الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جزر في الروح الفاعلة المحركة لوصل الحياة في كل جوانبها بجوهر العقيدة.. وكانت هذه الظاهرة سائدة في وقت كانت أوروبا تنهل فيه من منابع ثقافة الإسلام وحضارته، لتستمد من ذلك عناصر نهضتها.
الصليبية والغزو الفكري:
لم يستطع الصليبيون رغم تعاونهم وتآزرهم وحشد كل طاقاتهم، وإعطاء صفة القداسة لمعركتهم أن يتغلبوا على العالم الإسلامي خلال قرن كامل، وبعد أن تمت لهم الغلبة على بعض مواطن فيه احتاجوا إلى قرن آخر لتثبيت نفوذهم، وإقامة دول وكيانات فيه، ولكنهم لم يستطيعوا بعد تجدد حملاتهم في فترة الغزو الاستعماري الحديث التي تلت ما يسمى "بعصر النهضة" والتي بدأت رحلات استكشافية، وانتهت بحملات عسكرية، واحتلال للبلاد، وسيطرة على المسلمين.. لم يستطيعوا -على الرغم من هذا كله- تحقيق هدفهم في القضاء على الوجود الإسلامي وإن كانوا قد استطاعوا إحداث بعض الثغرات فيه:
أ- كانت الهجمات المعادية -من قبل- هجمات خارجية حربية، وكانت طبيعة المجتمع الإسلامي آنذاك حية متماسكة، فلم تكن قد جمدت في المسلمين روح العقيدة، كما لم يتوقف النمو العلمي، بيد أنه لما تغير الحال فضعفت روح العقيدة، وتوقف النمو العلمي، أصبحت الهجمات المعادية داخلية وخارجية معًا، عسكرية وفكرية في آن واحد، واستطاع الأعداء بسبب ذلك أن يحتلوا مواقع أكثر وأخطر، وأن يمضوا بخطوات أوسع نحو هدفهم في زعزعة الوجود الإسلامي في نواحٍ شتى..
ب- انتشرت على أثر ذلك أفكار غربية لم يسبق أن ظهرت في أي عصر سبق، وقد لقيت هذه الأفكار المعادية التي صدرت عن أعداء الإسلام من
اليهود وغيرهم قبولاً من صرعى الغزو الفكري من بعض المنتسبين للإسلام، فشاعت على ألسنتهم وبأقلامهم فكرة فصل الدين عن الدولة، وفصله عن الاقتصاد والمجتمع، والمناداة بتحرير المرأة، والدعوة إلى تطوير الإسلام، والقول بالتزام المقاييس غير الإسلامية في الأخلاق.
ج- وقد اقترنت مثل هذه الأفكار التي تستهدف الإسلام عقيدة وتشريعًا، ونظامًا وخلقًا، بإثارة طائفة من الشبهات التي لا ترتكز على أي سند علمي، أو برهان منطقي، كما اقترنت بمحاولة وضع نظم الحياة وفق القوانين الغربية، وصوغ الأخلاق وفق المفاهيم الغربية أيضًا، ووقع الفصل كذلك -في إطار التربية ومناهج التعليم- بين الدين والثقافة، وبين الدين والعلم على نحو ما جرى في أوروبا إِبَّان القرون الوسطى وما بعدها.
وجرت عملية تزوير خطير في تفسير التاريخ، وتحليل الوقائع التي حلت بالمسلمين في العصر الحديث، والتمست الحلول في غير المنهج الإسلامي، كمحاولة تنظيم الأوضاع السياسية على أسس النظم السياسية الغربية المعاصرة دون تمحيص وتدقيق، وأخذ ما يلائم، ورفض ما لا يصلح، وكمحاولة تنظيم الأوضاع الاقتصادية على أسس من نظريات اقتصاد الغرب أو الشرق، وبذلك سادت النظم الرأسمالية أو الاشتراكية، ووقع ما لا بد أن يقع في ظل هذه الأنظمة من تنازع وعداء..
د- كان لهذا كله أثره الواضح في تمزيق بنية المجتمع الإسلامي، وتفريق صفوف المسلمين وضرب قاعدة الإخاء التي ينبغي أن تسودهم دون أن يفيد المجتمع من نقل التجارب الغربية أو الشرقية في دعم وضعه السياسي أو الاقتصادي. وإن مثل هذا المنحى الخطير في اتباع مناهج الحضارة الغربية قد أتاح لأعداء الإسلام أن ينفذوا إلى الأفكار والنفوس، والأخلاق ونمط
الحياة، من أجل الوصول إلى هدفهم الرئيسي الخطير، وهو أن يستلبوا من نفوس المسلمين عقيدتهم الأساسية التي تقرر أن "الحاكمية المطلقة لله" ولا شك أنه إذا استطاع هؤلاء الأعداء أن يبلغوا هدفهم في تجريد المسلمين من عقيدتهم، فإنهم بذلك يجعلون المسلمين فريسة سهلة لكل ما يضمرون لهم من شر ومكر وعدوان.
هـ - إن الغزو الفكري يرمي -مهما حاول أن يتوارى ويستتر وراء دعوات ومفاهيم وشعارات- إلى الانسلاخ التام عن الإسلام، والإجهاز على العقيدة، وقد تطور هذا الغزو -كما يدرك المتتبع لتخطيطه ومساره- من مرحلة إلى مرحلة، فقد بدأ بالتظاهر باحترام الدين، وادعاء الموضوعية، والبروز بالسمة العلمية، ثم انتقل إلى مرحلة إثارة الشبهات عليه، ثم بمزاحمته بالأفكار المتنافية معه، المصادمة لمبادئه، ثم انتهى إلى الكشف عن حقيقة المحاولة وهي القضاء على العقيدة، واستبدالها بالتيار المادي الإلحادي المحض، الذي يقصد إلى الفصل بين الجيل المسلم وبين عقيدة الإسلام وأخلاقه ونظامه، وتدمير كل كيان سياسي أو تنظيم اجتماعي، أو اتجاه خلقي يقوم على أساس مبادئ الإسلام.