أو تلفت عنده بعد دخولها في ملكه، فإنه يضمنها لصاحبها إذا جاء، ويدل عليه ما في رواية بسر بن سعيد عن زيد بن خالد رضي الله عنه:"فإن جاء صاحبها. . . إلخ" بعد قوله: "كلها"(2) يقتضي وجوب ردّها بعد أكلها، فيحمل على ردّ البدل، وفي لفظ:"فإذا جاء صاحبها، فأدّه"، فأمره عليه السلام بأدائها بعد الهلاك، لدخولها في ملكه، وأما قبل حول التعريف، فلا يضمنها إن هلكت من غير تعدٍّ ولا تفريط؛ لأنها أمانة كالوديعة (3).

وفيه دليل على التقاطها، ووجوب نيّة الرّد على المالك إذا تبين كونه صاحبها (4).

واختلف الفقهاء هل يتوقف وجوب ردّ اللقطة على من جاء، فزعم أنه

(1) نقله العيني في "عمدة القاري"(12/ 272).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 272).

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 241 - 242).

ص: 138

ربّها، على إقامة بينة؟ أو يكتفى بوصفه لأمارتها؟ (1)

فمعتمد مذهب الإمام أحمد: أنه إذا وصفها بصفاتها المذكورة، دفعها إليه، سواء غلب على ظنه صدقُه، أو لم يغلب، وبهذا قال مالك.

وقال الشافعي: لا يجبر على ذلك إلّا ببيّنة، ويجوز له دفعها إليه إذا غلب على ظنه صدقه.

وقال أصحاب الرأي: إن شاء دفعها إليه، وأخذ كفيلًا بذلك.

ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فادفعها إليه"(2).

قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه أقول.

وفي حديث أبي بن كعب، وهو في "الصحيحين" زيادة لمسلم:"فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فأعطها إياه"(3)، والأحاديث في مثل ذلك متعددة، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم البيّنة في شيء منها، ولو كانت شرطًا للدفع، لم يجز الإخلال به، والأمر بالدفع بدونه، ولأن إقامة البيّنة على اللقطة يتعذّر؛ لأنها إنما تسقط بحال الغفلة والسهو، فتوقفُ دفعِها إلى البيّنة منعٌ لوصولها إلى صاحبها أبدًا، وبه يفوت مقصود الالتقاط، ويفضي إلى تضييع أموال الناس، وما هذا سبيله يسقط اعتبار البيّنة فيه، كالإنفاق على اليتيم، ويلزم القائلَ بهذا أَلَّا يحيى الالتقاط؛ لأنه يكون حينيذٍ تضييعًا لمال المسلم يقينًا، وإتعابًا لنفسه بالتعريف الذي لا يفيد، والمخاطرة بدِينه

(1) المرجع السابق (3/ 242).

(2)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1723) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 139

بتركه الواجب من تعريفها، وما هذا سبيله يجب أن يكون حرامًا، فكيف يكون مباحًا، فضلًا عن كونه فاضلًا؟

وتعلل القائلون بالبيّنة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "البيّنة على المدّعي"(1)، وهذا مدّعي.

قلنا: أجل، ولكن جعل صلى الله عليه وسلم بيّنةَ اللقطة وصفَها، فإذا وصفها، فقد أقام بيّنته، فإنّ البيّنة تختلف، فإن وصفها اثنان، أقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة، حلف أما له، وسُلّمت إليه، وهكذا إن أقاما بيِّنتين.

وقال أبو الخطّاب: فيما إذا وصفها اثنان، تقسم بينهما؛ لأنهما تساويا فيما يستحقانه تساويًا فيها كما لو كانت في أيديهما.

والمذهب: الأول، وإن وصفها اثنان، فأقام آخر بيّنة أما له، فهي لصاحب البيّنة؛ لأنها أقوى من الوصف.

فإذا كان الواصف قد أخذها، انتُزعت منه، ورُدّت إلى صاحب البيِّنة؛ لأنا تبيّنا أما له، فإن كانت قد هلكت، فلصاحبها تضمين من شاء من الواصف والدافع إليه، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي.

وقيل: لا يلزم الملتقطَ شيء، وهو قول أبي القاسم صاحب الإمام مالك، وأبي عبيد (2).

قال زيد بن خالد الجهني: (وسأله)؛ أي: سأل السائل المتقدم ذكره النبيَّ صلى الله عليه وسلم (عن ضالة الإبل)؛ أي: عن حكم التقاطها، يعني: هل يجوزُ التقاطها أم لا؟ ومثلُ الإبل كلُّ حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع،

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 356 - 357، 363).

ص: 140

ويقدر على ورود الماء، (فقال) له صلى الله عليه وسلم:(مالكَ ولها؟) يعني: ليس لك هذا، ويدل عليه ما في الرِواية الأخرى:"فذرها حتى يلقاها ربّها"(1)(دعها) عنك، ولا تعرض لها، (فإن معها) ضالة الإبل، والفاء لتعليل القول (حِذاءها) -بكسر الحاء المهملة وبالذال المعجمة، ممدودًا-؛ أي: خُفَّها، (وسقاءها) -بكسر السين المهملة-، وهو في الأصل ظرف الماء من الجلد، والمراد هنا جوفها، وذلك لأنها إذا شربت يومًا، فإنها تصبر أيامًا على العطش، وقيل: المراد: عنقها؛ لأنها تتناول المآكيل بغير تعب، لطول عنقها، فلا تحتاج إلى ملتقط (2).

قال في "شرح المقنع": كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع، وورود الماء لا يجوز التقاطه، ولا التعرض له، سواء كان لكبر جثته، كالإبل والخيل والبقر، أو لطيرانه، كالطيور كلّها، أو لسرعته، كالظباء والصيود، أو بنابه، كالكلاب والفهود (3).

وقال الحافظ ابن الجوزي: الخيل والإبل والبقر والبغال والحمر والظباء لا يجوز عندنا التقاطها، إلا أن يأخذها الإمام للحفظ (4).

قال في "شرح المقنع": قال عمر رضي الله عنه: من أخذ ضالة، فهو ضال؛ أي: مخطىء، وبهذا قال الشافعي، والأوزاعي، وأبو عبيد.

وقال مالك، والليث في ضالَّة الإبل: من وجدها في القرى، عرفها،

(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (91).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 83)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 270).

(3)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 321).

(4)

انظر: "المذهب الأحمد" لابن الجوزي (ص: 109). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 270)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.

ص: 141

ومن وجدها في الصحراء، لا يقربها، ورواه المزني عن الشافعي، وكان الزهري يقول: من وجد بدنة، فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها، [فلينحرها](1).

وقال أبو حنيفة: هي لقطة يباح التقاطها؛ لأنها لقطة أشبهت الغنم (2).

قال البدر العيني في "شرح البخاري": واختلف العلماء في ضالة الإبل هل تؤخذ؟ على قولين:

أحدهما: لا يأخذها، ولا يعرفها، قاله مالك، والأوزاعي، والشافعي، لنهيه عليه السلام عن ضالة الإبل.

الثاني: أخذها وتعريفها أفضل، قاله الكوفيون؛ لأن تركها سبب لضياعها.

وفيه قولٌ ثالث: إن وجدها في القرى، عرّفها، وفي الصحراء لا يعرّفها (3)؛ أي: ولا يأخذها.

قال في "شرح المقنع": قد قال صلى الله عليه وسلم لمّا سُئل عن هوامي الإبل: "ضالّة المسلم حرق النار" رواه النسائي، وابن ماجة (4)، وروي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: أنه أمر بطرد بقرةٍ لحقت ببقرهِ حتى توارت،

(1) في الأصل: "فليخبر بها"، والمثبت في المطبوع من "المغني" لابن قدامة (6/ 31)، و"شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 321).

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 321).

(3)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 270).

(4)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(5790)، وابن ماجة (2502)، كتاب: اللقطة، باب: ضالة الإبل والبقر والغنم، عن عبد الله بن الشخير.

ص: 142

وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يأوي الضالة إلّا ضال" رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجة (1).

قلت: وفي "صحيح مسلم" من حديث زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من آوى ضالّة، فهو ضال ما لم يعرّفها"(2).

ولا يخفى أنّ حديث "الباب" كغيره من الأحاديث صرّحت بعدم التقاط ضالة الإبل، فقياسهم يعارضه صريحُ النّص، وكيف يجوز تركُ نصّ النبي صلى الله عليه وسلم وصريحُ قوله بقياس نصّه في موضع آخر، على أنّ الإبل تفارق الغنم، لضعفها، وقلة صبرها عن الماء، قاله في "شرح المقنع"(3).

وقد نصّ الإمام أحمد على أنّ البقر كالإبل، وهو قول الشافعي، وأبي عبيد.

وحكي عن مالك: أنّ البقرة كالشاة.

وقال ابن القاسم صاحب مالك: هي ملحقة بالإبل (4).

قال في "شرح المقنع": ألحقَ أصحابنا بما لا يجوز التقاطُه الحمرَ؛ لأنّ لها أجسامًا عظيمة، فأشبهت البغال والخيل؛ لأنها من الدواب، فأشبهت البغال، قال: والأولى إلحاقها بالشاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإبل بأن معها

(1) رواه أبو داود (1720)، كتاب: اللقطة، والنسائي في "السنن الكبرى"(5799)، وابن ماجة (2503)، كتاب: اللقطة، باب: ضالة الإبل والبقر والغنم. وانظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 321 - 322).

(2)

رواه مسلم (1725/ 12)، كتاب: اللقطة، باب: في لقطة الحاج.

(3)

انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 322).

(4)

انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 64 - 65)، و"شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 322).

ص: 143

حذاءها وسقاءها يريد: شدّةَ صبرها عن الماء، لكثرة ما توعي في بطونها منه، وقوتها على وروده، والحمرُ مساوية للشاةِ في علتها، فإنها لا تمتنع من الذئب، وتفارق الإبل في علّتها، فإنها لا صبر لها عن الماء، ولهذا يضرب المثل لقلّة صبرها عنه، فيقال: ما بقي من مدّته إلا ظِمْءُ حمار. وإلحاقُ الشيء بما ساواه في علّة الحكم، ولو فارقه في الصورة، أولى من إلحاقه بما يقاربه في الصورة، وفارقه في العلّة (1).

وهذا اختيار الإمام الموفق كما نبَّه عليه في "الإقناع"(2)، و"الفروع"(3).

وقد بيّن صلى الله عليه وسلم علّة عدم جواز التقاط الإبل بقوله: (ترد) الإبلُ الضالّةُ (الماء) بنفسها، يعني: ترد مناهل الماء غير مبالية من السباع، لعظم جثتها، ونفور صغار السباع منها، (وتأكل الشجر)؛ أي: تأكل من أوراق الشجر وأغصانه ما يكفيها ويقوم بها، ولا تزال كذلك (حتى)؛ أي: إلى أن (يجدها ربها)؛ أي: مالكُها.

فيه: دليل على جواز أن يقال لمالك السلعة: ربّ السلعة، والأحاديث بذلك متضافرة، والأخبار به متظاهرة، إلّا أنّه قد نهى عن ذلك في العبد والأمة في الحديث الصحيح، فقال:"لا يقلْ أحدُكم: ربّي"(4).

وقد اختلف العلماء في ذلك، فكرهه بعضهم مطلقًا، وأجازه بعضهم

(1) انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 322).

(2)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 41 - 42).

(3)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 428).

(4)

رواه مسلم (2249)، كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 144

مطلقًا، وفرق قوم في ذلك بين ما له روحٌ، وما لا روح له، فكره أن يقال: ربّ الحيوان، ولم يكره ذلك في الأمتعة.

وصوّب البدر العيني تقييد الكراهة أو التحريم بجنس المملوك من الآدميين، فأما غير الآدمي، فقد ورد في عدّة أحاديث (1)، والله أعلم.

(وسأله) صلى الله عليه وسلم (عن الشاة)، تقدَّمَ أنّ الشاة من الغنم، تذكر وتؤنّث، وفي لفظ: فضالّة الغنم؟ (2) أي: ما حكم ضالّة الغنم؟ (فقال) صلى الله عليه وسلم للسائل: (خذها) إذا وجدتها ضالّة، ثمّ علل ذلك بقوله:(فإنّما هي)؛ أي: الضالّة إذا وجدتها وأخذتها فهي (لك) إن أخذتها بشرط قصد تعريفها، فعرفتها، فلم تجد صاحبها (أو) هذه للتقسيمِ والتشريع (لأخيك) الذي هو مالكها، فإن وجدها عندك، وأراد به: الأخ في الدين، (أو الذئب)، يعني: إن تركتها ولم تأخذها لا أنت ولا غيرك، فهيْ طُعمة للذئب غالبًا؛ لأنها لا تحمي نفسها، وذكرُ الذئبِ مثالٌ، وليس بقيد، والمراد: جنسُ ما يأكل الشاة من السِّباع (3).

فإن قلت: في الحديث التصريح بالأمر بالأخذ، مع أنّ الأفضل عند إمامكم ترك الالتقاط.

قلت: هي مسألة خلاف بين الأئمة رضي الله عنهم:

قال إمامنا رضي الله عنه: الأفضل تركُ الالتقاط، وقد رُوي معنى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال جابر بن زيد،

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 271).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم.

(3)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 270).

ص: 145

والربيع بن خثيم، وعطاء، ومرّ شريح بدرهم، فلم يعرض له (1)، والأمرُ محمول على الإباحة كما قدّمنا في أول الحديث.

وقال في "شرح المقنع" معللًا لما اختاره الإمام أحمد: هو قول ابن عباس، وابن عمر، ولا نعرف لهما مخالفًا في الصحابة، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام، وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم، كولاية مال اليتيم.

قال: واختار أبو الخطاب: أنه إن وجدها بمضيعة، وأمن نفسه عليها، فالأفضل أخذُها، وهذا قول الشافعي، وحكي عنه قولٌ آخر: أنه يجب أخذها، لقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فإذا كان وليّه، وجب عليه حفظُ ماله.

وممن رأى أخذها: سعيدُ بن المسيب، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة.

وأخذها من الصحابة رضي الله عنهم: أبي بن كعب، وسويد بن علقمة.

وقال مالك: إن كان شيئًا له بالٌ وخطر يأخذه أحبُّ إليَّ من تركه، حفظًا على صاحبه، ويعرّفه؛ لأن فيه حفظَ مال المسلم عليه، فكان أولى من تضييعه، كتخليصه من الغرق (2).

وإن كان شيئًا يسيرًا من الدراهم، أو يسيرًا من المأكول، فهذا لا فائدة في أخذه، وإن أخذه، جاز.

(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(18625).

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 330).

ص: 146

ومن حجة القائلين بأن الترك أفضل: ما رواه الطحاوي عن الجارود رضي الله عنه، فإنه صحابي، واسمه بشر بن معلى العبدي، ولقب بالجارود؛ لأنه أغار في الجاهلية على بكر بن وائل، فأصابهم، وجرّدهم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العاشرة في وفدِ عبد قيس، فأسلم، وكان نصرانيًا، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأكرمه، وقرّبه، قال الجارود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضالّة المسلم حرق النار"، وأخرجه النسائي، والطبراني (1).

وأجاب من استحبَّ أخذها عن الحديث بحمله على أخذها لغير التعريف، وقد بيّن ذلك ما روي عن الجارود -أيضًا-، قال: قد كنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على إبلٍ عِجاف، فقلنا: يا رسول الله! إنا قد نمر بالجرف، فنجد إبلًا، فنتركها، فقال:"إنَّ ضالّة المسلم حرق النار"، فكان سؤالهم عن أخذها لركبها لا لتعريفها، فأجابهم بأن قال: "ضالّة المسلم

حرق النار"، كذا قال: الطحاوي (2)، وهذا على جواز التقاط الضوال من الإبل ونحوها، كما هو مذهب أبي حنيفة، وقد علمتَ نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التقاطها، وتوعد عليه.

تنبيهات:

منها: لو وُجد محرَّمٌ التقاطُه بمهلكة، كأرض مسبعة، أو قريبًا من دار حرب، أو بموضع يستحل أهله أموالنا، أو ببريّة لا ماء فيها ولا مرعى،

(1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 133)، والنسائي في "السنن الكبرى"(5793)، والطبراني في "المعجم الكبير"(2109).

(2)

انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 133). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 280).

ص: 147

فالأولى جواز أخذه لحفظه، استنقاذًا لا لقطة (1).

وفي "الإنصاف": لو قيل: بوجوبه إِذًا، لكان له وجهٌ (2).

وفي "شرح المقنع": الأولى جواز أخذها للحفظ، ولا ضمان على آخذها؛ لأن فيه إنقاذها من الهلاك، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حريق، فإذا حصلت في يده، سلمها إلى نائب الإمام، وبرىءَ من ضمانها، ولا يملكها بالتعريف؛ لأن الشرع لم يرد بذلك فيها (3).

ومنها: أنّ من ترك دابة، لا عبدًا ومتاعًا بمهلكة أو فلاة تركَ إياس، لانقطاعها، أو عجزه عن علفها، ملكها آخذها، وبه قال الليث، والحسن بن صالح، وإسحاق، لا إن تركها ليرجع إليها، أو ضلّت منه.

وقال مالك: هي لمالكها، والآخرُ متبرع بالنفقة، لا يرجع بشيء؛ لأنه ملك غيره، فلم يملكه بغير عوض من غير رضاه، كما لو كانت في غير مهلكة، ولا يملك الرجوع؛ لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه، فلم يرجع بشيء، كما لو بنى داره.

ولنا: ما روى الشعبي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد دابّة قد عجز عنها أهلها فسيبوها، فأخذها فأحياها، فهي له".

قال عبدُ الله بنُ حُميدِ بنِ عبد الرّحمن: فقلت -يعني: للشعبي-: من حدّثك بهذا؟ قال: غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود بإسناده (4).

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 33).

(2)

انظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 403).

(3)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 324).

(4)

رواه أبو داود (3524)، كتاب: الإجارة، باب: فيمن أحيا حسيرًا.

ص: 148

وفي لفظٍ عن الشعبي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من ترك دابّة بمهلكة، فأحياها رجل، فهي لمن أحياها"(1)، ولأنه لما أحياها وأنقذها من الهلاك، ملكها، حفظًا للمال عن الضياع، ومحافظةً على حرمة الحيوان، وفي القول بأنها لا تملك تضييع لذلك كله من غير مصلحة تحصل، ولأنه تركه رغبةً عنه، وعجزًا عن أخذه، فملكه آخذه، كالساقط من ابن السبيل، وسائرِ ما ينبذه الناس رغبةً عنه، بخلاف ما إذا كان المتروك متاعًا، فخلصه إنسان، فإنه لا يملكه؛ لأنه لا حرمة له في نفسه، ولا يخشى عليه التلف، كالخشبة، وأما الحيوان، فإنه يموت إذا لم يطعم ويسق، وتأكله السباع، والمتاعُ يبقى حتى يرجع إليه صاحبه، وفيما إذا كان المتروك عبدًا، فإنه لا يملك بأخذه أيضًا؛ لأن العبد في العادة يمكنه التخلص إلى الأماكن التي يعيش فيها، بخلاف البهيمة، وله أخذ العبد والمتاع ليخلصه لصاحبه، وله أجر المثل، نصّ عليه الإمام أحمد في تخليص المتاع، وقيس عليه العبد (2).

ومعتمد المذهب: لا يسوغ له الرجوع إلّا بأجرة حمل متاع، وبنفقة واجبة حيث نوى الرجوع.

ومنها: لو أخذ ما يلقى في البحر خوفًا من الغرق، فهل يملكه آخذه؛ لأنه نُبذ وتُرك تركَ إياس، أو لا؟

قال في "الإقناع": لا يملكه آخذه (3).

وقال الحارثي: نصّ عليه.

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(22388).

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 325 - 326).

(3)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 32).

ص: 149

وقيل: يملكه آخذه، قدّمه في "الفائق"، و"الرعايتين"، وصححه في "النظم"، وقطع به في "التنقيح"(1)، و"المنتهى"(2)، و"الغاية"(3)، وأشار لخلاف "الإقناع".

قلت: كلام صاحب "الإقناع" -في آخر إحياء الموات- صريح بأنه لا يملكه آخذه (4)، وأما في أول باب اللقطة، فإن ظاهره: أنه يملكه، حيث قال: وإن ترك دابّة بمهلكة أو فلاة تركَ إياس. . . إلخ، ملكها آخذها إلّا أن يكون تركها ليرجع إليها، أو ضلّت عنه، وكذا ما ألقي خوف الغرق (5)؛ أي: في البحر، فيملكه آخذه؛ لأن مالكه ألقاه باختياره، فأشبه المنبوذ رغبةً عنه، كما في "التنقيح"(6)، و"المنتهى"(7)، وغيرهما، فهو مخالف لما قدّمه في إحياء الموات، ويحتمل أنه أراد التشبيه المستثنى، فلا مخالفة حينيذٍ، قاله في "شرحه"(8)، وعلى كل، فالمعتمد: أنه يملكه آخذه، والله الموفق.

(1) انظر: "التنقيح" للمرداي (ص: 245).

(2)

انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 299 - 300).

(3)

انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 219).

(4)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 32).

(5)

المرجع السابق، (3/ 41).

(6)

انظر: "التنقيح" للمرداوي (ص: 245).

(7)

انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 300).

(8)

انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 210).

ص: 150