الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرايينه وأعصابه، وأصبح قطعة مفصولة عن أصلها للتحليل والتشريح، لا آلة فعالة من جهاز كبير يعمل.
على أساس هذه النظرية سنضع العقيدة في موضعها من نظام الإسلام، وهي اللبنة الأساسية في بنائه، وهي التي تمد ما في أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها، وتتضمن العقيدة الحقائق الكبرى التي دعا القرآن إلى الإيمان بها، أو التي وجه الإنسان وأرشده إليها وهي تصور الوجود، وجود الله الخالق، ووجود الكون والإنسان. والصلة بين الله والكون والإنسان، وكذلك الحياة وما وراءها من حياة أخرى أو المصير والجزاء. والنبوة التي هي طريق معرفة هذه الحقائق الكبرى1.
ترتكز الثقافة الإسلامية بهذا على المنهج الرباني وحده وتتجلى في الاعتقاد الحق، والتصور الصحيح، وقواعد الأخلاق والسلوك، والقيم والموازين التي تسود المجتمع، ونظم السياسة والاجتماع والاقتصاد.. كما تتمثل هذه الثقافة كذلك في المعرفة بكل جوانبها، وفي قواعد العمل الفكري، والنشاط العلمي، وكل ما شرعه الله تبارك وتعالى لتنظيم الحياة البشرية؛ "فالثقافة الإسلامية شاملة لكل حقوق النشاط الفكري، والواقعي والإنساني، وفيها من القواعد والمناهج والخصائص ما يكفل نمو هذا النشاط وحيويته دائمًا"2.
1 محمد المبارك: "نظام الإسلام، العقيدة والعبادة" ص28.
2 انظر في تفصيل ذلك كتاب "معالم في الطريق" تأليف: سيد قطب، فصل "التصور الإسلامي، والثقافة" ص165-182
رصيد الفطرة الإنسانية الأصلية
…
3-
رصيد الفطرة الإنسانية الأصيلة:
وترتكز الثقافة الإسلامية على رصيد حي ضخم من الفطرة الإنسانية الأصيلة فهي بذلك تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية التي فطرها الله تبارك وتعالى على الخير؛ فتقيمها على قاعدة الإيمان بالله وحده، والإذعان والرجاء في فضله،
والاحتكام إليه، وبذلك ترتفع بالإنسان إلى أفق العبودية الخالصة التي تتسق مع حقيقته وكرامته، وتنقذه من مواريث الجاهلية، وأوضاعها الباطلة التي تشوه الفطرة، وتهدد الكرامة، ويفقد فيها الإنسان معنى الإنسانية الأصيل فيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مولود يُولَدُ على الفطرة، فأبواه يهوّدَانِه، أو يُنَصِّرانِهِ أو يمجسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ "1.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء؛ فجاءتهم الشياطين فاجتالَتْهُمْ عن دينهم، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم"2.
وبهذا يتضح أن مفاهيم الإسلام -وهي ثقافته- تتفاعل في النفس الإنسانية مع الفطرة النقية التي لو تركت وأصالتها -من غير محاولة إفسادها وتشويهها- لما انحرفت عن عهد الله، أو زاغت عن هداه، أو ضلت عن سبيله، ولانطلقت في جو الحقائق الناصعة، والبراهين الناطقة، والعظات النافعة، التي تتحرر بها العقول من الأوهام والتعطل، وتطهر بها القلوب من جواذب الانحراف وضغط الأهواء.
فإذا كانت موجبات الهداية، وموحيات الإيمان، وأسباب الاستقامة ممتزجةً بكيان الإنسان منذ نشأته، وكان نور الحق مركوزًا في فطرته؛ فإن ثقافة الإسلام إنما ترتكز على هذا الرصيد الكبير النقي في إقامة الوجود الحق الكريم للإنسان، وهي تنفرد بذلك عن أي ثقافة أخرى لا تملك هذا الرصيد، فتهبط بالإنسان من الأفق الرفيع الوضيء، وينأى عن هذه الموجبات والموحيات، ويستغرق في الضلال، وينسلخ من دلائل الحق في نفسه، وفي الكون من
1 رواه الشيخان
2 رواه مسلم
حوله، ويتيه في مسالك الشيطان، وهي مسالك العقيدة الباطلة والفكر المنحرف، والسلوك الفاسد.
فالفطرة البشرية -كما أنشأها الله عز وجل محكومة بذلك الناموس الذي تصرفه المشيئة الإلهية، وهو ناموس التوحيد؛ فهي تدركه بطبيعتها؛ لأنه مستقر في صميمها، وهي تتجه وفق مقتضاه، وتتصرف بما يوحي إذا عَرِيَتْ عن التشويه والخلل، ولم تفسد بفعل الأهواء العارضة؛ فإذا سيطر الهوى على الفطرة فنالها بالتشويه والإفساد؛ كان من نتيجة ذلك أن ينحرف الإنسان عن الهدى، وتستغرق نزعات الشيطان، وينسلخ من آيات الله، ويضل سواء السبيل، وينزلق إلى حضيض الضعة، ويهبط إلى عالم الحيوان.
وإن من فضل الله تبارك وتعالى على هذا الإنسان أن زوده إلى جانب هذه الفطرة الصافية النقية، بالعقل الواعي الذي من شأنه أن يميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، وبالعين المبصرة التي تشهد دلائل الهدى في الكون والحياة، وبالأذن المدركة التي تسمع ما يتلى عليها من عظات وتوجيهات.. فمن سلمت فطرته، وتيقظت بصيرته، واستخدم ما أنعم الله عليه من وسائل المشاهدة،
1 الأعراف: 175-178
والمعرفة، فأيقن بالحق، وعرف طريق الاستقامة ومضى فيه؛ كان من المهتدين؛ وإلا كان من الضالين الغافلين الذين ينحدرون إلى درجة السوائم، بل هم أضل سبيلًا.
ذلك هو الفرق الجوهري بين ما ترتكز عليه ثقافة الإسلام من الفطرة التي تسمو بالإنسان، وتضعه على طريق الهدى والخير والاستقامة، وبين الثقافات الأخرى التي لا تقيم وزنًا لهذه الفطرة وموجباتها ومقتضاها، فتهبط بالإنسان ذلك الهبوط المزري بكرامته، المنسلخ عن الحق، المغرق في ظلمات الضلال والفساد، المتقلب في القلق والشقاء والضياع.
1 الأعراف: 179.