الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن المعرفة والثقافة وسيلتان لغاية أبعد، وهدف أكبر. وهل ثمة أجلّ وأسمى من أن تستحيل المعرفة إلى طاقة محركة، وقوة دافعة، تصبغ الواقع الإنساني في إطار الضمير والشعور والسلوك بصبغة هذه المفاهيم النقية الخيرة.. وتتمثل في حياة البشر نظامًا وخلقًا، وجهادًا وحكمًا، وقيادة صالحة، تحمل مشاعل الحق والنور لهذه الإنسانية التي وضعتها المفاهيم الضالة المنحرفة على حافة هاوية الدمار الرهيب
…
؛ فينبغي أن تنقلب هذه المفاهيم واقعًا بشريًّا حيًّا، ونماذج إنسانية فعالة حتى لا تكون كالماء المسفوح على قيعان لا تمسكه ولا تنتفع به. وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاقة الوثيقة بين المعرفة والعمل، وضرورة توافر الأمرين معًا في هذا المثل الحي الجميل:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَلُ ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا؛ فكان منها نقيةً قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى؛ إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبتُ كلأً؛ فذلك مَثَلُ من فقهُ في دين الله ونَفَعهُ ما بعثني الله به فَعلِمه وعلَّمه، ومثل مَنْ لم يرفع بذلك رَأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أُرسلتُ به"1.
1 رواه الشيخان
2-
المنهج الإلهي الشامل:
إن الثقافة الإسلامية -في حقيقتها- هي هذه المفاهيم الحية الخيرة، المستمدة من العقيدة بمعناها الشامل وآفاقها الواسعة؛ فهي عقيدة التوحيد، ومنهج الحق، وشرعة العدل، وقيم الخير ورسالة الهدى والاستقامة، وهي
أمانة الله تبارك وتعالى، ودستوره الخالد للبشر، وسبيل السعادة الكاملة لهم في الدنيا والآخرة، وهي -بأصولها الكبرى وأهدافها المثلى- المنهج السوي القويم الذي لا تصلح الحياة الإنسانية إلا به، ولا يستقيم أمر البشر إلا بهداه، وهي حق في ذاتها ومصدرها، ووسائلها وغاياتها، عميقة في دلائلها وآثارها، متلائمة أوثق التلاؤم مع فطرة الإنسان وأشواقه وحاجاته.
وإن في حياة كل أمة مواقف حاسمة، حين تقف على مفترق طرق مختلفة، ينتهي أحدها بالأمة إلى العزة والمنعة والنصر، ويؤول بها إلى مدارج القوة والكرامة والمجد.. وتؤدي بها السبل الأخرى إلى الذل والضعف والهزيمة، وتقذف بها إلى مهاوي الضياع والتيه والدمار.. وعلى ضوء اتخاذ الموقف الملائم، وحسن الاختيار بسلوك الصراط السوي، تصنع الأمة تاريخها، وتحدد معالم مستقبلها، وتبني صروح أمجادها، أما إذا جانبت الصواب، وانحرفت عن الطريق المستقيم، واستهواها ما في الطرق الملتوية من مظاهر خادعة تميل إليها النفوس، ويغري بها حب الإنسان للدعة والراحة وخفض العيش، وعزوفه عن السير في الطرق الصعبة، واقتحام العقبات، واحتمال الأعباء؛ فإن إيثار السير في هذه السبل -على ما بها من مشوّقات- لا يصل بالأمة إلى ما ينبغي أن تطمح إليه من أهداف كبيرة، وأمجاد رفيعة، ووجود صحيح، إن لم تعرضها للانهيار والانحلال وذل الأبد وسوء المصير.
وفي المنهج الإلهي الذي يرسم للبشر خطة السير الصحيح، وسلوك السبيل الأقوم في الحياة؛ لتحقيق أسمى الغايات، وإدراك السعادة الكاملة للأفراد والجماعات بيان لهذه الحقيقة، وتصوير لما ينتظر المنحرفين عن سبيل الحق من تفرق وتمزق وهلاك محتم.
1 الأنعام: 152
هذا هو المنهج السوي الذي لا تعرج فيه ولا التواء؛ إنه صراط الله المستقيم الذي يجمع في إحكامٍ بالغ وتناسق رائع، بين العقيدة الحقة النيرة، والنظام الكامل للحياة الطيبة، وهو تناسق وإحكام يعمق هذه الصلة الوثيقة بين مقتضى العقيدة وطبيعة النظام؛ بحيث تقوم تشريعات النظام إيمانًا في القلب، ودفعًا في المشاعر، ويقينًا في البصائر، ويقظة في الضمائر.. قبل أن تقوم في أوضاع المجتمع وحياة الناس؛ وبهذا يمتاز المنهج الإسلامي -الذي تتحقق به هذه الصلة وهذا الانسجام بين الفكر والوجدان من جهة وشئون الحياة وأوضاعها من جهة أخرى- عن أي منهج آخر من المناهج الأرضية التي تظل مُسِفَّةً هابطةً مهما ادَّعَتْ من السمو والارتفاع، ما دامت تفقد هذه الصلة الاعتقادية، وحركتها الضخمة الواسعة في النفوس والحياة.
هنالك إذن منهج واحد، واضح مستقيم، مأمون العاقبة، مضمون السلامة نيِّر مشرق، لم تخططه في فكر الإنسان وضميره وسلوكه في الحياة فلسفة معقدة ملتوية، أو تجربة ناقصة شوهاء، أو نظرية ليس لها سند من علم ويقين، ولم تفرضه أزمة عارضة في حياة شعب، أو مرحلة عاجلة في تاريخ أمة، أو هدف موقوت لجماعة من البشر؛ فهذه كلها ليست سوى ضروب من النشاط الإنساني المحدود -فرديًا كان أو جماعيًا- لم تتحرر ولن تتحرر من الخضوع لقيود الزمان والمكان، ولم ترتفع -وليس بمقدورها أن ترتفع- عن مستوى التقاليد المألوفة، أو الأعراف الشائعة، أو التراث القومي أو التأثر بنزعة فردية، أو مشكلة اجتماعية، أو فكرة عنصرية أو غير ذلك مما ولَّدته في حياة الناس اعتبارات ضيقة، أو هزات اجتماعية، أو مراحل تاريخية.
قد يكون في شيءٍ من هذه وَهْمُ الصلاح بَعْضَ حين لبعض الناس، وفي بيئة دون أخرى؛ ولكنها لا تصلح أبدًا لكل الناس، في كل زمان ومكان وكيف تصلح لقيادة ما هي منقادة إليه، ومصفدة بأغلاله؟ كيف تصلح وهي -في أقل صورها سوءًا وأحسنها مظهرًا- ليست إلا خلاصة فكر قاصر بطبعه
ومصدره وعوامل تكوينه ومدى انطلاقه؛ فهل يسوغ في منطق طبائع الأشياء أن يهيمن نتاج فكر محدود مهما علا -وهو ظاهرة كونية مخلوقة- على الكيان البشري كله، ويرسم له خطة السير في الحياة وهو عاجز عن أن يستوعب بعض أجزاء الكون الواسع الكبير، أو يدرك أسراره العجيبة؛ فضلًا عن عجزه التام -الذي لم يبلغ به الغرور حَدَّ إنكاره- عن التأثير في سنن الكون ونظامه. ولا شك أن هذا المثل القرآني يطامن كبرياء هذا الفكر، وتعاليه الأجوف، ونزوعه إلى ممارسة ما ليس أهلًا له في تعنت وجحود، وجهالة واستكبار.
"وإن العقيدة في نظام الإسلام -كما يتجلى ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية- تتصل بجميع أجزاء هذا النظام؛ فهي الأساس التي تبنى عليه نظرته أو نظامه الخلقي، وهي التي تكون الأساس الفكري لعقلية المسلم، والأساس النفسي لسلوكه، ومنها كذلك تنبثق نظرته إلى الحياة الاقتصادية، والحياة السياسية وعلى أساس فلسفتها يبنى نظامها.
وخلاصة الأمر أن مضمون العقيدة له تأثير كبير في الحياة الإسلامية؛ سواء الفردية أم الاجتماعية. ويلاحظ أنها تتخلل جميع سور القرآن بلا استثناء، وأنها تتخلل جميع أحكامه الأخلاقية والتشريعية؛ فلا تستطيع أن تعزل قواعد التنظيم الحقوقي الاجتماعي الموجودة في القرآن عن هذا العنصر الإيماني الذي يتخللها ويحيط بها. نعم إنه يمكنك أن تجرد هذه القواعد الحقوقية؛ لكنك تكون قد عطلت الجهاز المتحرك عن حركته وأفقدته روحه وحيويته، وقطعت
1 الحج: 73-74