الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (1).
* * *
(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (3964)، كتاب: المغازي، باب غزوة خيبر، و (4798)، كتاب: النكاح، باب: من جعل عتق الأمة صداقها، و (4874)، باب: الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1365)، (2/ 1045)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وأبو داود (2054)، كتاب: النكاح، باب: في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها، والنسائي (3342)، كتاب: النكاح، باب: التزويج على العتق، والترمذي (1115)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يعتق الأمهَ ثم يتزوجها، وابن ماجه (1957)، كتاب: النكاح، باب: الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 595)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 137)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 220)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 45)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1305)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 129)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 238)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 17)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 147)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 296).
صفيةَ) بنتَ حُيَيِّ بنِ أخطبَ أُمَّ المؤمنين رضي الله عنها، وتقدمت ترجمتها في "الاعتكاف"، (وجعل) صلى الله عليه وسلم (عتقَها صداقَها)، أخذ بهذا الإمام أحمد رضي الله عنه.
قال الإمام ابن القيم في "الهدي": ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أعتق صفية رضي الله عنها، وجعل عتقها صداقها، قيل لأنس بن مالك رضي الله عنه: ما أصدقَها؟ قال: أصدقَها نفسَها (1).
وقد ذهب إلى جواز ذلك عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفعله أنسُ بن مالك، وهو مذهب أعلم التابعين وسيدهم سعيدِ بنِ المسيب، وأبي سلمةَ بنِ عبد الرحمن، والحسنِ البصري، والزهري، وإسحاق (2)، انتهى.
وفي "شرح البخاريّ" للحافظ ابن حجر: أنه ذهب للقول بصحة ذلك -أيضًا-: إبراهيمُ النخعي، وطاوس، والزهري، ومن فقهاء الأمصار: الثوري، وأبو يوسف، فقال هؤلاء كإمامنا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها، صح العتق والعقد والمهر على ظاهر الحديث.
وقول أنس رضي الله عنه: أمهرها نفسَها (3)، ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق.
وأجاب من لم يقل بصحة ذلك بأجوبة عن ظاهر هذا الحديث، منها: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب له عليها قيمتها، وكانت معلومة، فتزوجها بها.
(1) رواه البخاري (3965)، كتاب: المغازي، باب: غز وة خيبر، ومسلم (1365)، كما تقدم عنه قريبًا.
(2)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 156).
(3)
رواه البخاري (905)، كتاب: صلاة الخوف، باب: التبكير والغلس بالصبح.
وقال بعضهم: بل جعل صلى الله عليه وسلم نفسَ العتق المهرَ، ولكنه من خصائصه، فجعل الجواب عن ظاهر الحديث: أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تشاركه فيها أمته، وممن جزم بذلك الماوردي من الشّافعيّة.
وقال آخرون: قوله: أعتقها وتزوجها، معناه: أعتقها، ثمَّ تزوجها، فلما لم يعلم أنس رضي الله عنه أنه ساق لها صداقًا، قال: أصدقها نفسَها؛ أي: لم يصدقها فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق.
ومن ثمَّ قال أبو الطيب الطبري من الشّافعيّة، وابنُ المرابط من المالكية، ومن تبعهما: إن قول أنس قاله ظنًا من قِبل نفسه، ولم يرفعه، وربما تعللوا بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة، ويقال: أمة الله بنت رزينة، عن أمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وخطبها، وتزوجها، وأمهرها رزينة (1)، وكان أتى بها سبية من قريظة والنضير، وهذا لا تقوم به حجة، لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبراني، وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها، قالت: أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي، رواه الأثرم -أيضًا (2) -، وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ما ظنه، ثمَّ إن هذا الحديث الذي ذكره البيهقي خلاف ما عليه كافة أهل السير من أن صفية من سبي خيبرو لا من سبي قريظة والنضير.
وأجاب بعضهم: أن حديث أنس باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية رضي الله عنها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر في الحال ولا في المآل.
قال ابن الصلاح: معناه: أن العتق حلَّ محل الصداق، وإن لم يكن
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 128).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 73)، وفي "المعجم الأوسط"(4953)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(7/ 115).
صداقًا، قال: وهذا كقولهم: الجوعُ زادُ من لا زادَ له، قال: وهذا الوجه أصحُّ الأوجه وأقربُها إلى لفظ الحديث.
وتبعه النّوويّ في "الروضة"(1).
قال في "الفتح": ومن المستغربات قولُ التّرمذيّ بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
قال: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقَها صداقَها حتى يجعل لها مهرًا سوى العتق، والقول الأول أصح، وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي.
قال الحافظ في "الفتح": والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأول، ولاسيما نص الشّافعيّ على من أعتق أمته على أن يتزوجها، فقبلت، عتقت، ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها؛ لأنه لم يرض بعتقها مجانًا، فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهرٍ يتفقان عليه، كان لها ذلك المسمى، وعليها له قيمتها، فإن اتحداو تقاصا.
قال في "الفتح": وممن قال بقول الإمام أحمد من الشافعية: ابنُ حبان، صرّح بذلك في "صحيحه"(2).
قال ابن دقيق العيد: الظاهرُ مع الإمام أحمد ومن وافقه، والقياسُ مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر، مع كون ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح،
(1) انظر "روضة الطالبين" للنووي (7/ 11).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 131).
وخصوصًا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله -تعالى-: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] الآية (1).
وممن جزم بأن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم: يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي، قال: وكذا نقله المزني عن الشافعي، قال: وموضع الخصوصية: أنه أعتقها مطلقًا، وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود (2)، وهذا بخلاف غيره (3).
قلت: وقد أطالوا في رد ظاهر الحديث بأقيسة جدلية وتخيلات فكرية لا طائل تحتها، وما دلّ عليه الحديث الصحيح هو الصحيح.
ولذا قال: الإمام ابن القيم في "الهدي": والقول الأولُ هو الموافق للسنّة، وأقوال الصحابة، والقياس، فإنّه كان يملك رقبتها وملكها، فأزال ملكه عن رقبتها، وأبقى ملك المنفعة بعقد النكاح، فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها واستثنى خدمتها (4).
تنبيه:
معتمد مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه: أنه إذا قال لأمته القِنِّ، أو المدَبَّرة، أو المكاتَبة، أو أُمِّ ولده، أو المعلَّقِ عتقُها على صفةٍ بشرطِ كونها تحلُّ له إذن: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك، أو جعلت عتق أمتي صداقَها، أو صداقُ أمتي عتقُها، أو قد أعتقتها، وجعلت عتقها صداقها، أو أعتقيها على أن عتقها صداقها، أو أعتقتك على أن أتزوجك وعتقك
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 46 - 47).
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 128).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 130).
(4)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 156).
صداقك، صحَّ بشرط كونه متصلًا، نصًا، وأن يكون بحضرة شاهدين، نصّ عليه في رواية ابنه عبد الله -رحمهما الله ورضي عنهما-، وفي رواية مرجوحة عنه: أنه لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذثها، فإن أبت، فعليها قيمتها، وعنه رواية ثالثة: أنه يوكل رجلًا يزوجه إياها، وعلى معتمد المذهب: إن طلقها قبل الدخول بها، رجع عليها بنصف قيمتها وقتَ الاعتاق، فإن لم تكن قادرة، أُجبرت على الاستسعاء، نصًا، فإن أدت، أو فعلت ما يفسخ نكاحها؛ مثل أن أرضعت له زوجة صغيرة قبل الدخول، فعليها قيمة نفسها (1)، والله -تعالى- الموفق.
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 140)، و"الإقناع" للحجاوي (3/ 330).