الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثقافة في نطاق اللغة:
1-
إن الثقافة -بمدلولها العام الشائع- كلمة جديدة لا تتصل بالمدلول اللغوي الذي ذكرته معاجمنا العربية إلا على ضروب من التأويل والمجاز، لا تستقيم في كل الأحوال التي تستعمل فيها كلمة "ثقافة"؛ فهي تعني في أكثر الاستعمالات اللغوية:"الحذق والفطنة، وسرعة أخذ العلم وفهمه، وتقويم المعوجّ من الأشياء".
أ- قال الزمخشري في "أساس البلاغة" في مادة "ثقف": "ثقف القناة، وعض بها الثقاف، وطلبناه فثقفناه في مكان كذا: أي أدركناه. وثقفت العلم أو الصناعة في أوهى مدة: إذا أسرعت أخذه، ومن المجاز: أدَّبه وثقّفه، ولولا تثقيفك وتوقيفك لما كنت شيئًا. وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك".
ولو رحنا نتقصى مدلول هذه المادة في المعاجم العربية الأخرى قديمها وحديثها، لما ظفرنا بشيء جديد؛ ذلك أن هذه المعاجم ينقل بعضها عن بعض.
ب- قال في "القاموس المحيط":
""ثقف" ككرم وفرح ثقفًا وثقفًا وثقافة: صار حاذقًا خفيفًا فطنًا، وثقفه كسمعه: صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه
…
وأُثْقِفْتُهُ، أي قُيّضَ لي، وثقفه تثفيفًا: سَوَّاهُ"
جـ- وفي مختار الصحاح -للرازي-:
ثقف الرجل من باب ظرف صار حاذقًا خفيفًا
…
وثقف
من باب طرب لغة فيه. والثقاف: ما تسوّى به الرماح. وتثقيفها تسويتها، وثقفه من باب فهم صادفه".
2-
وقد وردت لفظة "ثقافة" معطوفة على لفظة "صناعة" في مقدمة "طبقات الشعراء" لأبي عبد الله محمد بن سلام الجُمَحي "232هـ".
فقال1:
"وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات؛ منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان".
وقد فهم بعض الباحثين في النقد الأدبي أن لفظة "صناعة" تعني لدى ابن سلام ميزان نقد الشعر فقال:
"كان ابن سلام أول من نص على استقلال النقد الأدبي؛ فأفرد الناقد بدور خاص، حين جعل للشعر -أي لنقده والحكم عليه- "صناعة" يتقنها "أهل العلم بها" مثلما أن نقاد الدرهم والدينار يعرف صحيحهما من زائفهما بالمعاينة والنظر. ولعله كان يرد على من يتطاولون إلى الحديث في نقد الشعر من معاصريه وهم لا يملكون ما يسعفهم على ذلك"2. وهنا يبقى السؤال قائمًا حول ما يعنيه ابن سلام من كلمة "ثقافة" التي عطفها على لفظة "صناعة" فإذا كان ينفي الترادف؛ فإن مدلول لفظة "ثقافة" -كما يفهم من كلامه- يعني الحذق والفهم والقدرة، أو ما يمكن أن نعبر عنه بما يسمى "الملكة".. فإذا أضيفت الكلمة إلى الشعر؛ كانت ملكة الشعر.. أي القدرة على فهمه وحذقه ونقده.. وإذا أطلقت دون
1 ابن سلام: "طبقات الشعراء ص 6"
2 الدكتور إحسان عباس: "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" ص 78
أن تضاف إلى علم أو فن؛ فليس ثمة ما يمنع أن تدل على ما نطلق عليه اليوم الثقافة العامة؛ فإذا جَعَلَ ابن سلام للشعر ثقافة؛ فإن معنى ذلك أن للنثر ثقافة أيضًا، وهي "الثقافة الأدبية"، وتتسع الدائرة ويتنوع المدلول كلما أضيفت الثقافة إلى علم أو فن خاص؛ كأن نقول: الثقافة الشرعية، والثقافة التاريخية، والثقافة الفلسفية والثقافة الطبية.. ونحو ذلك..؛ فإذا ذكرت اللفظة دون إضافتها إلى شيء؛ فليس لها -على هذا التفسير- إلا التنوع والعموم، وإذا اتصف بها إنسان كانت ملكته في فهم ضروب العلوم والفنون والمعارف ملكة جيدة بوجه عام، وهذا هو ما يدل عليه لفظ "المثقف" في الاصطلاح الشائع في هذا العصر.
ويلفت بعض الباحثين النظر إلى أنه لا أثر لهذه الكلمة "الثقافة" في لغة "ابن خلدون" الذي يعتبر المرجع الأول لعلم الاجتماع العربي في العصر الوسيط1.
وإذا كان من غير الميسور أن يحصي الباحث كل ألفاظ ابن خلدون في "المقدمة" ليرى إن كان قد استعمل هذا اللفظ أم لا؟ فإن الحقيقة أن ابن خلدون قد تناول في "الباب السادس" من "المقدمة" الكلام على كل أنواع العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه.. وقد عقد واحدًا وستين فصلًا عالج فيها البحث في مختلف أنواع الثقافة في عصره، وإن لم يستعمل لفظة "الثقافة" نفسها كما سلف2.
ولعل ابن خلدون كان يعني بما أطلق عليه "الملكة" ما تدل عليه لفظة "الثقافة": ممتزجة بالموهبة؛ فقد ذكر أن "نوع المحفوظ يقرّر اتجاه صاحبه في
1 مالك بن نبي: "مشكلة الثقافة" ص11
2 انظر: "مقدمة ابن خلدون" تحقيق: الدكتور علي عبد الواحد وافي ج3 ص1107 وج4 بكامله.