الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حالة الإكراه. كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان حيث قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبي الحُسَيل، فأَخَذَنَا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، وما نريد إلا المدينة، فأخذوا منَّا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" 1.
4-
كان سهيل بن عمرو يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية -بينما كان يكتب عهد الهدنة وقبل توقيعه- جاءه أبو جندل بن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فرَّ من الكفار، فلما رأى سهيل ابنه قام وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدقت". فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أَأُرَدُّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فلم يغنِ عنه ذلك شيئًا، وردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقًا للشروط التي اتفق عليها، وإن كان بعدُ لم يوقعها.
5-
ولما كان معاوية بن أبي سفيان في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمَدُ، أراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى العهد غزاهم فقال له عمرو بن عنبسة: الله أكبر يا معاوية. وفاء لا غدر. لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمرها، أو ينبذ إليهم على سواء". فرجع معاوية بالجيش.
1 انظر: "الفلسفة القرآنية" تأليف: عباس محمود العقاد ص93.
بين وفاء المسلمين وغدر أعدائهم:
1-
في التاريخ الإسلامي وقائع لا تحصى من وفاء المسلمين بعهودهم، وهي صفحات فِخَار تشهد بحرص المسلمين على الوفاء بعهودهم؛ اتباعًا لأمر
1 انظر: "الفلسفة القرآنية" تأليف: عباس محمود العقاد ص93.
ربهم وسنة نبيهم، وفيها دلالة على أن المسلمين كانوا أول من وضع هذه القاعدة الأخلاقية الرفيعة موضع التطبيق، ثقة منهم بأن الوفاء بالعهد في ذاته قوة، فوق أنه عدالة وفضيلة، وهو دعامة أساسية من دعائم السلام. إن العهد في ذاته قوة، والتزامه قوة؛ لأن يؤمن فيه جانب الاعتداء، وأمن الاعتداء يثبت دعائم السلام، والسلام تطمئن فيه الشعوب وتستقر، ولذلك شبه القرآن الكريم من ينقض عهده بحال الحمقاء التي تغزل غزلها، فتحكمه وتقويه، ثم بعد ذلك تنقضه أنكاثًا أي: أجزاء صغيرة متفرقة مشعثة، وذكر أن النكث فيه زَلَل للقدم بعد ثبوتها؛ إذ أنها تثبت بالسلم الذي أوجده العهد، وفي السلم قوة وثبات، والنقض إزالة للأمن وللثبات المستمر والاطمئنان الدائم1. وذلك حيث يقول الله عز وجل:
ويختم الآيات بقوله:
فهنا يحتم الإسلام الوفاء بالعهد وعدم نقضه، ويحذر من الخديعة والدَّخَل في المواثيق، بغية أن تكون أمة هي أربى من أمة، فهذا العذر الذي يعتذر به الساسة وهو "مصلحة الدولة" لا يعترف به الإسلام، ولا يراه مبررًا
1 انظر "الوحدة الإسلامية" تأليف: محمد زهرة ص320.
2 [النحل: 92] .
3 [النحل: 94] .
للخديعة والدخل في العهود، ولا في نقض المعاهدات والمواثيق، ولم تكن قواعد الإسلام مثلاً نظرية، بل كانت سلوكًا عمليًا في حياة المسلمين وصلاتهم الدولية1.
2-
وهنا نتساءل في صدد الموازنة بين موقف الإسلام من هذه الفضيلة وبين موقف غيره، الذي اتسم بالغدر والخيانة ونقض العهود وهدر المواثيق: أين هذا كله مما فعله "ريتشارد قلب الأسد" الذي أمن حامية بيت المقدس من المسلمين على أنفسهم، وعاهدهم على أن يفي لهم بعهده شرط أن يفتحوا الأبواب ويسلموا أنفسهم.. ولما فعلوا ذلك قتلهم جميعًا، ثم أباح المدينة لجيوشه، فلبغ عدة من ذبحه الصليبيون من العجزة والنساء والأطفال سبعين ألفًا. ولكن صلاح الدين الأيوبي -وقد أشربت نفسه بتعاليم الإسلام- لما استعاد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد 90 سنة من مجزرة الغدر والخيانة ونقض العهد؛ لم يعاملهم بالمثل؛ إذ أنه لما سلمت له الحامية المسيحية أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مئة ألف، وسمح لهم بالخروج لقاء مبلغ قليل يدفعه المقتدرون منهم، وأعطاهم مهلة للخروج أربعين يومًا، وأطلق كثيرًا من فقرائهم بغير فدية. وأدى أخوه الملك العادل الفدية عن ألفي رجل منهم، وحين أشير عليه أن يأخذ من البطريرك الصليبي ما حمله من أموال طائلة من البِيَعِ والصخرة والقيامة، رفض ذلك وقال:"لا أغدر به، وفاء بقدر خير من غدر بغدر" وأبى أن يقابل صنيع "ريتشارد" بمثله، بل آسى جرحاهم ومرضاهم وأرسل بالأدوية والأزواد إلى "ريتشارد" نفسه، وأرسل مع الذي أجلاهم عن بيت المقدس، ورحلوا للحاق بقومهم مَن يحميهم، ويوصلهم إلى أماكن الصليبيين في "صور" و "صيدا" بأمان2.
1 انظر: "نحو مجتمع إسلامي" تأليف: سيد قطب ص125.
2 انظر: "من روائع حضارتنا" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص100.
وانظر: "مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" تأليف: علي علي منصور ص60.
3-
ولعل الوقائع التاريخية عن نقض الأوربيين لعهودهم عبر عصور كثيرة تكون خير رد على ما يرجف به أعداء الإسلام ضد مبادئه وتاريخه الفذ في هذا المضمار الناصع.
"فالمعروف أن باباوات أوروبا ادعوا لأنفسهم خلال قرون طويلة حق إبرام الإيمان والعهود ونقضها.
فالبابا أوريان السادس حرَّم كل الأحلاف والمعاهدات التي تعقد مع أمراء ملحدين. أو أمراء انفصلوا عن كنيسة روما، واعتبر ما عُقِدَ منها باطلاً. وأعفى الملوك والأمراء الموالين للكنيسة الكاثوليكية من هذه المعاهدات.
والبابا بولس الثالث صرَّح بأن جميع المعاهدات التي تعقد في المستقبل مع الملحدين باطلة مهما كانت اليمين التي تؤيدها.
والبابا جول الثاني أخلى فرديناند الكاثوليكي من معاهدته مع لويس الثاني عشر.
ولقد هاجم "جون بدوان" خلال القرن السادس عشر النظرية التي أباحت للبابوات أن يحلوا الملوك والأمراء من اليمين التي توثقت بها المعاهدات"1.
1 علي علي منصور: "مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" ص61.