الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جمل الله هذه الأمة.. الأمة الوسط التي تملك زمام القيادة، وتحمل راية الهداية، وترشد البشر إلى أقوم سبيل.
قال تعالى:
1البقرة: "143".
العقيدة رابطة أخوة وتراحم:
1-
إن من أجلِّ ما تؤديه العقيدة للجماعة الإنسانية، أنها تربط بين قلوب معتنقيها بأواصر لا تنفصم من المحبة والأخوة والتراحم، وهذه وظيفة إيجابية ذات أثر عميق في كيان الجماعة؛ لأن رابطة العقيدة لا تعدلها أي رابطة أخرى من نسب أو جنس أو لون أو لغة أو جوار أو مصالح مشتركة، فهذه كلها تظل روابط سطحية لا تكاد تَجْمَعُ حتى تُفَرِّقَ، إذا اختلفت الأهواء، وتصادمت النزعات، وتضاربت المصالح، بل لا تزال تتخلل هذه الروابط الشكلية حواجز كبيرة، من اختلاف النفوس، وتمايز العناصر، وتفصل بينها الفجوات المختلفة التي تباعدها عن الوحدة والوئام، حتى تشدها آصرة الأخوة في العقيدة -في تفاعلها العميق مع وجدان المؤمن- على هدى وبصيرة، ومحبة وتعاون، ومشاركة في المثل العليا، فإذا الكثرة المتفرقة وحدة مجتمعة، وإذا النفوس في أَلَقِهَا وصفائها كالمرايا المتقابلة، تنعكس صور بعضها في بعض، وتذوب الفوارق مهما عظمت، وتتقارب الديار مهما تناءت، ويعم الحياة روح العقيدة، وتسودها مبادئ الحق الثابت الخالد، الذي لا يتغير أو
يزول، ولا يعتريه نقص ولا أُفول.. وفي ذلك يقول عز وجل:
2-
ولقد قامت دعوة الإسلام على إنكار كل نوع من أنواع التفرق الذي ينافي الوحدة القائمة على العقيدة باعتبار المؤمنين كيانًا عضويًّا واحدًا تسري فيه روح المودة والرحمة والتعاطف، كما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمَّى"2.
ولذا فقد تخطى الإسلام كل الأوضاع التي دَرَجَ الناس فيها على اتخاذ العصبيات الجنسية أو الإقليمية الأساس في تكوين الجماعات، وجعل الاعتصام بالله والأخوة في العقيدة الرباط القوي الذي لا ينفصم، ومبدأ الخير والرحمة والعدل، وسبيل السعادة والطمأنينة والسلام للبشرية جمعاء.. وفي ذلك يقول عز وجل:
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.
وقد حذَّر الإسلام من موالاة أعداء الله بسبب رابطة من نسب أو قرابة أو صداقة أو مصالح شخصية أو منافع خاصة، وجعل الولاء للعقيدة وحدها، ودعا إلى اعتبارها المعيار الوحيد للعلائق بين الناس، ولم يعتبر
1 الأنفال: "62-63".
2 رواه مسلم وأحمد.
3 آل عمران: "101".
الذين يوالون مَنْ حادَّ الله ورسوله من المؤمنين، ولو كان هؤلاء الذين يوالونهم من أقرب الناس إليهم رَحِمًا أو قرابة ونسبًا. وذلك حيث يقول عز وجل:
ويقول سبحانه:
ويقول تعالى:
1-
ومع هذا التحذير الشديد من موالاة أعداء الله يحرص الإسلام على صيانة رابطة العقيدة من كل ما يخدشها أو يؤدي إلى وهنها، وذلك بقطع كل أسباب التنازع والشحناء، ويَعُدُّ أيَّ دعوة إلى العصبية المفرقة هدمًا لروح الأخوة الإسلامية وإثارةً للأوضاع الجاهلية التي حاربها الإسلام وقضى عليها، وفي ذلك ما يُقَوِّضُ وحدة الأمة، ويشيع فيها العداوة
1 المجادلة: "22".
2 التوبة: "23".
3 الممتحنة: "1".
والبغضاء، ويسلبها مقومات شخصيتها التي تميزت بها على سائر الأمم، وفي ذلك يقول عز وجل:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فَنِلْتُ منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: "أَسَابَبْتَ فلانًا؟ " قلت: نعم. قال: "أَفَنِلْتَ من أُمِّهِ؟ " قلت: نعم. قال: "إنك امْرُؤٌ فيك جاهلية" 2.
ورُويَ أن أبا ذرٍ تابَ توبةً نصوحًا حتى إنه طلب من هذا الذي قال له: يا ابن السوداء -كما في بعض الرويات- أن يطأ بقدمه على وجهه.
وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى مالك عن الزُّهْري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قَيْسُ بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بِنُصْرَةِ هذا الرجل فما بال هذا3 فقام إليه معاذ بن جبل رضي الله عنه فأخذ بتلابيبه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا يَجُرُّ رداءَهُ حتى أتى المسجد ثم نودي: إن الصلاة
1 آل عمران: "103".
2 رواه الشيخان واللفظ للبخاري في كتاب الأدب.
3 يقصد بمقالته هذه: إن الذي يحمل الأوس والخرزج على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من قومه العرب -كما يزعم- فما الذي يدعو الفارسي والرومي والحبشي إلى نصرته وهم ليسوا من قومه؟! وهذا من آثار النزعة الجاهلية كما لا يخفى.