الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شدة انهماكهم في تسجيل مآثر الأمراء، وتقلبات الدول أنهم لم يوجهوا عنايتهم إلى التغير الديني الذي طرأ على حياة الأفراد المغمورين -وبقدر ما هدانا إليه البحث- فقد كانت ملاحظتهم في تتبع أخبار دخول المسيحيين في الإسلام قليلة"1.
1 المرجع السابق 113.
بين المد والجزر:
في ضوء هذه الحقائق يمكن أن نلقي نظرة تحليلية سريعة على فترات التاريخ بما فيها من مد أو توقف أو جزر، وازدهار أو ضمور، حتى فترة الاحتكاك الحاد، خلال القرنين الأخيرين، بين الغرب والإسلام، هذه الفترة التي لا يزال المسلمون يعانون من رواسبها ونتائجها.
أ- لقد صاغت القيادة الإسلامية الأولى أبناء هذه العقيدة صياغة فريدة، وربتهم تربية متكاملة، فكانوا صورة دعوتهم الحقة النيرة في فكرهم وسلوكهم وعملهم وجهادهم.
كانوا في جهادهم واجتهادهم يصدرون عن المدرسة النبوية في سمو الغاية ونبل الوسيلة، وتوافرت فيهم شروط أهلتهم تأهيلاً عاليًا لحمل الرسالة ونشرها في آفاق المعمورة، وتحقق بفضل الله عز وجل، ثم بصدق إيمانهم، وإخلاص جهادهم ذلك المد الإسلامي الكبير الذي يعد بحق معجزة التاريخ، كانت غايتهم إعلاء كلمة الله، وإقامة شرعته في الأرض ونفاذ أحكامه، ووسيلتهم في ذلك: تربية النفوس على الطاعة وتزكيتها بالعمل الصالح، وأخذها الدائب بالإعداد والاستعداد، ثم العمل المتواصل والكفاح المستمر، لإزالة القوى الطاغية المعادية التي تعيق إقامة دين الله في الأرض.
ب- وكانت القيادة الإسلامية قادرة على إدارة شئون المسلمين وفق شرعة الله عز وجل بما لديها من رعاية تامة لهذه الشريعة، وفهم لها واجتهاد فيها، وقوة استنباط للحكم فيما يعرض في حياة المسلمين، وفي الأمم التي شملها الفتح من قضايا وحوادث ومسائل متجددة، كما كانت لديهم روح الاستفادة من وسائل العلم وقوى الكون لتسخيرها في خير الإنسانية.
ج- "ولكن من الأسف، ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يكونوا له أكفياء، ولم يعدوا له عدة ولم يأخذوا له أهبة، ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية كما تلقى الأولون، وكثيرون في عصرهم وجيلهم، ولم يسيغوا تعاليم الإسلام إساغة تليق بقيادة الأمة الإسلامية والاضطلاع بزعامتها، ولم تنق رءوسهم ولا نفوسهم من بقايا التربية القديمة، ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام، ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية، وهذا الحكم عام يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز "م101هـ"، فظهر من ذلك ثلمات في ردم الإسلام لم تسد إلى الآن ووقعت تحريفات في الحياة الإسلامية"1
د- ولقد كان مما وقع في بعض الفترات أن القيادة السياسية حاولت التفلت من رقابة الدين، وإقصاء أهل الدين والعلم عن شئون السياسة والتوجيه، لتنفرد السياسة بالتصرف وفق أهوائها، كما أطلت النزعات الجاهلية برءوسها خلال مظاهر الانحراف عن الأخلاق الإسلامية، وشيوع الفساد، والإخلاد إلى التمتع بملاذ الحياة، كما قل الاحتفال بالعلوم العملية المفيدة، كالعلوم التجريبية والعملية، وظهر الاهتمام بعلوم ما
1 أبو الحسن الندوي: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" ص132.
وراء الطبيعة، والفلسفة اليونانية ونحو ذلك، وقد نجم عن ذلك ضعف حركة الإنتاج العلمي، وضعفت روح النبوغ، كما طرأت في حياة المسلمين ضروب من البدع التي شغلت مكانا واسعا من حياة المسلمين، وصرفتهم عن الالتزام بالدين الحق، كما أبعدتهم عن الاهتمام بشئون الحياة النافعة.
هـ- وإنه على الرغم من كل هذا فقد بقي هذا الدين -بفضل الله عز وجل حيًّا محفوظًا من التحريف والتبديل، وظل المنارة المشرقة التي تهدي الحائرين، وتنعي على المنحرفين تفريطهم، وتثير روح الجهاد، وتدعو إلى فتح باب الاجتهاد، وظل المجتمع -على الرغم مما أصابه- مجتمعًا إسلاميًّا لم تسيطر عليه -بصورة عامة- غير المفاهيم الإسلامية ومرد ذلك إلى طبيعة تكوين المجتمع في الإسلام؛ تلك الطبيعة التي تحفظ روح الوحدة والتماسك، وتجعل ولاء أفراد هذا المجتمع لعقيدتهم.
يقول ولفرد كانتول سميث WiLfrsd Contwell Smith في كتابه "الإسلام في التاريخ المعاصر Islam in Modern History" في فصل "الإسلام والتاريخ" ص26-27:
"لقد لاحظ الباحثون بروز وضع المجتمع في الإسلام، ومن البيِّن أن المجتمع الإسلامي ذو تماسك ملحوظ، وأن ولاء أعضائه وترابطهم عظيم القدر، وقد أدرك كثيرون أن الجماعة "الإسلامية" ليست مجموعة اجتماعية فحسب، بل مجموعة دينية، وأن "الدين والدولة" أمر واحد إذا استخدمنا تعبيرنا الغربي غير المناسب، إن المجتمع الإسلامي لا يترابط بعضه مع بعض -كالمجتمعات الأخرى- بمجموعة من الولاءات والتقاليد فحسب، وبنظام متقن السبك من القيم والعقائد، ولا هو نتاج مثل أعلى رفيع فحسب، بل إنه ينبض بالحيوية الناجمة عن اقتناع شخصي عميق، اقتناع ديني له حرارته ودلالته في نفس كل
عضو من أعضائه، ونستطيع أن نقول: إن هذا المجتمع -هذه الجماعة- هي التعبير عن المثل الأعلى الديني، مستخدمين كلمة "ديني" بالمعنى الفردي الذي سبق شرحه، وإذا كانت عقيدة ما أو نظام ثيولوجي "قائم على أساس ديني" يمكن أن يكون تعبيرًا عن الصورة العقلية للاعتقاد الشخصي -كما هو الشأن في كثير من الحالات وفي المسيحية بصفة خاصة- فإن النظام الاجتماعي بما يحويه من ألوان النشاط المختلفة هو التعبير -بصورة عملية- عن الاعتقاد الشخصي للمسلم"1
د- صحيح أن الحياة الإسلامية لم تستوِ على الأفق الرفيع الذي كان وقت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ولكنها ظلت -على الرغم من بعض التحريف الذي طرأ- حياة عالية إذا قيست بغيرها مما عرفته الأرض من نظم وقيم وحضارات.
لقد اتسع الْمَدُّ الإسلامي في مختلف مرافق الحياة حتى شمل الأرض المعروفة كلها في ذلك الحين "وكان البحر الأبيض المتوسط بعد عصر شارلمان قد أصبح بحرًا عربيًّا، واستطاع العباسيون منذ أوائل القرن الرابع أن يحافظوا على حدودهم الغربية من اعتداء البيزنطيين، وكانت أخبار الانتصارات تقرأ من أعلى المنابر ببغداد"2.
ولم يزل ينهض بتأثير كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبعثان من مقت للشرك والبدع، والجهل والضلال، وأخلاق الجاهلية وعوائدها- رجال لم يخل منهم دور من أدوار التاريخ الإسلامي، يجددون لهذه الأمة أمر دينها، وينفخون فيها روح الجهاد، ويعملون على إقامة المنهج الإسلامي وإقامة الخلافة الراشدة في الأرض، ويمكن أن
1 نقلا عن محمد قطب: "هل نحن مسلمون؟ " ص25.
2 آدم متز: "الحضارة الإسلامية" ج1 ص24.