المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٥

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب اللقطة

- ‌باب الوصايا

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الفرائض

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كتاب النكاح

- ‌الحديث الأول

- ‌بَابِ

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب الصداق

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الطلاق

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب العدة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كتاب اللعان

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌كتاب الرضاع

- ‌الحديث الأول

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ:

‌الحديث الثاني

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتدَّ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ لِي، أَفَاتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالِي، قَالَ:"لا"، قُلتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لا"، قُلْتُ: فالثُّلُثُ؟ قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيْرٌ، إِنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وَجْهَ اللهِ، إلَّا أُجِرْتَ بهَا، حَتَى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ"، قَالَ: فَقُلتُ. يَا رَسُولَ اللهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بهِ وَجْهَ اللهِ، إلَّا ازْدَدْتَ بهِ دَرجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتَفعَ بكَ أَقْوامٌ، وَيُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلًى أَعْقَابهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَة" يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّة (1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (1233)، كتاب: الجنائز، باب: رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، واللفظ له، و (56)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، و (2591)، كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، و (2593)، باب: الوصية بالثلث، و (3721)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض =

ص: 165

(عن) أبي إِسحاق (سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ رضي الله عنه) واسمُ أبي وقاص: مالكُ بن وُهيب، ويقال: أُهيب بنُ عبدِ منافِ بنِ

زهرةَ بنِ كلابِ بنِ مرةَ، القرشيُّ، الزهريُّ، وأمه حَمْنَةُ بنت سفيان، وقيل: بنت أبي سفيان بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ.

أسلم قديمًا على يد الصدّيق الأعظم وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال:

= لأصحابي هجرتهم"، و (4147)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، و (5039)، كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، و (5335)، كتاب: المرض، باب: وضع اليد على المريض، و (5344)، باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، وارأساه! أو اشتد بي الوجع، و (6012)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع، و (6352)، كتاب الفرائض، باب: ميراث البنات.

ورواه مسلم (1628/ 5 - 9)، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، وأبو داود (2864) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، والنسائي (3626 - 3632)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، والترمذي (2116)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية بالثلث، وابن ماجة (2708)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"معالم السنن" للخطابي (4/ 84)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 271)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 268)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 363)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 542)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 76)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1223)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 260)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 363)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 88)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 104)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 148).

ص: 166

كنتُ ثالث الإسلام (1)، وأنا أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله (2)، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنّة، شهد المشاهدَ كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قصيرًا غليظًا ذا هامةٍ، شثنَ الأصابع، آدَمَ، أفطسَ، أشعرَ الجسد، مات في قصره بالعقيق قريبًا من المدينة، فحُمل على رقاب الرجال إلى المدينة، وصلّى عليه مروان بن الحكم، وهو يومئذٍ والي المدينة، ودُفن بالبقيع سنة خمس وخمسين، وقيل: سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين، وله بضع وسبعون سنة، وقيل: اثنتان وثمانون سنة، وهو آخر العشرة موتًا، ولّاه عمر وعثمان رضي الله عنهم الكوفة.

روى عنه: عبد الله بن عمر، وجابر، وسمرة، وعامر، ومحمد، ومصعب بنوه، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وابن المسيب، وأبو عثمان النهدي (3).

(قال) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) رواه البخاري (3520)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (3522)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ومسلم (2966)، كتاب: الزهد والرقائق.

(3)

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى"(3/ 137)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 43)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 565)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 92)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 606)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 144)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 280)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 452)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 207)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 309)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 92)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 73)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 419).

ص: 167

يعودني) جملةٌ وقعت حالًا (عام حجّة الوداع)، وسعد رضي الله عنه يومئذٍ بمكة (من وَجَعٍ اشتدَّ بي)، وفي لفظٍ:"من وجعٍ أشفيت منه على الموت"(1)، واتفق أصحاب الزهري على أنّ ذلك كان في حجّة الوداع، إلّا ابن عيينة قال: في فتح مكة، أخرجه الترمذي (2) وغيره، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه، على أنه قد ورد ما يؤيد كلام ابن عيينة، فقد أخرج الإمام أحمد، والبزار، والطبراني، والبخاري في "التاريخ"، وابن سعد من حديث عمرو بن القاري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم، فخلف سعدًا مريضًا، حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرًا، دخل عليه وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله! إنّ لي مالًا، وإني أورث كَلالَةً، أفأوصي بمالي؟ الحديث (3)، ويمكن الجمع بأنّ ذلك وقع مرّتين، وأنه في الفتح لم يكن له وارث من الأولاد (4)، فإن لم يحمل على التعدد، وإلّا فالصحيح ما في "الصحيح"، والله أعلم.

قال سعد: (فقلتُ: يا رسولَ الله! قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه، ودليلٌ على ذكر شدّة المرض لا في معرض الشكوى (5)، (وأنا ذو مال) جملة حالية، وفيه التحدث بما أنعم الله عليه، (ولا يرثني إلا ابنة لي) جملة وقعت حالًا، وابنة سعد هذه تسمى عائشة، ولم يكن له يومئذٍ غيرها، ثم عوفي من ذلك المرض، ورزق أولادًا كثيرًا،

(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4147)، وعند مسلم برقم (1628/ 5).

(2)

تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (2116).

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 60)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 146).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 363 - 364).

(5)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9).

ص: 168

منهم: محمد، وإبراهيم، وعامر، ومصعب، وإسحاق، وعمر، ويعقوب، ويحيى، وذكر من أولاده أيضًا: إسحاق الأكبر، وأم الحكم الكبرى، وحفصة، وأم القاسم، وكلثوم، وغيرهم، وكلّهم تابعيون.

وأما عائشة المتقدم ذكرها، فروت عن أبيها سعد، ويقال: إنها رأت ستًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنها: أيوب السختياني، وغيره، أخرج لها: أبو داود، والترمذي، والنسائي (1)، (أفأتصدق)، وفي رواية عامر بن سعد عنه: كما في "البخاري": قلت: يا رسول الله! أوصي بمالي كلّه؟ قال: "لا"(2).

وفي رواية عائشة بنت سعد عنه: كما في الطب من "البخاري"، وكذا في "مسلم":[أفأتصدق](3)(بثلثي مالي؟)، وكذا وقع في رواية الزهري، والمراد بقوله: أفأتصدق؟ أي: صدقة معلقة بالموت، فلا مخالفة بين أوصي وأتصدق في المعنى، وكأنه سأل أولًا عن الكل، ثم سأل عن الثلثين (4)، (قال) له النبي صلى الله عليه وسلم:(لا)؛ أي: لا تتصدق بالكل، ولا بالثلثين.

وقد روى الطبراني في "الكبير": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن مالك يوم الفتح، الحديث، وفيه: فقال سعد: يا رسول الله! إنّ مالي كثير، وإنني أُورث كلالة، أفأتصدق بما لي كلّه؟ قال:"لا"، قال: أفأتصدق

(1) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 236).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 5039).

(3)

كذا في الأصل، والذي عند البخاري برقم (5335) -كما تقدم-، وعند مسلم برقم (1628/ 8)، من رواية عائشة بنت سعد عنه:"فأوصي"، ولعل هذا مراد الشارح رحمه الله.

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 365).

ص: 169

بثلثيه؟ قال: لا، الحديث (1)، (قلتُ: فالشطر؟)؛ أي: النصف.

قال الكرماني: هو بالجر أو الرفع، انتهى.

فالجر بأن يكون معطوفًا على قوله: بثلثي مالي، والرفع على تقدير حذف الرافع تقديره:[فيجوز الشطرُ] ونسب إلى الزمخشري جوازُ النصب على تقدير: أعني: الشطرَ (يا رسول الله)(2)، (قال: لا)؛ أي: لا يجوز أن توصي بالشطر، فـ (قلتُ: فالثلث؟) بالأوجه الثلاثة كما في الشطر، (قال) صلى الله عليه وسلم:(الثلث) بالنصب على الإغراء، ويجوز الرفع على أنه فاعل؛

أي: يكفيك الثلث، (والثلث كثير) مبتدأ وخبر، وأكثر الروايات بالثاء المثلثة، وفي بعضها:"كبير" -بالياء الموحدة (3)(إِنَّك أَنْ تذر) قال النووي: -بفتح همزة "أنّ" وكسرها-، فبالفتح تكون للتعليل، وبالكسر تكون للشرط (4).

وقال القرطبي: لا معنى للشرط هنا؛ لأنه يصير لا جواب له، ويبقى خبر لا رافع له، وعلى تقدير كونها شرطية، فالجزاء محذوف، تقديره: فهو خير (5).

قال ابن مالك: من خصّ هذا الحكم بالشعر، فقد ضيّق الواسع.

وقال الإمام ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأَنكره شيخنا عبد الله بن أحمد -يعني: ابن الخشاب الحنبلي أحد أئمة النحو-،

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4/ 213 - "مجمع الزوائد" للهيثمي).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 33).

(3)

المرجع السابق، (14/ 34).

(4)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 76).

(5)

انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 545).

ص: 170

وقال: لا يجوز الكسر؛ لأنه لا جواب له، لخلو لفظ "خير" من الفاء (1)، واعترض عليه بأن حذف الفاء من الجزاء سائغ شائع غيرُ مختص بالضرورة -كما قدّمنا- (2)، ومعنى تذر: تترك، وفي لفظ:"أن تدع (ورثتك) "(3)، قيل: إنما عبّر بلفظ الورثة، ولم يقل: أن تذر بنتك، مع أنه لم يكن له يومئذٍ إلا ابنة واحدة، لكون الوارث حينيذٍ لم يتحقق؛ لأن سعدًا لما قال ذلك بناءً على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، فأجابه عليه السلام بكلامٍ كلّي مطابق لكل حالة، وهو قوله:"ورثتك"، ولم يخص بنتًا من غيرها.

وقيل: إنما عبّر بالورثة؛ لأنه اطلع على أن سعدًا سيعيش، ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة، فكان الأمر كذلك، فكان له عدة بنين وبنات ما يزيد على خمسة وعشرين، أزيد من خمسة عشر ذكرًا، واثنتي عشرة ابنة.

وقيل: لأن ميراثه لم يكن منحصرًا في ابنته، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك، لذاك، منهم: هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين (4)(أغنياء) عن المسألة وتكفف الناس (خير) لك عند الله (من أن تذرهم)؛ أي: تتركهم (عالة)؛ أي: فقراء، وهو جمع عائل، وهو الفقير، من عال يعيل: إذا افتقر (5)(يتكففون) التكفف ببسط الكف للسؤال، أو سأل الناس كفافًا من الطعام، أو ما يكف الجوعة، أو بمعنى: يسألون

(1) نقله ابن الجوزي في "كشف المشكل"(1/ 232).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 34).

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 5039، 5344).

(4)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 34).

(5)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 330).

ص: 171

(الناس) بالكف (1)، وفي بعض الروايات:"يتكففون النالس في أيديهم"(2)؛ أي: بأيديهم، أو المعنى: يسألون بالكف لإكفاء في أيديهم (3).

ففي هذا: دليلٌ على استحباب الصدقة لذوي الأموال، ومبادرة الصّحابة الكرام، وشدة رغبتهم في الخيرات، فإن سعدًا رضي الله عنه طلب التصدق بالأكثر.

وفيه: دليل على تخصيص الوصية، وأن الثلث في حدّ الكثرة في باب الوصية (4)، ويأتي له تتمة.

(وإنك) يا سعد، والمراد به: العموم (لن تنفق نفقة) كثيرة أو قليلة (تبتغي)؛ أي: تقصد (بها)؛ أي: بتلك النفقة (وجهَ الله) تعالى، وفي لفظٍ:"وإنّكَ مهما أنفقتَ من نفقة (5) (إلّا أُجرت بها) "، دلّ هذا القيد على أنّ الثواب في الإنفاق مشروطٌ بصحةِ النيّة في ابتغاء وجه الله تعالى، والدار الآخرة، وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة، فإن ذلك يفوت الفرض المقصود من الثواب، فضلًا عن شائبة الرياء والمباهاة حتى يبتغي به وجه الله ويَشُقُّ تخليص هذا المقصود بما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة.

وفيه: دليلٌ على أنّ الواجبات المالية إذا أُدِّيت على قصد أداء الواجب، ابتغاء وجه الله، من تصحيح النيّة، أُثيبَ عليه (6)، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (حتى

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 32).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري، ومسلم.

(3)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 34).

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9).

(5)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591).

(6)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 10).

ص: 172

ما تجعل) "حتى" هذه ابتدائية (في في امرأتك)؛ أي: في فم امرأتك، وفي رواية:"حتى اللقمة"(1).

ووجه تعلق هذا بقضية الوصية: أنّ سؤال سعد رضي الله عنه يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر، فلمّا منعه الشارع من الزيادة على الثلث، قال له على سبيل التسلية: إنّ جميع ما تفعله في مالك من صدقةٍ ناجزة، ونفقة -ولو واجبة- تؤجر بها إذا ابتغيت بها وجه الله، ولعله خصّ المرأة بالذكر؛ لأن نفقتها مستمرة (2).

قلت: فالذي يظهر لي أنّ وجه التنصيص على المرأة يشعر بحصول الثواب في غيرها من بابٍ أولى؛ لأن نفقتها في مقابلة الاستمتاع بها، فإذا كان مع كونه في مقابلة عوض، وهو تمتعه بها، يحصل له الثواب، فغيرها من بقية من ينفق عليه ويعوله لا في مقابله شيء أولى، فـ "حتى" ها هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال: جاء الحاجُّ حتى المشاة، ومات الناس حتى الأنبياء، فلما كان ربما توهم أنّ أداء الواجب قد يشعر بأن لا يقتضي غير إسقاطه عمن أدّاه، وأنه لا يزيد على براءة الذمّة، دفع هذا الوهم بأنه يحصل له ما نواه، فإن المباح إذا قُصد به وجه الله تعالى، صار طاعة، وأُثيب عليه (3).

(قال) سعد رضي الله عنه: (فقلتُ: يا رسول الله! أُخَلَّفُ بعدَ أصحابي؟).

(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 3721، 4147، 5039، 6352)، ومسلم برقم (1628/ 5).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367).

(3)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 10).

ص: 173

قال: القاضي عياض: معناه: أُخلف بمكة بعدَ أصحابي؟ قاله: إمّا إشفاقًا من موته بمكة، لكونه هاجر منها، وتركها لله، فخشي أنّ يقدح ذلك في هجرته، أو في ثوابه عليها، أو خشي بقاءه بمكة بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وتخلف عنهم بسبب المرض، وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله، ولهذا جاء في رواية: أخلف عن هجرتي؟ (1).

قال: القاضي: كان حكم الهجرة باقيًا بعد الفتح، لهذا الحديث، وقيل: إنّما كان ذلك لمن هاجر قبل الفتح، وأما من هاجر بعده، فلا (2)، (فقال) له صلى الله عليه وسلم:(إنّك لن تخلَّفَ فتعملَ عملًا) المراد بالتخلف هنا: طول العمر، والبقاء في الحياة بعد جماعاتٍ من أصحابه (3)، (تبتغي به)؛ أي: بذلك العمل (وجهَ الله) الكريم ومرضاته (إلا ازددت به)؛ أي: بذلك التخلف الذي عملت فيه العمل المذكور (درجةً) عند الله عاليةً، (ورفعةً) عظيمة وافية.

وفيه: فضيلةُ طول العمر للازدياد في العمل الصالح، والكدح الناجح، والحثّ على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال الصالحة (4)، (ولعلك)، وفي رواية:"ثم لعلّك"(5)(أنّ تخلف حتى ينتفع بك أقوام)، وفي رواية:"عسى الله أن يرفعك"(6)؛ أي: يطيل عمرك، وكذلك اتفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيدَ من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين عامًا، مات سنة خمسٍ

(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6352).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 365).

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 78).

(4)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

(5)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1233).

(6)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591).

ص: 174

وخمسين من الهجرة، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين، أو ثمانيًا وأربعين (1)، وفي لفظ:"فينتفع بك ناسٌ"(2)، (ويُضر بك آخرون)؛ أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويضر بك المشركون الذين يهلكون على يديك، فإن سعدًا رضي الله عنه عاش حتّى فتح العراق وغيره، وانتفع به أقوامٌ في دينهم ودنياهم، ومن ذلك ما رواه الطحاوي، قال: سُئل عامرُ بنُ سعدٍ عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فقال: لما أمر سعد على العراق، أتي بقوم ارتدُّوا، فاستتابهم، فتاب بعضهم، وامتنع بعضهم، فقتلهم، فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين.

وزعم ابن التين: أنّ المراد بالنفع به: ما وقع من الفتوح، كالقادسية وغيرها، وبالضرر: ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي رضي الله عنهما ومن معه.

ورده الحافظ ابن حجر، لتكلفه لغير ضرورةٍ تحملُ على إرادة الضرر الصادر من ولده (3).

قال العيني: لا ينظر فيه من هذا الوجه، بل فيه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بذلك بالإشارة قبل وقوعه (4).

قال بعض العلماء: لفظة "لعل" وإن كانت للترجي، لكنها من الله للأمر

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 5039).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367).

(4)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 35).

ص: 175

الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم غالبًا (1).

(اللهم)؛ أي: يا ألله! (أمض لأصحابي)؛ أي: المهاجرين منهم (هجرتَهم، ولا تردَّهم على أعقابهم).

قال: القاضي: استدل بعضهم على أنّ بقاء المهاجر بمكة -كيف كان- قادحٌ في هجرته، قال: ولا دليل فيه عندي؛ لأنه دعا لهم دعاءً عامًا، ومعنى:"أمض لأصحابي هجرتهم"؛ أي: أتمّها، ولا تبطلها، ولا تردّهم على أعقابهم بترك هجرتهم، ورجوعهم عن مستقيم حالتهم المرضية (2)، (لكنِ البائسُ): الذي يبدو عليه أثر البؤس، وهو الفقر والقلّة (سعدُ بنُ خَولة)، وهو أبو سعيد، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم، وقيل: هو حليفٌ لهم، وقيل: هو مولى أبي رُهْمِ بنِ عبد العزى العامري، وقيل: هو من اليمن، وقيل: من عجم القدس، قاله ابن الأثير في "جامع الأصول"(3)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فيه (يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) الرثاء -بكسر الراء وبالمثلثة والمد- يطلق على التوجع والتحزن، وهو المباح، وعلى مدحِ الميّت وذكرِ محاسنه، وهو المنهيِّ عنه في حديث الإمام أحمد وغيره (4)، وعلّته أنّ ذلك باعث على تهييج الحزن، وتجديد

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 366).

(3)

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 408)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 151)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 586)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 575)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 435 - قسم التراجم)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 53).

(4)

روى الإمام أحمد في "المسند"(4/ 356)، وابن ماجة (1592)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء على الميت، وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى =

ص: 176

اللّوعة (1). وخولة -بفتح الخاء وسكون الواو-.

تنبيهات:

الأول: قال: النووي: قال: العلماء: هذا من كلام الراوي، وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: قوله: يرثي له. . . إلخ-، بل انتهى كلام النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لكن البائس سعد بن خولة"، فقال الراوي في تفسير هذا الكلام: إنه يرثيه به النبي صلى الله عليه وسلم، ويتوجع له، ويرق عليه، لكونه ماتَ بمكة.

واختلفوا في تأويل هذا الكلام ممن هو؟ فقيل: هو من سعد بن أبي وقاص. وقد جاء مفسرًا في بعض الروايات، قال القاضي: وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري (2).

قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أنّ قوله: يرثي. . . إلخ، من كلام الزهري (3).

وقال: الحافظ ابن الجوزي، وغيره: هو مدرج من كلام الزهري، وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري (4)، فإنه فصل ذلك، لكن وقع في "البخاري" في الدعوات:"لكن البائس سعد بن خولة"، قال سعد: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، فهذا ينافي

= رضي الله عنه، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي.

(1)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 164).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 367)، وانظر:"شرح مسلم" للنووي (11/ 79).

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 278).

(4)

رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(197).

(5)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6012).

ص: 177

إدراجه، فلا ينبغي الجزم به كما نبّه عليه الحافظ ابن حجر (1).

وقال البرماوي: القائل: يرثي له، في هذا الحديث، مختلفٌ فيه، فقيل: هو سعد بن أبي وقاص، وقيل: من قول الزهري، فكان ينبغي للمصنف الحافظ -رحمه الله تعالى- أن يذكر الزهري لذلك؛ لأنه الراوي عن سعد هذا الحديث، فالاحتياطُ ذكره، إلّا أن يكون المصنف رحمه الله ممن يرى بأن القائل هو سعد، فلا حاجة حينيذٍ لذكر الزهري، والله الموفق.

واختلفوا في البائس سعد بن خولة، فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها، قاله عيسى بن دينار، وغيره.

وذكر البخاري: أنه هاجر، وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة، ومات بها.

وقال ابن هشام: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرةَ الثانية، وشهد بدرًا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل: توفي بها سنة سبع في الهدنة، خرج مختارًا من المدينة إلى مكة (2).

قال في "الفتح": وجزم الليث بن سعد بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع، وهو الثابت في "الصحيح"، خلافًا لمن قال بأنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع، انتهى (3).

قال النووي: فعلى أنه توفي في سنة سبع، فبؤسه سقوطُ هجرته، لرجوعه مختارًا إلى الأرض التي هاجر منها، وموته بها، وعلى القول

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 365).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 364).

ص: 178

الآخر، سبب بؤسه موته بمكة، على أي حال كان، وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه الذي هجره لله (1).

قال القاضي: وقد روي في هذا الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلًا، وقال له:"إن توفي بمكة، فلا تدفنه بها"(2)، انتهى (3).

الثاني: الأولى للموصي أَلَّا يستوعب بالوصية الثلث، وإن كان غنيًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"والثلث كثير"، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما كما يأتي: لو أن الناس غضوا من الثلث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 1 "الثلث كثير" متفق عليه (4).

قال: القاضي أبو يعلى، وأبو الخطاب الكلوذاني: إن كان غنيًا، استحب الوصية بالثلث، ويردّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الثلث كثير" مع إخبار سعد بكثرة ماله وقلة عياله، وفي النسائي: عن سعد: أن النبي في قال له: "أوصيت؟ "، قال: نعم، قال:"بكم؟ "، قلت: بمالي كله للفقراء في سبيل الله، قال:"فما تركتَ لولدك؟ "، وفيه:"أوص بالعشر"، قال: فما زال يناقصني وأناقصه حتى قال: "أوص بالثلث، والثلث كثير"، أو "كبير" (5) يعني: بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي، وأكثر الروايات بالمثلثة.

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79 - 80).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 146).

(3)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 368).

(4)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(5)

تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3631). وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 426 - 427).

ص: 179

والحاصل: أن الإجماع منعقد على أنّ الوصية بالثلث لغير وارث جائزة، وأنها لا تفتقر إلى إجازة ورثة، وأن ما زاد على الثلث إذا أوصى به من ترك بنين أو عصبة، فإنه لا ينفذ إلا الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة، فإن أجازوه، نفذ، وإن أبطلوه، بطل، وأن المستحب للموصي أن يوصي بدون الثلث مع إجازتهم له الوصية به (1).

والمستحب عندنا للغني الوصية بالخمس ونحوه كما يروى عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ظاهر قول السلف وعلماء أهل البصرة (2).

قال الصدّيق رضي الله عنه: إن الله تعالى رضي من غنائم المؤمنين بالخمس، وقال: وصيت بما رضي الله لنفسه، يعني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (3)[الأنفال: 41].

وروي أنّ أبا بكر وعليًّا - رضوان الله عليهما - أوصيا بالخمس (4).

وعن عليّ رضي الله عنه: لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليّ من الربع (5).

وعن الشعبي، قال: كان الخمس أحبّ إليهم من الثلث (6).

(1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (12/ 136).

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 427).

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(16363).

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(16364)، عن الحسن، وأبي قلابة، قالا: أوصى أبو بكر بالخمس.

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(16361)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(30925).

(6)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 132).

ص: 180

وقال إسحاق بن راهويه: السنّة الربع، إلّا أن يكون رجلًا يعرف في ماله شبهات أو غيرها، فله استيعاب الثلث (1).

وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن عباس رضي الله عنهما: وددت أنّ الناس غضوا من الثلث -بالمعجمتين (2) -؛ أي: نقصوا.

ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه جاءه شيخ، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا شيخٌ كبير، ومالي كثير، ويرثني أعراب موالي كلالة منزوح نسبهم، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، فلم يزل يحطّ حتى بلغ العشر (3).

والمعروف من مذهب الشافعي استحباب النقص من الثلث (4).

وفي "شرح مسلم" للإمام النووي: إن كان الورثة فقراء، استحب أن ينقص، وإلّا فلا (5).

الثالث: إنما تُستحب الوصية بجزءٍ من المال لمن ترك خيرًا؛ لأن الله تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، فنسخ الوجوب، وبقي الاستحباب في حق من لا يرث (6).

وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 57).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 233).

(3)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 130).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 370).

(5)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 77).

(6)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 424).

ص: 181

"يا بن آدم! جعلت لك نصيبًا من مالك حين أخذت بكفيك لأطهرك"(1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم" رواه ابن ماجة (2).

وقال الشعبي: من أوصى بوصية، ولم يَجُر، ولم يحف، كان له من الأجر مثل ما لو أعطاها وهو صحيح (3).

فإن كان الموصي فقيرًا له ورثة فقراء، فلا تستحب له الوصية بشيء من ماله؛ لأن الله تعالى يقول في الوصية:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد:"إنّك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"، وقال صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"(4)، وقال علي لرجل أراد أن يوصي:"إنك لن تدع طائلًا، إنما تركتَ شيئًا يسيرًا، فدع لورثتك"(5).

قال في "شرح المقنع": من ترك ستين دينارًا، فما ترك خيرًا، وقال طاوس: الخير ثمانون دينارًا، وقال الإمام أحمد: إذا ترك دون الألف، فما ترك خيرًا (6).

قال في "شرح المقنع": والذي يقوى أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة فلا تستحب الوصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع في الوصية بقوله:

(1) رواه ابن ماجة (2710)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث.

(2)

رواه ابن ماجة (2709)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث.

(3)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 133)، والدارمي في "سننه"(3178).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 298 - 299).

(6)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 425 - 426).

ص: 182

"أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة"، ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان تركه لهم كعطيتهم إياه، فيكون ذلك أفضل من الوصية به لغيرهم، فحينيذٍ يختلف الحال باختلاف الورثة كثرةً وقلةً وغَناء وحاجة، فلا يتقيد بقدر من المال (1).

قلت: هذا حيث لا شبهة في المال، وأما إن كان فيه شبهة، أو زكاة مجهولة مما يشغل ذمّته، فالمتعين عليه إبراء ذمّته؛ لأنه من البداءة بنفسه، والله تعالى الموفق.

(1) المرجع السابق، (6/ 426).

ص: 183