الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصطلحات التي تجري على الألسن دون أن تتضح مدلولاتها في أذهان مستعمليها أو يكونوا متفقين على ما بها يعنون من ذلك كلمات: الجمال والشعر والخيال والأدب والمثالية، وغيرها كثير؛ وذلك أن هناك فرقًا واضحًا بين الأشياء الحسية التي يتلقاها الإنسان بحواسه الظاهرة ويجري عليها تجاربه المتنوعة، ويبرئها من التأثير بمزاجه وعواطفه، وبين الأشياء الروحية والمعنوية التي يصعب إخضاعها للتجارب المحدودة، والنواميس الثابتة لتغيرها واتصالها بالطبائع والانفعالات؛ فالأولى يمكن تعريفها بدقة أو قريب من ذلك كالمثلث والجزيرة والأجسام الصلبة والسائلة، والثانية: تجد معانيها مبهمة غير محدودة حتى في البيئة الواحدة بين المشتغلين بها. وقد يحتال بعض الباحثين للخروج من هذا الإبهام؛ فيضع تعاريف عامة تتناول أكثر المعاني الجزئية؛ ولكن ذلك يزيد في غموضها إذ لا يعرف القارئ أي المعاني يراد، وربما كان خيرًا منه ذلك الذي يذكر للكلمة ما يريد لها من معنى في موضوعه، ثم يشير إلى أن لها معاني أخرى في غير هذا المقام"1.
1 أحمد الشايب: "أصول النقد الأدبي" ص16.
الثقافة في اللغات الأجنبية:
إن المشكلة في تعريف الثقافة ليست مشكلة خاصة بنا بل هي مشكلة الإنسان وعلاقة اللغة بالفكر، وما يطرأ على هذا الفكر من تطور يتجلى في انتقاله من الأمور المحسوسة أو المادية، إلى المفاهيم المجردة والأمور المعنوية. وفي حركته من البسيط إلى المركب وما يطرأ على هذا وذاك من نمو يتزايد أحيانًا حتى يبلغ حد التركيب المعقد، وقد تختفي صورته البسيطة الأولى إزاء ما يتراكم عليه من صور جديدة؛ ومن هنا يحاول الباحثون عند بحث مشكلة التعريف للأمور المعنوية -وهو إطلاق الاسم على شيء ما- أن يتتبعوا أصل التعريف: أي معرفة المدلول الذي كان مرادًا عند بدء إطلاق الاسم على الشيء.. ثم البحث
بعد ذلك فيما طرأ على هذا المدلول من تطور، ومحاولة معرفة العلاقة أو العلاقات الجديدة في ضوء العلاقة الأصلية الأولى، وإذا أعياهم ضبط هذه العلاقات أو حصرها في نطاق الحقيقة اللغوية؛ كان لهم في المجاز سعة وأي سعة1.
فما هي صورة مشكلة تعريف الثقافة في اللغات الأجنبية؟
ليس من شك في أن معرفة هذه الصورة وتقصي تاريخها من حيث معرفة الأصل وما طرأ عليه بعد ذلك من تطور حتى أخذ الشكل المألوف سوف يوضح لنا جوانب كثيرة من استعمال كلمة "الثقافة" في الاصطلاح الحديث في لغتنا واللغات الأجنبية؛ وهو اصطلاح يجدر بنا أن ندركه في صدد بيان ما نقصد إليه من توضيح معنى الثقافة الإسلامية في مدلولها الحديث.
1-
"إن الثقافة" في اللغات الأجنبية -الفرنسية والإنجليزية والألمانية- يعبر عنها بلفظة "Culture" وتفيد معنى الزراعة والاستنبات. وقد أصبحت كلمة الثقافة في الاصطلاح العرفي في العربية وغيرها تفيد معنى ما يكتسبه الإنسان من ضروب المعرفة النظرية والخبرة العملية، التي تحدد طريقته في التفكير، وموافقة في مختلف طرق الحياة، من أي جهة حصلت تلك المعرفة وتلك الخبرة؛ سواء أكانت من البيئة والمحيط والمدرسة والمهنة أم من طرق أخرى غيرها"2.
ولا بد لنا أن نأخذ بمزيد من التفصيل عن دلالة هذه الكلمة "Culture" من حيث أصلها وما طرأ عليها من تطور فيما بعد:
أ- كانت هذه الكلمة تدل من حيث الأصل اللاتيني في العصور
1 انظر في "حدي الحقيقة والمجاز" كتاب: "أسرار البلاغة" عبد القاهر الجرجاني ص302 وما بعدها.
2 عن محاضرة للأستاذ محمد المبارك بعنوان "سلطان الثقافة الغربية على الفكر الإسلامي المعاصر".
القديمة والوسيطة على تنمية الأرض ومحصولاتها، ويقال: إن "شيشرون 106_43 ق. م" -الخطيب والسياسي والكاتب الروماني المشهور- كان أول من استعمل هذه الكلمة بمعناها المجازي فسمى الفلسفة "Culture Mentis" أي فلاحة العقل أو تنميته؛ ولكن هذا الاستعمال لم يلق الرواج كثيرًا في اللغة اللاتينية في أول الأمر؛ غير أن الحال قد تغير فيما بعد.
ب- ولما كانت اللاتينية أم اللغات الأوربية من إنكليزية وفرنسية وألمانية؛ فقد استعملت كلمة "الثقافة" في أوائل العصور الحديثة -في الإنكليزية والفرنسية- بمدلولها المادي والعقلي، ثم جاء الكتاب الفرنسيون -كفولتير وأقرانه- في القرن الثامن عشر الميلادي؛ فأطلقوا هذه الكلمة دون إضافتها إلى أمر مادي أو معنوي، وغدت بعد ذلك تدل على تنمية العقل والذوق، ثم انتقلت بعد ذلك إلى حصيلة عملية هذه التنمية وهي: المكاسب العقلية والأدبية والذوقية.
جـ- أما في الإنكليزية؛ فإن أول نص تستعمل فيه هذه الكلمة -بما يتفق مع ما أسلفنا- إنما يعود -حسب معجم إكسفورد- إلى عام 1805م ولا يزال هذا المفهوم هو المعنى السائد في اللغات الغربية.. ولم ينتقل من الفرنسية إلى الألمانية -بهذا المعنى- إلا في أواخر القرن الثامن عشر.
- أخذ معنى هذه الكلمة يتطور عند الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرخين، وكان لا بد أن يطرأ عليه بعض التغير خلال تطوره هذا.. وكان أول ما طرأ عليه من تغير هو تحوله من الدلالة على الإنماء الفردي، إلى أحوال المجموعات الإنسانية من الأمم والشعوب، وغدت هذه الكلمة تطلق على مجموعة عناصر الحياة وأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات،
وقد برز هذا المعنى في القرن التاسع عشر عند المؤرخ والعالم الاجتماعي الألماني "Cuslav-Klemm" الذي يعتبر مؤسس علم "الإنثروبولوجيا" الحديث: أي علم الإنسان الذي يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته.
3-
ولا تزال كلمة "Culture" تستعمل في الفرنسية والإنكليزية ولغات أخرى بمعنى الثقافة الفردية والثقافة بوجه عام، وكان من الطبيعي إزاء تقدم العلوم الطبيعية والتطبيقات الصناعية أن يعود إليها في هذه العلوم والتطبيقات معناها الأصلي أي عملية إنماء الأشياء المادية كالجراثيم واللآلئ بـ "الزرع" و "التصنيع"1.
قال صاحب معجم "المورد"2: في مادة "Culture" هي: حراثة، تهذيب، ثقافة، حضارة، أو مرحلة معينة من مراحل التقدم الحضاري، الاستنبات: زرع البكتريا "الأنسجة الحية" للدراسة العلمية أو للأغراض الطبية.
1 انظر في هذا الموضوع: زريق: "في معركة الحضارة".
2 منير بعلبكي: "المورد" ص238 ط الثالثة.