الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا حَقُّ امْرىءٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ"(1).
زَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ ابنُ عُمَر: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ، إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي (2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2587)، كتاب: الوصايا، باب: الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وصية الرجل مكتوبة عنده"، ومسلم (1627/ 1 - 4)، في أول كتاب: الوصية، وأبو داود (2862)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في ما يؤمر به من الوصية، والنسائي (3615 - 3619)، كتاب: الوصايا، باب: الكراهية في تأخير الوصية، والترمذي (974)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الحث على الوصية، و (2118)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الحث على الوصية، وابن ماجة (2699، 2702)، كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية.
(2)
رواه مسلم (1627/ 4)، في أول كتاب: الوصية، والنسائي (3618)، كتاب: الوصايا، باب: الكراهية في تأخير الوصية.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 81)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 265)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 360)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 539)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 74)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 2)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =
(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حقُّ امرىءٍ مسلم) كلمة (ما) بمعنى: ليس، هكذا وقع في أكثر الروايات بلفظ: مسلم، وليست هذه اللفظة في رواية الإمام أحمد عن إسحاق بن عيسى، عن مالك (1)، والوصف بالمسلم هنا خرج مخرج الغالب، فلا مفهومَ له، أو ذكر للتهييج، لتقع المبادرة لامتثاله، لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك (2)(له شيء) قلّ أو جلّ، فهو واقع صفة لامرىءٍ (يوصي فيه) جملة فعليه صلةٌ لشيء (يبيتُ ليلتين) جملة فعلية وقعت صفة أخرى لامرىءٍ.
وقال الحافظ في "الفتح": (يبيتُ) كأن فيه حذفًا تقديره: أن يبيت، وهي كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، انتهى (3).
واعترضه البدر العيني بأنه قياسٌ فاسدٌ، وفيه تغيير المعنى أيضًا، وإنّما قدّر "أنْ" في قوله:{يُرِيكُمُ} ؛ لأنه في موضع الابتداء؛ لأن قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} في موضع الخبر، والفعل لا يقع مبتدأ، فيقدر "أنْ" فيه حتى يكون في معنى المصدر، فيصح حينيذٍ وقوعه مبتدأ، كذا قال (4).
= (3/ 1221)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 185)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 356)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 26)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 2)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 103)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 142).
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 113)، بلفظ:"ما حق امرىء له شيء. . ." الحديث.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(4)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 28).
(إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده)، وفي لفظٍ عند مسلم:"ما حقُّ امرىءٍ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيتُ ليلتين"(1)، وفي رواية:"ثلاث ليال"(2)، فقوله:"إلا ووصيته" مستثنى، وهو خبر "ما" التي هي بمعنى ليس، والواو فيه للحال.
قال صاحب "المظهر": قيدُ ليلتين تأكيد لا تحديد، يعني: لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان، وإن كان قليلًا، إلا ووصيته مكتوبة.
وقال الطيبي: وتخصيص ليلتين تسامحٌ في إرادة المبالغة؛ أي: لا ينبغي أن يبيت ليلة، وقد سامحناه في هذا المقدار، فلا ينبغي أن يتجاوز عنه (3).
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم": وفي رواية: "ثلاث ليال"(4)؛ أي: وهي رواية مسلم، والنسائي (5).
والحاصل: أن ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج، لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا المقدار، ليتذكر ما يحتاج إليه (6).
وفي رواية عند الإمام أحمد: "حقٌ على كلّ مسلم أن لا يبيت ليلتين وله
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1627/ 1).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1627/ 4).
(3)
نقلهما العيني في "عمدة القاري"(14/ 74).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 74).
(5)
وتقدم تخريجه عندهما.
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358)، وعنه.: العيني في "عمدة القاري"(14/ 28).
ما يوصي فيه"، الحديث (1)، وفي رواية عند الإمام الشافعي بلفظ: "ما حقّ امرىءٍ مسلم يؤمن بالوصية"، الحديث (2).
قال ابن عبد البر: فسّره ابن عينية: يؤمن بأنها حق (3).
وأخرجه أبو عوانة بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين" الحديث (4).
وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة، عن مالك، وابن عون جميعًا، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، بلفظ:"ما حقّ امرىءٍ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه"(5).
وذكره ابن عبد البر من طريق ابن عون بلفظ: "لا يحلُّ لامرىءٍ مسلمٍ"(6).
ففيه حث على الوصية، واحتجتْ بظاهره الظاهرية على أنها واجبة (7).
وقال الزهري: جعل الله الوصية حقًا مما قلّ أو كثر (8).
قيل لأبي مجلز: على كلِّ مَيْتٍ وصية؟ قال: كلُّ من ترك خيرًا (9).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 10).
(2)
رواه الإمام الشافعي (538 - السنن المأثورة).
(3)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 291).
(4)
رواه أبو عوانة في "مسنده"(3/ 472).
(5)
ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح"(5/ 357)، وعنه نقله الشارح رحمه الله.
(6)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 291) وقال: ولم يتابع على هذه اللفظة.
(7)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 28).
(8)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 68)، ومن طريقه: الطبري في "تفسيره"(2/ 121).
(9)
ذكره ابن قدامة في "المغني"(6/ 55).
وقال ابن حزم: روينا من طريق عبد الرزاق، عن الحسن بن عبد الله، قال: كان طلحة بن عبيد الله، والزبيرُ يشددان في الوصية (1)، وهو قول عبد الله بن أبي أوفى، وطلحةَ بنِ مصرِّف، وطاوس، وغيرهم.
قال ابن حزم: وهو قول سليمان، وجميع أصحابنا.
وقالت طائفة: ليست الوصية واجبة، سواء كان الموصي موسرًا، أو فقيرًا، وهو قول النخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم (2).
وقال ابن العربي: أما السلف الأول، فلا نعلم أحدًا قال بوجوبها (3).
وفي "شرح المقنع": الوصية بجزءٍ من ماله ليست بواجبة على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبي، وذكر الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنّ الوصية غير واجبةٍ إلّا على من عليه دين وحقوق بغير بيّنة، وأمانة بغير إشهاد، إلّا طائفة شذّت فأوجبتها (4).
وقال أبو بكر بنُ عبد العزيز: هي واجبة للأقربين الذين لا يرثون، وهو قول داود، وحكى ذلك عن مسروق، وطاوس، وإياس، وقتادة، وابن جرير، واحتّجوا بالآية، وخبر ابن عمر، قال: نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين، وحجّة الجمهور: أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لم يوص؛ لأنه لم يُنقل عنهم وصية، ولم يُنقل لذلك نكير، ولو كانت واجبة، لم يُخِلوا بذلك، ولنقل عنهم نقلًا
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(16332).
(2)
انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 312).
(3)
انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 274).
(4)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 292).
ظاهرًا؛ لأنها عطية لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت، كعطية الأجانب.
فأمّا الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: نسخها قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (1)[النساء: 7]، وقال ابن عمر: نسختها آية الميراث (2)، وبه قال عكرمة، ومجاهد، ومالك، والشافعي.
وذهبت طائفةٌ ممن يرى نسخ القرآن بالسنّة إلى أنها نُسخت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث"(3)، وحملوا حديت ابن عمر هذا على من عليه واجب، أو عنده وديعة (4).
وفي "شرح البخاري" للبدر العيني: ليس الاستدلال على وجوب الوصية بحديث ابن عمر بصحيح؛ لأنه راوي الحديث، ولم يوص، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبًا (5). وردّ ذلك بأنه (زاد مسلم) في "صحيحه" على البخاري:(قال ابن عمر) رضي الله عنهما: (ما مرّت عليَّ ليلةٌ) واحدةٌ (منذ سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك)؛ أي: الذي مرّ، وهو:"ما من امرىءٍ مسلمٍ" الحديث (إلّا وعندي وصيتي) مكتوبة، فهذا
(1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 299).
(2)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 119)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 265).
(3)
رواه أبو داود (2870)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، والترمذي (2120)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء: "لا وصية لوارث"، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (2713)، كتاب: الوصايا، باب: لا وصية لوارث، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(4)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 415 - 416).
(5)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 29).
يدل على أنّه كانت له وصية، وأُجيب بأنه قد عارضه ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال: قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أمّا مالي، فالله أعلم ما كنتُ أصنع فيه، وأمّا رباعي، فلا أحبُّ أن يشارك ولدي فيها أحد (1)، وجمع بينهما بعضهم بأنه كان يكتب وصيته، ويتعاهدها، ثمّ صار ينجز ما كان يوصي به متعلقًا بموته، وإليه الإشارة بقوله: الله يعلم ما كنت أصنع في مالي، ولعلَّ الحامل له ذلك حديثه:"إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء"(2)، فصار ينجز ما يريد التصدق به، فلم يحتج إلى تعليق (3).
ونقل ابن المنذر عن أبي ثور: أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حقٌّ شرعيٌّ يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كويعة، ودين لله، أو لآدميّ. قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"؛ لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه، ولو كان مؤجلًا، فإنه إذا أراد ذلك، ساغ له (4). وإن أراد أن يوصي به، ساغ له.
وفي الحديث: دليلٌ على جواز الاعتماد على الكتابة والخط، ولو لم
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(4/ 185)، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (ص: 118)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 119). وسنده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(5/ 359).
(2)
رواه البخاري (6053)، كتاب: الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359)، وعنه: العيني في "عمدة القاري"(14/ 29).
(4)
المرجعان السابقان.
يقترن ذلك بالشهادة، وبه قال الإمام أحمد، ومحمد بن نصر من الشافعية (1).
وقال الشافعي: المراد بهذا الحديث: الحزم والاحتياط للمسلم، إلا أن تكون وصيته مكتوبةً عنده، فيستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحته، ويُشهد عليها فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد أمرٌ يحتاج إلى الوصية به، ألحقه (2).
وقال الإمام النووي: قالوا: لا يكلف أن يكتب كلَّ يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة، ولا يقتصر على الكتابة، بل لا يعمل بها، ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، قال: هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور (3).
فإن قيل: من أين اشتراط الإشهاد مع أنّ إضماره فيه بُعد؟
أجاب: بأنه قد استدل عليه بأمرٍ خارج، كقوله تعالى:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} [المائدة: 106]، فإنه يدلُّ على اشتراط الإشهاد في الوصية (4).
وقال القرطبي: ذكرُ الكتابة مبالغةٌ في زيادة التوثُّق، وإلّا فالوصية المشهود بها متفق عليها، ولو لم تكن مكتوبة (5)، انتهى.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
(2)
نقله النووي في "شرح مسلم"(11/ 75).
(3)
المرجع السابق، (11/ 75 - 76).
(4)
السائل والمجيب في هذه المسألة هو العيني، كما في "عمدة القاري" له (14/ 29)، خلافًا لما يوهمه كلام الشارح رحمه الله.
(5)
انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 542).
قلتُ: لا يخفى على منصفٍ أن الآية التي فيها الإشهاد ليس فيها ذكر الكتابة، فدلّت الآيات والأحاديث على ثلاث حالات للوصية؛ لأنها إمّا أن تكون مكتوبة، أو لا، وعلى كلٍّ، إمّا أن يكون أشهد عليها، أو لا، فإذا كانت مكتوبة، وقد أشهد عليها، فمتّفق على العمل بها، وكذا إذا كانت غير مكتوبة، ولكنه قد أشهدَ عليها، وأما إذا كانت مكتوبة بخطه المعروف، ولا شهادة عليها، فهي محل نزاع، وأما القسم الرّابع، وهو ألا تكون مكتوبة، ولا إشهاد عليها، فهو غير ملتفت إلى هذا رأسًا.
قال صدر الوزراء أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرةَ رحمه الله، ورضي عنه-: اختلفوا فيما إذا كتب وصيته بخطه يعلم أنه خطّه، ولم يُشهد فيها، هل يحكم عليه كما لو أشهد بها؛ فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا يحكم بها.
وقال أحمد: من كتب وصيته بخطه، ولم يُشهد فيها، حُكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها، انتهى (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مختصر الفتاوى المصرية": إذا كان الميت ممن يكتب ما عليه للناس في دفتره، أو كان له وكيلٌ يكتب بإذنه، فإن وصيَّه يرجع في ذلك إلى الكتاب الذي بخطه، أو خطّ وكيله، فما كان مكتوبًا ليس عليه علامة الوفاء، كان بمنزلة إقرار الميِّت، فخطُّ الميت، وإقرارُ الوكيل فيما وُكل فيه، أو خطُّه، مقبولٌ، ولكن على صاحب الدين اليمين أنّه لم يقبض، ولم يبرأ، وأنه يستحقه، انتهى (2).
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 80).
(2)
وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 520).
ومعتمد المذهب: اعتبارُ كون الخط خطَّ الموصي، إما بإقرار وارث أنّه خط مورِّثه، أو بيِّنة تشهد أنه خطه (1).
تنبيهان:
الأوّل: تجب الوصية على مَنْ عليه حقٌّ بلا بيّنة، فيوصي بالخروج منه، وتسن لمن ترك خيرًا -وهو المال الكثير عرفًا- بخُمسه لقريب فقيرٍ، ولعالمٍ، ومسكينٍ، وتُكره في حق فقيرٍ له ورثة، إلا أن يكونوا أغنياء، فإن كانوا كذلك، فتباح إِذًا، وتحرم -ولو لصحيح ممّن يرثه غيرَ زوجٍ وزوجة- بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارثٍ بشيء، وتصح، وتقف على إجازة الورثة، وتصح ممّن لا وارث له بنحو رحمٍ بجميع ماله، فلو ورثَهُ زوج أو زوجة، وردَّها بالكلّ، بطلت في قدر فرضه من ثلثيه، فيأخذ وصيّ الثلث،
ثمّ ذو الفرض فرضه من ثلثيه، ثمّ تتم الوصية منهما، ولو وصَّى أحدهما للآخر، فله كلّه إرثًا ووصية (2).
الثاني: يُستحب أن يكتب في صدر وصيته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أوصى به فلان: أنه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنّة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وأوصي من تركتُ من أهلي أن يتقوا الله، ويصلوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب:{يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. أخرجه سعيد عن فضيل بن
عيّاض، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك -
(1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 445).
(2)
المرجع السابق، (4/ 446 - 448).
رضي الله عنه -، قال أنس: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم، فذكره (1).
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنّه كتب في صدر وصيته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ذكرُ ما أوصى به عبد الله بن مسعود إنْ حدث لي حادثُ الموت من مرضي هذا: أن مرجع وصيتي إلى الله تعالى، ثم إلى الزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأنهما في حلٍّ وبلٍّ ممّا وليا وقضيا، وأنه لا تُزوَّج امرأة من بنات عبد الله إلا بإذنهما (2).
وروى ابن عبد البر، قال: كان في وصية أبي الدرداء: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما وصى به أبو الدرداء: أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنّ الجنّة حق، وأنّ النّار حق، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وأنه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويكفر بالطاغوت، على ذلك يحيا ويموت -إن شاء الله تعالى- (3).
تتمة في ذكر أحاديت مما ورد في الحث على الوصية والترهيب من تركها:
روى ابن ماجة عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "من مات على وصيةٍ، مات على سبيلٍ وسنّةٍ، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفورًا له"(4).
(1) رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 126 - 127)، وعبد الرزاق في "المصنف"(16319)، والدارقطني في "سننه"(4/ 154)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 287).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 159)، والحاكم في "المستدرك"(5373)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 282).
(3)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(14/ 309).
(4)
رواه ابن ماجة (2701)، كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية.
وروى الطبراني في "الصغير، والأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: ترك الوصية عارٌ في الدنيا، ونارٌ وشنار في الآخرة (1).
وروى أبو داود، والترمذي وحَسَّنه، وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الرجلَ ليعمل -أو المرأة- بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية، فتجب لهما النار"، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتى بلغ: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2)[النساء: 12 - 13].
ولفظ ابن ماجة: "إنّ الرجل ليعملُ بعملِ أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى، حاف في وصيته، فيختم له بشرِّ عمله، فيدخل النار، وإنّ الرجل ليعملُ بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنّة"(3).
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر"، ثم تلا:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (4)[النساء: 13].
وروى أبو يعلى بإسنادٍ حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5423)، وفي "المعجم الصغير"(809).
(2)
رواه أبو داود (2867)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، والترمذي (2117)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الضرار في الوصية.
(3)
رواه ابن ماجة (2701)، كتاب: الوصايا، باب: الحيف في الوصية.
(4)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(11092).
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول الله! مات فلان، قال:"أليس كان معنا آنفًا؟ "، قالوا: بلى، قال:"سبحان الله! كأنها أخذةٌ على غضب، المحرومُ من حرم وصيته"(1).
ورواه ابن ماجة مختصرًا، قال صلى الله عليه وسلم:"المحروم من حرم وصيته"(2)، والله أعلم.
(1) رواه أبو يعلى في "مسنده"(4122)، وكذا الطيالسي في "مسنده"(2112).
(2)
رواه ابن ماجة (2700)، كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية. وانظر فيما ذكره الشارح رحمه الله من الأحاديث في هذه التتمة: "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/ 168) وما بعدها.