الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رسُولُ اللهَ صلى الله عليه وسلم مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ:"أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ"(1).
وفي لفظ: "كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا"(2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (3362)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، و (3525)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، و (6388 - 6389)، كتاب: الفرائض، باب: القائف، ومسلم (1459/ 38 - 40)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد، وأبو داود (2267 - 2268)، كتاب: الطلاق، باب: في القافة، والنسائي (3493 - 3494)، كتاب: الطلاق، باب: القافة، والترمذي (2129)، كتاب: الولاء والهبة، باب: ما جاء في القافة، وابن ماجه (2349)، كتاب: الأحكام، باب: القافة.
(2)
رواه مسلم (1459/ 40)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 275)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 290)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 655)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 198)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 40)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 72)، و"العدة في شرح =
(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدّيقةِ (رضي الله عنها: أنها قالت: دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) حالَ كونه (مسرورًا)، (تبرُقُ)؛ أي: تلمع، وتعني:(أسارير وجهه).
قال في "القاموس": الأسارير: محاسنُ الوجه، والخدان، والوجنتان (1)، (فقال) عليه الصلاة والسلام:(ألم تَرَي) خطابًا لعائشة رضي الله عنها: ألم تعلمي (أنّ مُجَزِّزًا) -بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الزاي الأولى وكسرها- على المشهور، ومنهم من -فتحها-، نقله ابن عبد البر، والدارقطني، والحافظ عبد الغني المصنفُ -رحمهم الله تعالى- عن ابن جريج، بن الأعور بن جَعْدَة -بفتح الجيم وسكون العين المهملة- بن معاذ بن [عتوارة](2) بن عمرو بن مُدْلج -بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام ثم جيم- ابنِ مرّةَ بنِ عبدِ مناةَ بنِ كنانةَ، القائفَ المدلجيَّ نسبةً لجده مدلج المذكور في نسبه، ومدلج: بطن من كنانة مشهورٌ بالقيافة بين العرب.
قيل: إنما سميّ مجززًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا يجزُّ ناصيته، ولم يكن اسمه مجززًا، وإنما غلب ذلك عليه.
قال ابن عبد البر: قال بعضهم: ويقال: مُحْرزًا -بالحاء المهملة الساكنة وبكسر الراء ثم زاي-، وغلّطوه في ذلك (3).
= العمدة" لابن العطار (3/ 1371)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 56)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 232)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 136)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 80).
(1)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 518)، (مادة: سرر).
(2)
في الأصل: "عنوان"، والصواب ما أثبت.
(3)
انظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1461)، و"تهذيب الأسماء =
قال عليه السلام لعائشة: فإن مجززًا (نظر آنِفًا)، -بمد الهمز وقصره-؛ أي: قريبًا، أو الساعة، وقيل: في أول وقت كنا فيه، وكلُّه من الاستئناف والقرب، كما في "المطالع"(1)، (إلى زيد بن حارثة) مولى النبي صلى الله عليه وسلم وحِبِّه، (و) إلى ابنه (أسامةَ بنِ زيدٍ) الحِبِّ ابن الحِبِّ رضي الله عنهما، (فقال) مجزز المدلجي:(إنّ بعض هذه الأقدام لمن بعض).
وفي رواية لمسلم والترمذي والنسائي: "ألم تري أنّ مجززًا المدلجي رأى زيدًا وأسامة قد غطيا رؤوسهما بقَطيفة، وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض"(2).
وفي لفظٍ قالت: دخل قائف والنبيُّ صلى الله عليه وسلم شاهد، وأسامةُ بنُ زيد وزيدُ بن حارثة مضطجعان، فقال: إنّ هذه الأقدام بعضُها من بعض، فسرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأعجبه، وأخبر به عائشة، متفقٌ عليه (3).
قال أبو داود: وكان أسامة أسودَ، وكان زيد أبيضَ (4).
(وفي لفظ: كان مُجَزِّزٌ قائفًا) والقَافَة: قومٌ يعرفون الأنسابَ بالشبه، كما يختص ذلك بقبيلة معينة، بل من عرفت منه المعرفةُ بذلك، وتكررت منه الإصابة، فهو قائف، وقيل: أكثر ما يكون في بني مدلج رهط مجززِ المدلجيِّ -المذكور- (5).
= واللغات" للنووي (2/ 390)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 775).
(1)
وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 44).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1459/ 39)، وأبي داود برقم (2267)، وعند النسائي برقم (3494)، وكذا عند البخاري برقم (6389).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3525)، وعند مسلم برقم (1459/ 40).
(4)
انظر: "سنن أبي داود"(2/ 280)، عقب حديث (2267).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 47).
قال الإمام الموفق في "المغني": كان إياس بن معاوية قائفًا، وكذا قيل في شريح القاضي، وغيرهما (1).
تنبيهات:
الأول: لما ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- حديثَ عائشة في مخاصمة عبد بن زمعةَ، وسعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنهما في الغلام الذي هو ابنُ وليدةِ زمعةَ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلام لعبد بن زمعة، مع وجود الشبه البيّن بعتبة بن أبي وقاص، ولم يعول عليه، بل رجّح كونَ الولد للفراش، ربما أشعر هذا الحكم بردّ اعتبار الشبه وحكمِ القَافَة مطلقًا، فدفع بهذا الوهم بأن أعقبه بما روت عائشة -أيضًا- من أمر زيد وأسامة، وحكمِ القَافَة بأن أقدامهما بعضهما من بعض، مع تغطية رؤوسهما، فارتضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأقرّه، وسرّ به، فكان أصلًا ثابتًا في اعتبار القائف بشروطه المعتبرة، وهذا بيّنٌ ظاهر (2)، والله -تعالى- أعلم.
الثاني: الأمور التي يثبت بها النسب أربعة:
أحدها: الفراش.
الثاني: الاستلحاق، وقد اتفق أهل العلم على أنّ للأب أن يستلحق، وكذا كل وارث حيث اتفق عليه جميع الورثة، ولا لم يثبت نسبه إلّا أن يكون الوارث أحدَ الشاهدين فيه، وحكمُ الجدِّ والأخ سواء، والأصل في ذلك: أن من حاز المال يثبت النسب بإقراره، واحدًا كان أو جماعة، هذا أصل مذهب أحمد، والشافعي؛ لأن الورثة قاموا مقام الميت، وحلوا
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 72).
محله، ومعتمد كل من المذهبين: أن إقرار من حاز الميراث إقرار خلافة عن الميت، لا إقرار شهادة، فلا تعتبر عدالة المستلحِق، بل ولا إسلامه، فيصح من الفاسق والذميّ.
وقالت المالكية: هو إقرار شهادة، فيعتبر فيه أهلية الشهادة.
وحكى ابن القصار عن مذهب مالك: أنّ الورثة إذا أقروا بالنسب، لحق، وإن لم يكونوا عدولًا، لكن المعروف من مذهبه خلافه.
الثالث: من الأمور التي يثبت بها النسب: البيّنة، بأن يشهد شاهدان أنه ابنه، أو أنه ولد على فراشه من زوجته أو أمَته، وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة، لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم، وثبت نسبه، ولا يُعرف في ذلك نزاع.
الرابع: القَافَة، والحجّة في إلحاق النسب بها الحديث المذكور (1)، فإذا ادّعى اثنان طفلًا أو أكثر، وتساووا في البيّنة أو عدمها، عرض معهما على القَافَة، أو مع أقاربهما إنّ ماتا، كالأخ والأخت، والعمّة والخالة، فإن ألحقته بأحدهما، لحق به، هذا قول أنس بن مالك، وعطاء، ويزيد بن عبد الملك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأبي ثور، وهو مذهب الإمام أحمد.
وقال أصحاب الرأي: لا حكم للقافة؛ لأن الحكم بها تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين، والشبه يوجد بين الأجانب، وينتفي بين الأقارب، واحتّجوا بقصة الفزاري، وتقدّم الجواب عنها (2).
قال الإمام ابن القيّم في "الهدي" في حديث عائشة المتفق عليه: أنه صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 416 - 418).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 276).
دخل ذات يوم مسرورًا تبرق أساريرُ وجهه، فقال:"ألم تري أنّ مجززًا المدلجيَّ نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة، وأسامةَ بنِ زيد، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامُهما، فقال: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض"، فسُرَّ النبي بقول القائف، فلو كانت -كما يقول المنازعون- من أمر الجاهلية، كالكهانة ونحوها، لما سُرَّ بها، ولا أُعجب بها، ولكانت بمنزلة الكهانة.
قال: الإمام الشافعي: النبي صلى الله عليه وسلم أثبته علمًا، ولم ينكره، ولو كان خطأ، لأنكره؛ لأنّ في ذلك قذفَ المحصنات، ونفيَ الأنساب (1)، انتهى.
قال في "الهدي": فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد صرّح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها، فقال في ولد الملاعنة:"إن جاءت به كذا وكذا، فهو لهلال بن أميّة، وإن جاءت به كذا وكذا، فهو لشريك بن سحماء"، فلما جاءت به على نعت الذي رُميت به، قال:"لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن"(2)، وهل هذا إلا اعتبارًا بالشبه، وهو عين القيافة، فإن القائف يتَّبع أثرَ الشبه، وينظر إلى من يفضل، فيحكم به لصاحب الشبه، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الشبه، وبيّن سببه، ولهذا قالت له أم سَلَمة: وتحتلمُ المرأة؟ فقال: "ممَّ يكون الشبه؟! "(3)، وأخبر في "الحديث الصحيح": أنّ ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة، كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها، كان الشبه لها (4)، فهذا اعتبارٌ منه للشبه شرعًا وقدرًا، وهذا أقوى ما يكون من طرق
(1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 418).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
الأحكام أن يتوارد عليه الخلق والأمر والشرع والقدر، ولهذا تبعه خلفاؤه الراشدون في الحكم بالقافة، فقد روى سعيد بن منصور: حدّثنا سفيان عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعًا، فجعله بينهما (1).
قال الشعبي: وعلي يقول: هو ابنها، وهما أبواه يرثانه، ذكره سعيد -أيضًا- (2).
وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة، فحملت فولدت غلامًا، فشبههما، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فدعا القافة، فنظروا فقالوا: نراه شبههما، فألحقه بهما، وجعله يرثهما ويرثانه (3).
قال في "الهدي": ولا يُعرف قطُّ في الصحابة مَنْ خالف عمر وعليًا في ذلك، بل حكم عمر بذا في المدينة، وبحضرته المهاجرون والأنصار، فلم ينكره منهم منكر.
قالت الحنفية: لقد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرَّجِل، مع أن الحكم بالقيافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين، ومعلوم أن الشبه يوجد في الأجانب، وينتفي من الأقارب، وذكرتم قصة أسامة وزيد، ونسيتم قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود يخالف لونَهما، فلم يمكنه النبي صلى الله عليه وسلم من نفيه، ولا جعل للشبه ولا لعدمه أثر، ولو كان للشبه أثر،
(1) ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 162)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 263).
(2)
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31467).
(3)
ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 163).
لانتفى به في ولد الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينظر إلى ولادته، ثم يلحق بصاحب الشبه بالزوج.
قالوا: وقد دلّت السنّة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن، ولو كان الشبه له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أبصروها، فإن جاءت به كذا وكذا، فهو لهلال بني أميّة"، وهذا قاله بعد اللعان ونفيِ النسب عنه، فعلم أنّه لو جاء على الشبه المذكور، لم يثبت نسبه منه، وإنما كان مجيئه على شبهه أو عدمه دليلًا على صدقه أو كذبه، لا على لحوق الولد به.
قالوا: وأما قصة أسامة وزيد، فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد، لمخالفة لونه لونَ أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفراش، وحكمِ الله ورسوله أنه ابنه، فلما شهد به القائف، وافقت شهادته حكمَ الله ورسوله، فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم لموافقتها حكمَه، وتكذيبها قولَ المنافقين؛ لأنه أثبت نسبه بها، فأين هذا في إثباتُ النسب بقول القائف؟ وهذا معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبار الشبه، فإنها إنما اعتبر فيها الشبه في نسبٍ ثابت بغير القافة، ونحن لا ننكر ذلك.
قالوا: وأما حكم عمر وعلي، فقد اختلف على عمر وعلي، فروي عنه ما ذكرتم، وروي عنه: أنّ القائف لما قال له: قد اشتركا فيه، قال: وإلى أيهما ينسب؟ فلم يعتبر قول القائف.
قالوا: وكيف تقولون بالشبه ولو أقرّ أحد الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشبه موجود، لم تثبتوا النسب به؟ وقلتم: إن لم يتفق الورثة على الإقرار به، لم يثبت النسب!.
قال أهل الحديث: من العجب أن يُنكَر القولُ بالقافة، ويُجعل من باب الحدس والتخمين من يُلحق ولدَ المشرق بمن في أقصى المغرب، مع
القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين، ويُلحق الولدَ بأُمّينِ، مع القطع بأنه ليس ابنًا لإحداهما، ونحن إنّما ألحقنا الولد بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعًا وقدرًا، فهو إسناد إلى ظنٍ غالب، ورأيٍ راجح، وأمارة بقول من هو من أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول من قول غيرهم، وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندًا إلى الأمارات الظاهرة، والظنون الغالبة؟ وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب وإن كان واقعًا، فهو نادر قليل، والحكم للغالب الكثير، وأما النادر، فهو في حكم المعدوم.
وأما قضية من ولدت امرأتُه غلامًا أسود، فحجّةٌ عليكم؛ لأنها دليل على أن العادة التي فطر الله الناس عليها اعتبارُ الشبه، وأن خلافه يوجب ريبة، وأنّ في طباع الخلق إنكار ذلك، ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه، وهو الفراش، كان الحكم للدليل القوي، وكذلك نقول نحن وسائر النّاس: الفراش الصحيح إذا كان قائمًا، فلا يعارض بقافة ولا شبه، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه، وهو الفراش، غير مستنكر، وإن المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر لغير شيء.
وأما تقديم اللعان على الشبه، وإلغاء الشبه مع وجوده، فكذلك -أيضًا- هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه، كالبينة تقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويعمل بها عند عدمها.
وأما ثبوت نسب أسامة بن زيد بدون القيافة، فنحن لم نثبت نسبه بالقيافة، والقيافة دليلٌ آخر موافق لدليل الفراش، فسرورُ النبي صلى الله عليه وسلم، وفرحُه بها، واستبشارُه، لتعاضد أدلة النسب وتظافرها، لا لإثبات النسب بقول القائف وحده، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحق وأدلته وتكاثرها،
ولو لم تصلح القيافة دليلًا، لم يفرح بها، ولم يسر، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر إذا تعاضدت عنده أدلة الحق، ويخبر بها الصحابة، ويحب أن يسمعوها من المخبّر بها؛ لأن النفوس تزداد تصديقًا بالحق لتعاضد الأدلة، وعلى هذا فطر الله عباده.
وأما ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال: وإلى أيهما ينسب؟ فلا تعرف صحته عن عمر، ولو صح عنه، لكان قولًا عنه، فإن الذي ذكرناه عنه في غاية الصحة، مع أن قوله لو صح: وإلى أيهما ينسب؟ ليس بصريح في إبطال قول القائف، ولو كان صريحًا في إبطال قوله، لكان دليلًا للشافعي في عدم صحة إلحاقه باثنين.
وأما قولهم من إقرار بعض الورثة بأخ، وإنكار الباقين، فإنما لم يثبت نسبه بمجرد الإقرار، وأما إذا كان هناك شبه يستند إليه القائف، وألحقه به، فلا التفات لإنكار من ينكر والحالة هذه، والله -سبحانه- أعلم (1).
التنبيه الثالث: يشترط في القائف أن يكون ذكرًا عدلًا مجربًا في القافة، ولا تشترط حريته، ويكفي قائفٌ واحد، وهو كحاكم، فيكفي مجرد خبره، ولا يختص ذلك بقبيلة معينة، بل من عُرف منه المعرفه بذلك، وتكررت إصابتُه، فهو قائف (2). وعن الإمام أحمد رواية ثانية: أن قول القائف شهادة، فلابد من اثنين ولفظِ الشّهادة، ومعتمد مذهب الإمام أحمد: أنّ القافة إذا ألحقته باثنين فأكثر، أُلحق بهم، وهو قولُ جمهورِ من قال بالقيافة، خلافًا للشافعي، وبانعقاد الحيوان من ماءين فصاعدًا، وبه قال أبو حنيفة، وإن لم يعتبر القافة.
(1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 418 - 423).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 60 - 61).
لكن قال القاضي أبو يعلى: يجب ألا يلحق بأكثر من ثلاثة، وهو قول محمَّد بن الحسن.
وقال ابن حامد من أئمة المذهب: لا يلحق بأكثر من اثنين، وهو قول أبي يوسف، والحجة في ذلك كله قضيةُ عمرَ بمجمعٍ من الصحابة من غير إنكار، واحتجّ القاضي بأن أحمد نصّ على الثلاثة، فيقتصر عليها (1).
وحجّة المذهب: أنه متى جاز انعقاده من ماء اثنين، جاز انعقاده من ماء ثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك، والله الموفق.
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 407).