الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جامعة، وقال صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بِأَحَدِكُمْ من أبٍ ولا أمٍّ؛ وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي". فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: "دَعْهُ إلى النار". فكان قيسٌ هذا ممَّن ارتدَّ في الردة فقُتِلَ.
العقيدة علاج الأزمات:
1-
تصاب الأمم في بعض أدوار حياتها بكوارث ونكبات، تترك انعكاسات كبرى على أوضاعها العامة، وما يعتري الأمم في بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخلقية إِثْرَ هزيمتها في معركة ما من معاركها مع عدوها يُشْبِهُ إلى حدٍّ كبير ما يعتري الجسم الإنساني في أجهزته المختلفة إِثْرَ مرض عُضَال، وتختلف الأمم كما تختلف الأجسام في القدرة على تحمُّل ما يلازم العارضَ الجديد من تغيُّر، وفي التغلب على ما يرافقه من متاعب وآلام، كما تختلف أخيرًا في القوة الذاتية ومدى استعدادها لقبول المرض أو رفضه والخلاص منه، من أجل هذا يلجأ الأطباء في معالجتهم مرضاهم إلى غرس روح الأمل في المريض حتى لا ييأس من الشفاء، ويَصِفُون له الأدوية التي تساعده على تحمل الألم، بأدوية أخرى مقوية تمد الجسم بما يساعد طاقاته الطبيعية ومناعته الأصلية على التخلص من المرض والقضاء عليه.
ولعل الأمر في علاج الأمم لا يختلف كثيرًا عن علاج الأفراد بطرقه ووسائله، ولكنَّ أخطر ما يقع في الأمرين -وإن كان في الأمم أشدَّ خطرًا- أن يخطئ الطبيب في تشخيص المرض؛ لنقص في علمه أو تجربته، أو لالتباس الأعراض عليه بسبب تشابهها ودقة الفروق بينها،
فلا يعطي ما يصف من علاج أيَّ فائدة في شفاء المريض، إن لم يترك آثارًا عكسية تُضَاعِفُ من المرض، وتُودِي بالمصاب به.
وإذا نظرنا في أحوال كثير من الأمم في الماضي والحاضر تَبَيَّنَ لنا انطباق هذا المَثَل -بشكل عام- على الأوضاع التي تحل بها إِثْرَ هزة كبيرة في حياتها، وهل هناك أقسى وأشد من تسلط عدوِّها عليها، وتحكمه في أمورها، وتعويق حركتها، وشل مقومات بقائها؟! ومع هذا فإن الخطر الكبير المخيف ليس في الهزيمة الطارئة، ولكنه في أسلوب علاجها للتغلب عليها، وتطويق نتائجها، والحيلولة دون تكرارها، إن الخطأ والانحراف هنا بسبب الجهل أو سوء التقدير، أو بسبب الإصرار على إنكار الحقائق، والتشبث بالباطل، لا يَنْجُم عنه سوى السقوط المُريع، والمصير الرهيب، بعد سير شاق مرهق في طريق ملتوية مليئةٍ بالعثرات، مزدحمة بالمزالق.
2-
ويتطلع المسلمون اليوم إلى وضعٍ يكونون فيه أحسن حالًا، وأبعد منالًا، وأوفى قوة ومنعة، وأكثر صلابة وعزمًا، وأشد قدرة على تخطي العقبات، وتجاوز الهزيمة. وإذا كانت وسائل العلاج كثيرة، وكان المتصدُّون للمعالجة -على مختلف المستويات- أكثر من أن يحصيهم العَدُّ، فإن ثمة حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن أحد وهي: أن لهذه الأمة طبيعةً ذاتيةً خاصة، تميزها عن غيرها من الأمم، ولذا فإن ما يُظَنُّ أنه صالح لغيرها لا يصلح لها، بسبب مجانَبَتِه لطبيعتها، وتنافره مع خصائصها، وأي علاج لا ينبثق من اعتبار هذه الحقيقة لا يمكن أن يُحْدِثَ التفاعل المطلوب، ويؤدي النتيجة المرجوَّة في التخلص من العلل، وتوفير العافية الصحيحة في بنية الأمة وعناصر وجودها وبقائها، إن لم يتجاوز ذلك إلى إحداث تفاعل عكسي يزيد
الداءَ استفحالًا، ويضاعف من امتداده؛ ليهدم البقية الصالحة من القوى السليمة.
وإن الطبيعة الأصيلة لهذه الأمة أنها أمة عقيدة مبناها التوحيد الخالص الذي حررها من الخضوع لغير الله، وأنقذها من أغلال الطاغوت، وطهرها من أدران الجاهلية ونقلها من حضيض التمزق والتخلف والفساد إلى ذروة الوحدة والتقدم والاستقامة. وهي أمة نظام كامل شامل شرعه الله للناس كافة رصيد إيمان لا يَنْفَدُ، ومصدر قوة لا تَضْعُفُ، ومنهاج حق وعدل، لا يهادن باطلًا، أو يرضى بظلم، وفي ذلك يقول الله تعالى:
1-
في ضوء هذه الحقيقة يمكن القول: إن هذه الأمة ما يزال فيها من القوة الذاتية والحصانة الطبيعية ما يجعل الأمل كبيرًا في قدرتها على التغلب -بالجد والتصميم والصبر- على نتائج الهزيمة وآثارها البعيدة، وهي -وإن كانت واقعة تحت ضغط الأزمة الحادة- ليست مستعدة لقبول الحلول الجاهزة التي تصنعها الأيدي الغريبة، وسَلْبِيَّتُهَا هذه إزاء كل تجربة دخيلة، ووسيلة مغلوطة، دليل على توافر المناعة في كيانها. وقد يخال الأعداء -ولو جاءوا بثياب الأصدقاء- أنَّ المحنة فرصة مواتية لزعزعة ثقة الأمة بشخصيتها، ونشر ضباب اليأس في نفوس أبنائها، وزرع بذور الشك في قدرتها على الحياة، واستئناف السير من جديد دون سقوط أو تعثر، ولكنهم في ذلك واهمون وإن أَصْغَتْ
1 المائدة: "15-16".
إليهم بعضُ الأسماع، ووقعت في شركهم بعض العقول، ولقيت محاولاتهم تلك صدىً واستهواءً في بعض الاتجاهات والأفكار. ومنشأ الوهم عند هؤلاء ومَنْ تَابَعَهُم من مَرْضَى القلوب أنهم لم يعرفوا طبيعة هذه الأمة التي تستعصي على الذوبان، وتأبى -في أشد الظروف قسوةً- أن ترضى بالدنيَّة والذل والاستسلام، وقد مرت بها -في تاريخها الطويل- أيام عصيبة ونكبات شتى لو أصابت غيرها لقضت عليها، وأبادتها وجعلتها أثرًا بعد عَيْن.
إن سر هذه المناعة العجيبة التي حيرت أعداءها، وأَوْغَرَتْ صدروهم بالحقد، وحملتهم على العدوان المستمر في موجات غزو ضارية متلاحقة يعود إلى هذه الحقيقة البسيطة الرائعة "العقيدة"، العقيدة التي ترتفع بالأمة عن مستوى الغرور والاستعلاء إذا انتصرت، والخنوع والاستسلام إذا انهزمت.. العقيدة التي تغرس في قلوب أبنائها أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، فإذا حلت بها الهزيمة في معركة قوَّمَتْ بميزان عقيدتها ما حلَّ بها، فعرفَتْ عوامل هزيمتها وأسباب نكبتها، وكان ذلك لها درسًا نافعًا في مستقبل حياتها.. العقيدة التي هي أعز على أبناء هذه الأمة من أرواحهم وأبنائهم وأموالهم؛ لأنهم يضحون بهذا كله ولا يفرِّطُون بعقيدتهم مصدر كرامتهم وعزتهم.
1-
وحسبنا أن نعيش لحظات مع هذه العقيدة وآثارها البالغة في بَثِّ روح العزيمة الصادقة والعزة المؤمنة في ذلك اليوم العصيب الذي امتحن فيه المؤمنون "يوم أحد" ففي ذلك اليوم، الذي نال فيه المشركون من المسلمين وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وقف أبو سفيان بن حرب يقول في ملأ من أصحابه: أَفِي القوم محمدٌ؟ فلم يجبه أحد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، ثم قال: أَفِي القوم ابنُ أبي قحافة؟ فلم يَلْقَ جوابًا، فقال: أفي القوم ابنُ الخَطَّاب؟ فلم يَرُد عليه أحد أيضًا فقال:
أما هؤلاء فقد قُتِلُوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كَذَبْتَ يا عَدُوَّ الله، قد أبقى الله لك ما يُخْزِيكَ.. فأخذت أبا سفيان العزةُ بالإثم فقال: أَعِلْ هُبَل، أَعِلْ هُبَل1. وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: "الله أعلى وأجل". فقال أبو سفيان: ألا إنَّ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال رسول الله:"قولوا: "الله مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سِجَال، إنَّ موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله لرجلٍ من أصحابه: "قل: نعم هو بيننا وبينك موعد" 2.
وبعدُ:
فإِنَّ أُمَّةً شِعَارُهَا "الله أعلى وأجلُّ" لا يمكن أن تُغْلَبَ ما آمنت بهذه العقيدة، وعملت بمقتضاها، وكافحت لإعلائها، وجاهدت تحت رايتها.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.
1 أي أظهر دينك. وهبل: اسم صنم.
2 انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ج3 ص99.
3 يوسف: "21".