الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمو بالنفس وتطهير الضمير:
1-
إن إصلاح الفرد إصلاحًا يجعله جديرًا بحمل المبادئ الفاضلة، والعمل لتحقيق الأهداف السامية؛ لا يتم ولا يؤدي ثمرته المرجوة إلا إذا مَسَّ الإصلاح -أولاً- نفسه التي بين جنبيه، باعتبارها مصدر السلوك وموطن الشعور، ومبعث الأعمال التي توصف بالخير أو الشر، وتضع الإنسان مع الأخيار المفلحين، أو الأشرار الخائبين، كما قال تعالى:
ولذا فإن تربية الضمير من أخطر المهام التي يتعلق بها مصير الإنسان، ويتوقف عليها ضمان سعادة الفرد وتماسك المجتمع، ومن الضروري أن يوضع لها من القواعد والأسس ما يتناسب مع دقة مهمتها وجلال رسالتها؛ لأن أي انحراف في المنطق سيئول في النهاية إلى الضياع والهلاك. وخطر الانحراف في تربية الضمير، أو إهمال تربيته؛ هو في ذلك الامتداد والتوسع الذي يشمل كل جزء من أجزاء النشاط الإنساني. ويؤكد الواقع أنه ليس لأي عامل من عوامل الحركات الإنسانية -مهما
1 الشمس: "7-10".
بلغ من الدقة والتنظيم والإحكام- أثر أقوى وأبلغ وأشد فاعلية في توجيه البشر من الإيمان، وأن كل ما عداه من العوامل التي أحلها البشر محل العقيدة، واعتبروها ذات أثر في حركات الأفراد والجماعات، إنما تتفاوت -من حيث القوة والضعف- بمقدار ما بينها وبين الإيمان من المشابهة، في تمكنها من باطن السريرة وأصل الشعور.
إن الإيمان ينشئ في الإنسان ضميرًا واحدًا لا يعتريه ضعفٌ أو انهزام، ولا يتبدل وفق تبدلات الزمان والمكان، ولا يتكيف بحسب البيئة والنظم، ولا يتعطل تحت ضغط الأهواء والشهوات، إنه في يقظة دائمة وتنبه مستمر، يرصد نوازع الشر، ويحذر خداع النفس، ويبين حقيقة الهوى، ويرقب نزغات الشيطان1.
2-
ولما كان بين العقيدة والسلوك أوثق ارتباط وأعمقه وأقواه فإن الثقافة الإسلامية بترسيخها العقيدة في النفس الإنسانية إنما تقيم حجر الزاوية في التطهير النفسي من دنس الأهواء ونزغات الشيطان، وتنقي الضمير من شوائب الانحراف والفساد وبذلك تسمو بهذه النفس إلى حب الفضائل من الصدق والوفاء، والكرم والشجاعة، والتضحية والإيثار، ولا شك أن الارتقاء بالنفس عن المستوى المادي القاصر المحدود يترك أطيب الثمرات في السلوك ويتيح للإنسان أن يحيا حياة كريمة طيبة.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} 2.
ومن شأن الثقافة الإسلامية أن تنشئ شخصية ذات مثل أعلى يتصل بالله
1 انظر "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص202.
2 النحل: "97".
تبارك وتعالى خالق الكون ومفيض الخير والرحمة والنعمة. وبذلك يشتق صاحب هذه الشخصية مثاليته من الحق والخير والكمال، وتتجلى مثاليته بطلب الحقيقة أين كانت، والنزوع إلى الكمال، وحب الخير ويبدو في حب الإنسانية جميعًا والعمل في سبيلها..
ولا شك أن سيطرة هذه المثل على النفس توحدها وتربط دوافعها ونوازعها وعاداتها كلها برباط واحد، تحت قيادة واحدة تسير النفس في ظلها موحدة منسجمة، لا نزاع فيها ولا شذوذ ولا نشاز، كما تستمد من هذه المثل كل نزعة خلقية لدى الفرد، وغذاءها وحافزها وموجهها1.
3-
"وإن منهج الإسلام يتناول الحياة كلها، ويتولى شئون البشرية كبيرها وصغيرها، وينظم حياة الإنسان لا في الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة، ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها، ولا في المعاملات المادية الظاهرة وحدها ولكن كذلك في أعماق الضمير، ودنيا السرائر والنوايا -فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة الأطراف- ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضًا.
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته، يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمولها هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها. ضرورة من ضروريات النشأة الصحيحة، وضمانًا من ضمانات الاحتمال، والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء والضارب من جذورها في الأعماق.
ومتى استقرت عقيدة "لا إله إلا الله" في أعماقها الغائرة البعيدة،
1 انظر "لمحات في التربية الإسلامية" للدكتور محمد أمين المصري. ص244.
استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه "لا إله إلا الله" وتَعَيَّنَ أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة واستسلمت هذه النفوس ابتداءً لهذا النظام، حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته، فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان، وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس -فيما بعد- تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها، ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له.. وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها.. أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من الرسول صلى الله عليه وسلم بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها، ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطاتها، ودعايتها وإعلامها، فلا تبلغ أن تضبط الظاهر من المخالفات، بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات"1.
4-
إن السمو بالنفس وتربية الضمير -كما جاء بذلك منهج الإسلام- "لا بد أن ينبثق من تصور الإنسان للكون والوجود، الذي يعتمد على أن لهذا الكون إلهًا، وأنه ما من إله غيره خلق الكون وأوجده، وهذا الكون يسير بانتظام مذعنًا لأمر الله ومشيئته، والإنسان جزء من هذا الكون، خلقه الله بطبيعة متميزة لعبادته والانقياد لأمره ولا معنى لحياته إلا أن تكون خالصة العبودية لله، فالغاية البعيدة من مجهودات الإنسان ومساعيه في الدنيا هي ابتغاء وجه الله تعالى ونيل رضاه، وهذا هو المقياس الذي يقاس به في الإسلام كل عمل من أعمال الإنسان ويحكم عليه بالخير أو الشر"2.
1 سيد قطب: "معالم في الطريق" ص22.
2 أبو الأعلى المودودي: "نظام الحياة في الإسلام" ص14.
وقد بين شيخ الإسلام "ابن تيمية" "أن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله
…
وهو -كما رأيت- يقيم هذا الجزء من نظريته على الأسس النفسية، والتحليل الدقيق للطبيعة البشرية، فالإنسان لا ينفك عن وصف العبودية؛ لأنه كائن حي ذو حاجات ومطامع، ولأن له قلبًا، فإما أن يكون عبدًا لله، وإلا فهو عبد لغيره، وبتعبير آخر إن لم يرضَ أن يكون عبدًا لله استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه وشهواته، وطواغيت الجن والإنس، وما يزينون لبني آدم من معبودات.
ومن هذا يتضح أن العبودية لله تحررهم من كل عبودية أخرى شعروا بها أو لم يشعروا، رضوا بها أو سخطوا"1.
"ونظرية "ابن تيمية" في "العبودية" هي في الوقت نفسه نظرية في الأخلاق والفضيلة:
"وقد بين الله أن عباده المخلصين هم الذين ينجون من السيئات التي زينها الشيطان". ص84 - من رسالة العبودية. "وقال تعالى في حق يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 2.
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصورة والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله". ص99 من رسالة العبودية.
"ومن كانت عبوديته لله وجهاده في سبيله، فعلمه كله فضيلة وهو لا ينحرف في أي شأن من الشئون إلا عندما يزيغ عن هذه العبودية"3.
1 عبد الرحمن الباني: "مقدمة رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية" ص6.
2 يوسف: "24".
3 المرجع السابق ص8.
5-
ومن منهج الإسلام في السمو بالنفس وتطهير الضمير، ردُّ كل شيء من انفعال الإنسان وحركاته، ونواياه وتطلعاته، وأقواله وأفعاله، إلى الله عز وجل فهو الذي يعلم ما في نفوس عباده، وما وراء سلوكهم الظاهري، وما يقولون أو يفعلون..
قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} 1.
فعلى أساس هذه الحقيقة الإيمانية يسمو الإنسان بنفسه إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، ويحيا ضميره على اليقظة والخشية، ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وبذلك يظل المؤمن في نجوة من الانزلاق، والوقوع في المعاصي والآثام، ويقيم من ضميره اليقظ ونفسه اللوامة ومراقبة الله عز وجل وذكره، حارسًا يرغبه في الخير والاستقامة، ويحذره من الشر والانحراف، فإذا أخطأ أو زلَّ -بسبب ضعفه البشري- فإنه سرعان ما يبادر إلى التوبة والاستغفار، والأوبة إلى الله عز وجل بعد أن يقلع عن الذنب، ويندم عليه، ويعزم على عدم العودة إليه.
وقد أسهب علماء السلف في تفصيل منهج الإسلام في محاسبة النفس
1 الاسراء: "25".
2 [آل عمران: "135".
ومراقبتها، وفق ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وألفوا في ذلك كتبًا عدة، وعقد "الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 742هـ "بابًا في المحاسبة والمراقبة في كتابه "مختصر منهاج القاصدين" الذي اختصر فيه كتاب "منهاج القاصدين ومفيد الصادقين" لابن الجوزي.
ذكر في هذا الباب أن مناط الأمر في الاستقامة وصلاح النفس، متعلق بشعور الإنسان بخطر حسابه عند ربه في الآخرة. وقال:
"وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم، وصدق المراقبة. فمن حاسب نفسه في الدنيا، خفَّ في القيامة حسابه، وحسن منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته. فلما علموا أنه لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله بالصبر والمرابطة فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} 1.
فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة، ثم بالمراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات. وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة"2.
ثم شرح كل مقام بما يقتضيه من التحليل الدقيق لنوازع النفوس ورغائبها، والآفات التي تعرض لها، مفصلاً طريقة العلاج، وخطة الإصلاح، حتى تستقيم على التقوى، والتزام ما يرضي الله عز وجل.
1 آل عمران: "200".
2 ابن قدامة المقدسي: "مختصر منهاج القاصدين" ص289.