الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية والقوى المعادية
معركة الإسلام في الحياة
معركة تصحيح شامل دائم
…
معركة الإسلام في الحياة معركة تصحيح شامل دائم:
1-
من طبيعة الإسلام -عقيدة وحركة- أنه في معركة مستمرة ذات جوانب متعددة.. فهو في معركة مع الانحراف عن التوحيد ترمي إلى تحرير العقول من الشك والشرك، والخرافة والوهم، والجمود على موروثات الباطل، وتقليد الآباء في الضلال، وهو في معركة مع النفوس والضمائر ترمي إلى إقامتها على منهج الفطرة السوي.. في صفائه وطهره، ونقائه ونوره، حتى لا تستبد بها الأهواء، ولا تستغرقها الشهوات، فتشدها إلى تراب الأرض، وتكبلها بأغلال الحياة، وتنأى بها عن السمو إلى أرفع الآفاق. وهو في معركة مع الأوضاع الفاسدة.. في علاقات البشر، وشئون الحكم والتربية، ونظم الاجتماع والاقتصاد، وسائر ضروب النشاط الإنساني.
إن الإسلام في معركة عامة شاملة دائمة، ليس القتال إلا بعض صورها ووسائلها، فإذا كانت المشاعر تتجه في بعض المواقف إليه، وإذا كانت النفوس تندفع في بعض المواطن طلبًا لخوض ميادينه، فليس مرد الأمر في ذلك المشاعر الملتهبة أو النفوس المتوثبة، فقد يكون
في ثورة المشاعر والنفوس في غير الموطن المناسب ما يلحق الأذى بالجماعة، ويمكن للعدو من الظفر والانتصار..
إن التصور الصحيح لطبيعة معركة الإسلام لا يدع جانبًا من جوانب الانحراف دون أن يخوض معه أبناء هذه العقيدة صورة من صور المعركة التي تتسم -حينًا- بتقويم الفكر، ورده إلى أصالته، وبنائه على أمتن الأسس وأرسخ الدعائم.. كما تتسم -تارةً- بمطاردة مفاهيم الانحراف، وأوضاع الفساد، لتهذيب النفوس، وتطهير الضمائر، والسمو بالأخلاق، وإصلاح المجتمع، وقطع دابر الفرقة والتناحر بين الصفوف، وإنقاذ البشر من الفوضى والاضطراب، والتشرد في سبلٍ ملتويةٍ لا تؤول بسالكيها إلا إلى الضياع والتمزق والدمار..
إنها معركة تصحيح جذري كامل لما كانت عليه حياة الناس في قبضة الجاهلية وأوضاعها السيئة، وتقاليدها المدمرة، وأحكامها الملتوية.. من ضلال في العقيدة، وانحلال في الخلق، وضياع لمقومات الوجود الإنساني، وعدوان على الضعفاء وهدر للحقوق، وإزهاق للنفوس.
2-
وإذا عرف المسلمون أن الإسلام يكلفهم درء الفتنة عن الدين، وحماية الحق من عبث العابثين، واستئصال جذور الشر من حياة البشر، وصيانة قيم الخير في الأرض، وإتاحة الفرصة للبشرية أن تنعم بظلال المبادئ السمحة الخيرة في كل ميدان من ميادين الحياة.. إذا عرفوا ذلك أدركوا بحقٍ أن عليهم أن يكونوا دائمًا على أتم أهبة، وأكمل استعداد، لمقاومة البغي، ومقارعة الظلم، ومنازلة قوى الشر، حتى لا تستذل الرقاب، ولا يشتد ساعد الباطل، ولا ينال من المسلمين عدو مهما كان من دينهم أو كرامتهم أو ديارهم. ولعل هذا هو الفرق العظيم بينهم وبين أعدائهم.. فهم إنما يخوضون معركتهم في سبيل الله، لا يبغون أن
يتملكوا رقاعًا من الأرض، أو يستولوا على مرافق غنية بالثروات، أو يستعمروا شعوبا لتسخيرها لمآرب مادية أو مطامع عدوانية.. فذلك كله في مقياس الإسلام ظلم وعدوان يتنافى مع شريعة الله التي تأبى الاستعمار والاستغلال، وتعمل على سيادة مبادئ العدالة والحرية وكرامة الإنسان.
قال تعالى:
وقد بين سبحانه وتعالى أن الجهاد في سبيل الله هو التجارة الرابحة التي لا تعدل ربحها مغانم الأرض مهما بلغت، فهي التي تنجي من العذاب الأليم وتؤدي إلى العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وغفران الذنوب، والفوز برضا الله وثوابه العميم.
قال تعالى:
1 النساء: "76".
2 الصف: "10-13".
3-
وثمة حقيقة أخرى تلفت إليها معركة الإسلام الدائمة في الحياة، وهي أن الناس اليوم حيارى تائهون تفترسهم ضلالات الجاهلية الجديدة، وتتحكم بهم أباطيل زائفة، وأوضاع ملتوية، ويعانون ترديًا خطيرًا في كل شأن من شئونهم..؛ ذلك لأنهم يفتقدون العقيدة الحقة التي تحفز إلى الخير، وتردع عن الشر، وتعالج مشكلاتهم، وتحسم أزماتهم، وتنبثق عنها النظم السليمة، والأخلاق الكريمة، والحركة الحية الفاعلة.. لا بد لهم من هذه العقيدة التي تنقلهم من حياة الفراغ الفكري، والضياع النفسي، والتمزق الاجتماعي.. إلى حياة أخرى جديدة تملأ عقولهم بالفكر النير، ونفوسهم بالخلق الرضي، ومجتمعهم بالتماسك والنظام.
فَمَنْ لهذه العقيدة يحمل أمانتها، ويخوض معركتها. ويرفع رايتها غير أبنائها؟
إن طبيعة رسالتهم، وحقيقة وظيفتهم، توجب عليهم أن لا يكونوا في عزلة عن سير الحياة، فلا يليق بهم أن يعيشوا على هامشها، أو ينأوا عن معركتهم فيها، فثمة اليوم نظم وتيارات، ومذاهب واتجاهات، ينبغي أن نحدد موقفنا منها على هدي من نور الله، وعلى بصيرة من شريعتنا الغراء، فقد كان لنا في الماضي دور كبير خطير، في توجيه الإنسانية، وقيادة ركبها، وتقويم حضارتها، وكانت أسس عقيدتنا. ومبادئ شريعتنا، الحَكَمَ الأول في قبول أو رد معطياتها، فأجازت الصالح منها وتبنته ودعت إليه، وردت الفاسد الضار ونبذته وقضت عليه، وكانت أمتنا -في تفاعلها هذا مع معركة الحياة- تعطي وتأخذ في غير ضعف ولا استخذاء، مارست وظيفتها في الهداية والقيادة والإصلاح دون أن تغير من مفاهيمها؛ لتنطوي في مفاهيم غريبة عنها، أو تبدل من مناهجها لتذوب في مناهج دخيلة عليها، بل كانت شخصيتها المتميزة تعصمها من أن تؤخذ بسحر الجديد مهما بلغ بريقه،
أو تندفع مع التيار مهما بلغت شدته.. لم تقف تائهة مبهورة لا تدري أي طريق تسلك، أو تجمد مأخوذة حائرة لا تعرف ماذا تدع، وماذا تأخذ، بل خاضت معركتها بحزم وصبر وصدق وثبات، ونظرت في حضارات الأمم التي سبقتها أو عاصرتها، فأخذت منها وتركت، وأجازت ومنعت، ورفعت وخفضت من غير تأرجح أو اضطراب، ودون تخبط أو اهتزاز، وبلا جموح أو تفريط، وكانت في مواقفها كلها منسجمة مع المنهج الرباني، محتفظة بمقومات شخصيتها الإسلامية: عقيدة وعبادة، وسلوكًا ونظامًا، فهدت الركب الإنساني إلى الطريق السوي، وحذرته من المزالق، وبصرته بالعثرات، وأنقذته مما كان غارقا فيه من الفوضى والقلق والانهيار.
في ضوء هذه الحقيقة ينبغي أن يخوض أبناء هذه العقيدة معركتهم في كل جانب من جوانبها، ليواجهوا ما تُرْمَى به دعوتهم من غزوات، وما يقام في طريقها من عقبات، وما تواجه به من تحديات، معتصمين بجبل الله، واثقين بأحقية مبادئهم، وصحة مقاييسهم، ورائدهم في ذلك اتباع أمر الله، والسعي لما يحبه ويرضاه، ودليلهم تاريخ زاهر وضيء، حافل بالمكرمات، زاخر بالبطولات، وحسبهم في خطة السير، وروعة المنطق، وسمو الهدف قول الله تبارك وتعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ