المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النظم الفاسدة، وتشويه العقائد الزائفة.. إلى آفاق الحرية والكرامة، والعدالة - لمحات في الثقافة الإسلامية

[عمر عودة الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة

- ‌الثقافة في حياة الأمم

- ‌المفاهيم الأساسية

- ‌الثقافة والتغيرات الطارئة:

- ‌أمتنا على مفترق الطرق:

- ‌الثقافة ومشكلة التعريف

- ‌بين المدلولين: اللفظي والفكري

- ‌الثقافة في نطاق اللغة:

- ‌تعريف الأمور المعنوية:

- ‌الثقافة في اللغات الأجنبية:

- ‌الثقافة والمجتمع

- ‌الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية:

- ‌الثقافة وقيم المجتمع:

- ‌الثَّقَافَة وَالحَضَارَة

- ‌طبيعة العلاقة بين الثقافة والحضارة:

- ‌دلالة الثقافة والحضارة على مفاهيم واحدة:

- ‌الربط بين الثقافة والحضارة:

- ‌الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية

- ‌ركائز الثقافة الإسلامية

- ‌الحقائق اليقينية الهادية

- ‌ المنهج الإلهي الشامل:

- ‌رصيد الفطرة الإنسانية الأصلية

- ‌خصائص الثقافة الإسلامية

- ‌ موضع الثقة الكاملة:

- ‌ كمال تصورها للإنسان والحياة:

- ‌ وحدتها المترابطة المتناسقة:

- ‌ بثها روح التميز في الأمة:

- ‌ إيجابية في روحها:

- ‌ أخلاقية في دعوتها:

- ‌ رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا:

- ‌الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية والقوى المعادية

- ‌معركة الإسلام في الحياة

- ‌معركة تصحيح شامل دائم

- ‌معركة تحديات وتبعات:

- ‌المعركة وأصالة البناء الثقافي:

- ‌طبيعة المعركة وصُوَر العَداء

- ‌المعركة في ماضيها وحاضرها:

- ‌صور العداء:

- ‌نظرة في التاريخ

- ‌أمة لا تذوب:

- ‌جاذبية المبادئ:

- ‌بين المد والجزر:

- ‌في العصر الأموي:

- ‌في العصر العباسي:

- ‌الصليبية والغزو الفكري:

- ‌الفصل الرابع: خطط المبشرين والمستشرقين

- ‌الغزو الاستعماري والتبشير

- ‌الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته

- ‌الثقافة وهدف العداء:

- ‌المواقع الثقافية وحملات التشويه:

- ‌مدارس الإرساليات التبشيرية:

- ‌المناداة بتحرير المرأة:

- ‌نشر كتب الطعن على الإسلام:

- ‌الاستشراق والثقافة الإسلامية

- ‌بين المادحين والمشوهين:

- ‌تاريخ الاستشراق:

- ‌دوافع الاستشراق:

- ‌أهداف الدراسات الاستشراقية:

- ‌وسائل الاستشراق:

- ‌الفصل الخامس: الثقافة الإسلامية وآفاق الحياة الإنسانية

- ‌أفق البناء الفكري والخلقي

- ‌مدخل

- ‌تحرير العقل من التعطل:

- ‌الحَثّ على العلم:

- ‌السمو بالنفس وتطهير الضمير:

- ‌أفق البناء الاجتماعي والسياسي

- ‌إنشاء المجتمع الفاضل:

- ‌روح المسئولية في الدَّولة والحُكْم:

- ‌الروح الإنسانية في علاقات السلم والحرب

- ‌عالمية الإسلام وإنسانيته:

- ‌مبادئ الإسلام في العلاقات بين الناس:

- ‌أغراض الحرب في الإسلام:

- ‌قواعد الإسلام في الحرب:

- ‌الإحسان والتسامح مع المخالفين:

- ‌الوَفَاء بالعُهُودِ والمواثيق:

- ‌نماذج من الوفاء بالعهود:

- ‌بين وفاء المسلمين وغدر أعدائهم:

- ‌الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد:

- ‌بين الإسلام والقانون الدولي العام:

- ‌الفصل السادس: في العقيدة

- ‌العقيدة والحياة

- ‌مدخل

- ‌العقيدة والواقع الإنساني:

- ‌العقيدة ومصير الأمم:

- ‌سنة الله في الأمم الجاحدة:

- ‌مثل من قصة بني إسرائيل:

- ‌عقيدة التوحيد في مواجهة الجاهلية:

- ‌العقيدة والإنسان

- ‌الإنسان بين الهداية والغواية:

- ‌طريقان لا تسوية بينهما:

- ‌العقيدة ذخيرة الخير:

- ‌العقيدة تحدد الهدف:

- ‌إقصاء العقيدة عدوان على الإنسان:

- ‌الإنسان في رحاب الإيمان:

- ‌الصلة بالله وأثرها في الطاقات الإنسانية

- ‌إنسان العقيدة:

- ‌خَصَائِصُ العقيدة

- ‌العقيدة قوة هدم وبناء:

- ‌العقيدة منهج القصد والاعتدال:

- ‌العقيدة رابطة أخوة وتراحم:

- ‌العقيدة علاج الأزمات:

- ‌الفهرس

الفصل: النظم الفاسدة، وتشويه العقائد الزائفة.. إلى آفاق الحرية والكرامة، والعدالة

النظم الفاسدة، وتشويه العقائد الزائفة.. إلى آفاق الحرية والكرامة، والعدالة والاستقامة.

ويعرف أعداء الإسلام أن لا سبيل لهم إلى التسلط والاستبداد، والسيطرة على زمام البشر، والتحكم بأوضاعهم والتفرد بقيادتهم.. بروح متألهة عاتبة، ونزعة جشعة خبيثة.. لا سبيل لهم إلى تحقيق آمالهم المدمرة، وأهدافهم الشريرة ما دام لهذا الإسلام -بعقيدته وتشريعه وأخلاقه ونظمه- وجود قوي، وكيان مكين، ودولة وسلطان. ويدركون أنه الدعوة الكريمة إلى الحياة الطيبة، وأنه رسالة الخلاص والإنقاذ، وسبيل الطمأنينة والسلام. ولما كانوا هم أعداء كل خير، وخصوم كل هذه المثل العالية والقيم الرفيعة. فإنهم يقذفون بكل قوتهم في المعركة التي يديرونها لتحطيم هذا الإسلام، والقضاء على دعوته، وتشويه رسالته، وتدمير قوته، وتمزيق دولته.

هذا شأنهم اليوم وذلك هو شأنهم من قبل منذ فجر هذه الدعوة، ولكنهم -وإن أصابوا في هجماتهم بعض النجاح في بعض الفترات- يعلمون علم اليقين أن الإسلام بقوته الذاتية أمنع من أن تنال منه قوتهم مهما بلغت، وأعز من أن يخضع لسلطانهم، أو يتقوض أمام عدوانهم، فهو عقيدة الكفاح الصامد والجهاد الصادق، والحق الذي لا ينهزم. ولكن لا بد لتحقيق ذلك من جنود الإيمان الأوفياء.

ص: 119

‌صور العداء:

نستعرض -فيما يلي- أمثلة من عداء اليهود وغيرهم؛ ذلك العداء الماكر للإسلام، والتآمر الخبيث عليه منذ فجر الدعوة، وإذا كان التاريخ -كما يقال- يعيد نفسه، فإن من الحق أن نقول -ونحن نشهد

ص: 119

اليوم ضروبًا من الغزو الفكري، والعدوان المادي والحرب النفسية، وكثيرًا من التحديات المعاصرة-:"ما أشبه الليلة بالبارحة! ".

لقد كان الإسلام من أول عهده هدفًا لهجمات عنيفة قاسية لا تحتملها ديانة من الديانات، هجمات على قلبه وأعصابه لا تعرف الهوادة ولا الرفق ولا ترضى إلا بالفناء. إن الديانات التي فتحت في عصرها الدنيا، وأخضعت الأمم والحضارات قد ذابت وتحللت أمام هجمات أضعف منها بكثير، وفقدت شخصيتها وكيانها، ولكن الإسلام -بالعكس من ذلك- رد هذه الهجمات كلها على أعقابها وكسرها، وظل محافظًا على قوته وشخصيته وعلى مزاياه وروحه.

لقد كانت الباطنية بفروعها ومذاهبها المتنوعة خطرًا على روح الإسلام النقية وعقائده الصافية الواضحة، تتهدد وضع الإسلام الحقيقي، وكذلك كانت الغارة الصليبية، ثم هجوم التتار -ذلك الجراد المنتشر- صاعقة نزلت على الإسلام والأمة الإسلامية، وكانت جديرة بأن تقضي على الإسلام وتقصيه من ميدان الحياة ومصاف الأمم الحية، فلو كان غير الإسلام من الديانات للفظ نفسه الأخير وأصبح أسطورة من الأساطير.

ولكن الإسلام تحمل كل هذه الصدمات وكل هذه الصواعق، واستطاع أن يعيش رغم كل ذلك وهو يشق طريقه بقوة ويفتح كل يوم -في كل ميدان من ميادين الحياة - فتحًا جديدًا.

لقد مُنِيَ عبر تاريخه المديد بما لا حصر له من المؤامرات والدسائس، والتحدي الداخلي والخارجي لمبادئه وأحكامه ودولته ونظامه، وكان -أكثر من مرة- عرضة لتحريفات الغلو في الدين، وتأويلات أهل الجهالة والهوى، وانتحال أهل الفساد والباطل، وتسربت إليه البدع والضلالات والتقاليد الجاهلية والأفكار الوثنية، وهاجمته

ص: 120

موجات الإلحاد والزندقة عبر كثير من الفلسفات الوافدة شرقية وغربية.. ولكنه ظل في موقعه صامدًا راسخًا يرد الهجمات ويصد التحديات

لقد أبى الإسلام أن يستسلم لهذه الهجمات، وأن يخضع ويستكين لأعدائه، وأبت روح الإسلام أن تنهزم، وأبى ضمير الأمة المسلمة أن يصالح هذه الفتن وأن يتفاهم مع أعداء الإسلام، والمتآمرين ضده. ولكن الأعداء لم يكفوا ولن يكفوا، وما يزالون ماضين إلى هدفهم الخبيث بوسائل جديدة، وأنواع من التحديات، وضروب من المفتريات، يزحفون حتى يسدوا على الناس كل سبيل للحق، أو يفتح الله بابًا من أبواب رحمته فيبعث عليهم من ينكل بهم ويقطع دابر ما يثيرونه من فتن.

والجديد في أمرهم أن شرهم لم يعد مقصورًا في هذه الأيام على الكلام، فقد انتقلوا من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، بعد أن نجحوا في التسرب إلى الحصون التي تحمل قيمنا وراء كثير مما صنعوه من مذاهب باطلة وشعارات زائفة وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

وهم على اختلاف نزعاتهم، وعلى تباين ساداتهم وشياطينهم متعارفون متضامنون، يحمي كبيرهم صغيرهم، ويمهد السابق منهم للاحق، ويتحركون -كما كان المشركون واليهود في فجر الدعوة يتحركون-؛ لتحقيق هدفهم بتخطيط محكم، وتنسيق دقيق، وإحكام للدسائس، وحبك للمؤامرات، حتى يبلغوا ما يرمون إليه من هدمٍ لهذا الدين وإطفاءٍ لنور الله1

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1

1 انظر: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" تأليف: أبي الحسن الندوي ص8.

وانظر: "حصوننا مهددة من داخلها" تأليف: الدكتور محمد محمد حسين ص10.

2 التوبة: "22".

ص: 121

1-

سلاح الفتنة:

أ- لقيت دعوة الإسلام التي جاءت بمنهج الحق والخير للبشر جميعا من المجتمع الجاهلي الذي عملت على تحريره وتطهيره، وإنقاذه من الضلال والفساد، ما لا بد أن يلقاه الحق الذي يواجه الباطل من معارضة واستهتار، وعناد واستكبار، كانت أوضاعه المعوجة الشوهاء التي أقامتها الوثنية وعمقتها العصبية، أكثف حجاب مظلم بين المشركين وبين الإيمان.

هذا موقف المشركين، أما اليهود الذين كانوا يعايشون المسلمين في المدينة بعد الهجرة إليها، فقد كان موقفهم من الإسلام أشد كفرًا وأبعد مكرًا، فقد كفروا بالحق الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، حين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجدون البشارة به فيما يتلون من كتاب، لقد عزّ عليهم -حسدًا وبغيًا- أن يكون النبي الذي كانوا يقولون للعرب: قد أظلنا زمانه من غير اليهود، وساءهم أن ينزل القرآن بلسان عربي مبين، كانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي ينتظرون، وأن ما أنزل عليه من الآيات هدى وحق ونور، ولكن غلبت عليهم شقوتهم المتأصلة فيهم، فلم يخرجوا عن أن يكونوا حلقة جديدة في سلسلة الشر والكفر والمكر، سلسلة الضلال والحقد والعدوان الذي عرف به اليهود في أحقاب التاريخ، لم يكفهم أن يكفروا وكل ما حولهم يبعث على الهداية والإيمان، بل اندفعوا -بكل ما عرف عنهم من نوازع الشر وحبائل المكر- يَصُدُّون الناس عن دين الله، ويعملون على إيقاد نار الفتن، وإثارة عوامل الفرقة، وقطع روابط الألفة، وهدم قيم الحق والخير، يبغون -وهم أهل العوج والانحراف- أن يعم الفساد، وتسود البغضاء، وتنتشر الفتن، ويبعد البشر عن سبيل الاستقامة والرشاد.

لقد كان هدف هؤلاء الأعداء الحاقدين أن يردوا المؤمنين إلى الكفر بعد

ص: 122

أن أكرمهم الله بالإيمان، وأن يقذفوهم في حضيض التمزق والضياع بعد أن سلكوا سبيلهم إلى تسنم ذُرَى الوحدة والنور، كانوا يريدون لهم أن يظلوا -كما كان شأنهم في الجاهلية- حيارى تائهين، تفترسهم العصبيات، وتفتك بهم العداوات، وتدمرهم الأحقاد والثأرات.

ب- إنهم يريدون -وهذا شأنهم في كل عصر- أن يبتعد المسلمون عقيدةً وفكرًا وعملاً وخلقًا، وتربيةً ونظامًا، عن سبيل الله الذي يحقق لهم الوجود الحق، والكيان القوي، والمجد الرفيع، والنصر الكبير، وليس سبيلهم إلى تحقيق ما يريدون من أذى وشر وفساد إلا العمل على فصم عُرَى المودة والإخاء، وإثارة نوازع العداوة والبغضاء؛ ولذا فقد جاءت آيات الوحي الكريم تكشف حقيقتهم، وتفضح حركتهم، وتحذر المؤمنين من مكرهم وشرهم، وتشدهم شدًا محكمًا إلى منهجهم الإلهي، وتربطهم ربطًا وثيقا بمصدر خيرهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، كتاب الله عز وجل، والاعتصام بحبله المتين.

قال تعالى:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

1 آل عمران: "98-101".

ص: 123

روي في أسباب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً} الآية: أنه مر "شاس بن قيس اليهودي" وكان شيخًا قد عمي في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مَرّ "شاس" هذا على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد -يريد الأوس، والخزرج- بعد الذي كان بينهم، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار. فأمر شابًا من اليهود كان معه فقال له: اعمد إليهم، ثم ذكِّرْهُم بيوم بعَاث، وما كان قبله -وهو من حروب الأوس والخزرج في الجاهلية - وقال الشاب: أنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل الشاب ما أمره به "شاس" فعند ذلك تكلم القوم فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين فَتَقَاوَلا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت والله رددتُها الآن جذعة، أي أثرت الحرب من جديد، وغضب الفريقان وقالا: قد فعلنا، السلاح السلاح. موعدكم الظاهر -وهي حرة في المدينة- فخرجوا إليها، وتلاقى الأوس والخزرج على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال:"يا معشر المسلمين، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم، فترجعون إلى ما كتنم عليه كفارًا؟ الله الله". فعرف القوم عند ذلك أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين. فأنزل الله عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ

ص: 124

وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

2-

حرب الشبهات:

أ- يستهدف أعداء الإسلام في كل عصر صرف الناس عن الهدى، وصدهم عن الحق، وإقصاءهم عن سلوك السبيل السوي، وانتظامهم في ركب الإيمان الخالص.. ويسوؤهم دائما أن يستجيب البشر لدعوة الله، ويتبعوا منهجه القويم، ويتخذون لبلوغ أغراضهم السيئة وسائل شتى تصدر عن حقدهم وضلالهم، ويحاولون تحقيق ما يرمون إليه بضروب كثيرة من الدس والتشويه، والتشكيك، ولا يتوانون أبدًا عن خطتهم الماكرة المدمرة في تفريق الصف المؤمن، وتمزيق وحدته، وتوهين قوته، وفك ارتباطه بدعوته.

ولقد واجه أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم هذه الدعوة الحقة الكريمة في فجر انتشارها بألوان من الشبهات، وأنماط من المفتريات، بغية إشاعة نزعات الشك، وتضليل العقول، وإفساد العقيدة، ونشر الانحراف، وكانت إثارة نزعة الجدال العقيم -في إطار التشويه والتشكيك- وسيلة هؤلاء في محاولتهم الماكرة تحويل المؤمنين عن المنحى الإيجابي المثمر البناء، إلى منحى الفرقة والبلبلة والخلاف، فأثاروا بعض الشبهات حول نسخ بعض الأوامر والتكاليف؛ بغية زعزعة إيمان المسلمين بعقيدتهم وصدهم عنها.

ويدعي اليهود حين ينكرون النسخ أنه "يستلزم في زعمهم البداء، وهو

1 آل عمران: "100-101".

ص: 125

الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البداء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى.

واستدلالهم هذا فاسد؛ لأن كلًا من حكمة الناسخ وحكمة المنسوخ معلوم لله -تعالى- من قبل، فلم يتجدد علمه بها، وهو -سبحانه- ينقل العباد من حكم إلى حكم؛ لمصلحة معلومة له من قبل بمقتضى حكمته وتصرفه المطلق في ملكه.

واليهود أنفسهم يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها. وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوان على بني إسرائيل بعد حله.

قال تعالى في إخباره عنهم:

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1

وقال:

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية 2.

"وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنه"3

1 آل عمران: "93".

2 الأنعام: "146".

3 مناع القطان: "مباحث في علوم القرآن" ص199.

ص: 126

ب- هذا وإن النسخ واقع في كل شريعة بالنسبة لما قبلها، وفي الشريعة الواحدة، ولكن النسخ لا يتناول جوهر هذه الشرائع وأصولها فهي متحدة في جملة مراميها في العقيدة والخلق، وقد ذكر الله عز وجل أن شرائع النبيين واحدة لا اختلاف بالنسبة لأصولها ومراميها الكلية.

فقال تعالى:

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 1

حتى إذا صقلت النفس الإنسانية بتجارب الأحقاب ونضج العقل البشري جاءت شريعة الإسلام كلية في أكثر أحكامها في شئون الهداية والاجتماع، مخاطبة لكل الأجيال اللاحقة، صالحة لكل زمان ومكان. جاءت هذه الشريعة الإسلامية وفيها ناسخ ومنسوخ، وكانت الأحكام المنسوخة مناسبة في أوقاتها، حتى إذا زال ما يقتضي وجودها جاءت الأحكام المحكمة، ولا يرجع في معرفة النسخ إلا إلى نص صريح، ولا يعتمد فيه على قول لا يستند إلى نقل صحيح ثابت، فليس المجال -في النسخ- مجال اجتهاد بالرأي.

جـ- والحكمة في جواز النسخ هي التيسير على الأمة؛ لأن النسخ علاج للجماعة الإسلامية في عصرها الأول، ولم يثبت النسخ قط في الكليات، وإنما جاء في بعض التفصيلات الجزئية، ولذلك جاء النسخ بعد الهجرة عندما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في إنشاء الدولة الإسلامية، ولأن الذي نزل بمكة إنما كان قواعد كلية وهي غير قابلة للنسخ2.

1 الشورى: "13".

3 انظر: "علوم القرآن" تأليف: أحمد عادل كمال ص93.

ص: 127

في ضوء هذه الحقائق النقلية والعقلية يتضح أن دافع اليهود في إثارة مسألة نسخ بعض الأحكام إنما هو الكفر والعناد والتشويه والإفساد؛ إذ ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه -سبحانه- يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وقد وقع هذا النسخ في كتبه المتقدمة، وشرائعه الماضية، فهو عز وجل أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخ هذا الأمر قبل الفعل، وأمر -جل شأنه- جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم هذا الأمر كيلا يستأصلهم القتل -كما أسلفنا- واليهود الذين أثاروا شبهة النسخ يعترفون بكل هذا، ولكنهم يصدفون عنه تعنتًا وعنادًا واستكبارًا، ومضيًا منهم في المكر بالإسلام وأهله.

وهنا يجيء وحي الله تبارك وتعالى بالحسم القاطع لكل ما يمكن أن يتسرب إلى العقول من شبهات زائفة، وشكوك باطلة، فيقرر -سبحانه- أن أي نسخ أو تعديل إنما هو لصالح البشر، ولتحقيق خير أكبر، وهو تبارك وتعالى خالق الناس ومرسل الرسل ومنزل الآيات، وله وحده الخلق والأمر، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يُسْأَل عما يفعل وهم يُسألون، يأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله.

قال تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1

1 البقرة: "106-107".

ص: 128

قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله:

"وهذا الخير وإن كان خطابًا من الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه -جل ثناؤه- تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غَيَّرَ الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانها، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء من إقراره وأمره ونهيه".

هذا وإن المسلمين كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله -تعالى- لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه، ومن أمثلة ذلك قضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، ونسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك -أيضا- نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.

د- إزاء هذا البيان الحاسم المقرر للحق فإن على المؤمنين أن يكونوا على حذر شديد من مسلك اليهود وغيرهم من أعداء الدين، قطعًا لدابر أي انخداع بهذه الشبهات الكاذبة والمفتريات الباطلة، ولا بد تحقيقًا لهذا الوعي المؤمن والتربية الإسلامية المثلى؛ أن يحذر المؤمنون من توجيه أسئلة للرسول صلى الله عليه وسلم لا تتفق مع الثقة واليقين، وفي هذا استنكار للتشبه بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق، وإعناتهم لرسولهم كلما أمرهم بأمر، أو أبلغهم بتكليف.. فهذا هو طريق التعنت الذي يحاول الكفار من أهل الكتاب أن يدفعوا المسلمين إلى سلوكه، إنه طريق الضلال واستبدال الإيمان بالكفر، وهم يحاولون أن يقودوا المسلمين إلى هذا حسدًا لهم وحقدًا عليهم، ورغبةً في إلحاق الأذى والشر بهم، وإذا

ص: 129

كان هدى الله قد دل المؤمنين على مكمن الخطر، ورباهم على الوعي والحذر، فقد وجههم إزاء ما يكتنف وجودهم المؤمن من تحديات وحملات، إلى الثبات على الإيمان، وأخذ الأمور بروح الصفح والعفو والاحتمال، والمضي في طريق الحق، والإقبال على عبادة الله، وادخار الحسنات، حتى يأتي أمر الله بالفتح والنصر المبين.

قال تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1

3-

الدعاوى الباطلة:

أ- إن عقيدة الإسلام هي العقيدة الأصلية الكاملة الشاملة، التي تعلن الوحدة الكبرى للدين، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى خاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم

1 البقرة: "106-110".

ص: 130

لا يخالفها إلا ضالٌّ، ولا ينحرف عنها إلا متعنت، ولا يجحدها إلا ملحد، ولا يكابر فيما جاءت به من حقائق ساطعة وأدلة ناصعة إلا معاند مستكبر.. وقد لقيت هذه الدعوة من المشركين وأهل الكتاب ضروبًا من المعارضة، وصنوفًا من الكراهية والعداء، وإذا كان المشركون من العرب قد قابلوها بالتحدي والجحود والإنكار، حفاظًا على موروثات الجاهلية وتقليدًا فارغًا للآباء.. فقد قابلها أهل الكتاب الذين عاصروها بالشبهات الملتوية، والادعاءات الباطلة، والتشكيك والدس والافتراء.. ويصدر كلا الفريقين في ذلك عن مخالفة لأمر الله ومناوأة لدعوة الحق والهدى، واغترار بالباطل، واتباع للهوى ونزغات الشيطان.

وفي كتاب الله عز وجل مناقشة لما يدعيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى تعنتا بلا دليل من أنهم هم المهتدون، وأن ما هم عليه هو الحق، وأن على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يتبعوهم؛ ليكونوا من المهتدين.. فقد قال اليهود لرسول -الله صلى الله عليه وسلم: ما الهُدىَ إلا ما نحن عليه فاتبعنا -يا محمد- تَهْتَدِ!، وقال النصارى مثل ذلك، فرد الله تبارك وتعالى عليهم دعواهم، وفنَّدَ مزاعمهم، موجهًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يواجههم جميعا برفض ما يدعون إليه، وإعلان أن المؤمنين يتبعون ملة إبراهيم الذي استقام على التوحيد، وأخلص لله في عقيدته وعبادته، ووفى بعهد ربه فلم يدعُ معه غيره، ولم يشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه.. وفي بيان هذه المناقشة وهذا الرد الحاسم يقول عز وجل:

{وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.

ب - ثم يرشد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين إلى دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان

1 البقرة: "135".

ص: 131

بهذا الدين الواحد، وإلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلاً، وما أَنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص سبحانه على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، داعيًا إلى عدم التفريق بين أحدٍ منهم، حتى لا يكونوا كمن قال الله فيهم:

{وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 1

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل الله"2.

فالإيمان بالله وما أنزل على رسوله وأنزل على الأنبياء من قبله، هو المسلك السوي الراشد الذي يجب على عباد الله أن يسلكوه، وهو القاعدة التي تحقق الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعًا، وتقيم أمور الناس ونظم الحياة على منهج التوحيد وفي ذلك يقول عز وجل -تعليمًا للمسلمين وإرشادًا لهم إلى محاجة أهل الكتاب:

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 3

1 النساء: "150-151".

2 رواه البخاري.

3 البقرة: "136".

ص: 132

ج- إن سبيل الاستقامة منهج الهداية وطريق الرشاد، إنما هو في ثبات المؤمنين على العقيدة الحقة النيرة التي تسكب في القلوب روح الاعتزاز بالله والثقة به، والاطمئنان إلى نصره وتأييده فإن آمن المخالفون لهم بمثل ما آمنوا به؛ فقد أصابوا الحق واهتدوا إليه، وإن تولوا عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم؛ فإنما يشاقون بذلك الأصل الثابت القوي الذي يجب أن يقوم عليه أمر الحياة وشئون البشر، ويلجون في ظلمات الكفر والفساد، ويتيهون في مهاوي الضلالة والشقاء، وسينصر الله المؤمنين عليهم ويظفرهم بهم، مهما كادوا ومكروا، وتآمروا وغدروا.. وسيتولى الله تبارك وتعالى عن رسوله والمؤمنين أمرهم إذا استقام المؤمنون على الطريقة، وجاهدوا في الله حق جهاده. فإن ما هم عليه هو دين الله الحق وصبغته الطيبة.. ومن أحسن صبغة من الله عز وجل، الذي شاء أن تكون شرعة الفطرة آخر رسالاته إلى عباده.

قال تعالى:

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} 3

4-

الجدال العقيم:

أ- كان من وسائل أهل الكتاب من اليهود والنصارى المنحرفين عن ملة إبراهيم دين الفطرة وشرعة التوحيد إثارة الجدال العقيم، والمحاجة الباطلة في حقائق العقيدة، وفي مقدمتها الحقيقة الكبرى الخالدة التي يصدر عنها كل خير، وينبثق من نورها ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من صحة

1 البقرة: "137-138".

ص: 133

صور العداء:

في التفكير، واستقامة في الاتجاه، وطهارة في السلوك، وصلاح في العمل.. إنها عقيدة التوحيد التي كان اليهود والنصارى يجادلون المسلمين بها.. كما يجادلهم بها المشركون.. والجدال في وحدانية الله وربوبيته، والمناظرة في الإخلاص له والانقياد لأوامره وترك زواجره على النحو الذي كان يثيره المنحرفون عن منهج الله- لا يرمي إلى تجلية الحقائق وترسيخها في الفكر والضمير؛ وإنما يستهدف التشكيك واللجاج الفارغ، وتعويق المؤمنين عن أداء مهمتهم الكبرى في نشر الهدى والدعوة إلى الحق..

ويرشد الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى درء هذه المجادلة الباطلة، وقطع دابر هذه المحاولة الخبيثة، التي لا تؤدي إلا إلى إثارة الريب، واشتغال المسلمين بدفع الشبهات، التي لا يقصد مثيروها بحثًا مخلصًا عن حقيقة لم تتضح لهم، للوصول إلى مزيد من الاقتناع واليقين.. وتوجيه القرآن الكريم في درء هذه المجادلة، منبثق من هذه الحجة القاطعة: وهي أنه لا مجال للجدل في توحيد الله تبارك وتعالى، فهو ربنا وربكم المتصرف فينا وفيكم. ويدعو المؤمنين بعد هذا الرد الحاسم، إلى أن يعلنوا لهؤلاء المنحرفين المجادلين أنهم برآء منهم ومما يعبدون، كما قال تعالى:

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 1

كما يدعوهم إلى أن يعلنوا أنهم متجردون لله مخلصون له، لا يشركون به شيئًا ولا يرجون معه أحدًا.. وفي ذلك يقول عز وجل:

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا

1 يونس: "41".

ص: 134

وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} 1.

ولهذا التوجيه الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حسم الجدال مع هؤلاء الضالين أثر بالغ في قطع دابر اللجاج والمحاجة بالباطل، وهو أصيل في المنهج الإلهي الراشد عريق فيه.. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك فيما أخبر به عن إبراهيم عليه السلام.. وفي ذلك يقول عز وجل:

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2.

ب- ثم يعالج القرآن في الآيات الكريمة صورة أخرى من صور الدعاوى الباطلة التي كان اليهود والنصارى يدعونها، مقررًا أنهم في ذلك كاذبون مفترون.. يجادلون كذلك بالباطل ويكتمون شهادة الحق، ويخالفون الحقيقة الجلية التي يعرفونها، والواقع المشهود الذي لا سبيل إلى إنكاره.. إن القرآن الكريم ينكر عليهم دعواهم أن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا على ملتهم: إما اليهودية وإما النصرانية.. وقد أخبر الله تعالى أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، ولقد كانوا أسبق من اليهودية والنصرانية، والله يشهد بحقيقة دينهم، وأنهم كانوا على الحنيفية الأولى التي لا تشرك بالله شيئًا.. كما قال تعالى:

{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً

1 البقرة: "139".

2 الأنعام: "80-81".

ص: 135

مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1

إن هؤلاء الذي يجادلون بالباطل ويكابرون بالحق ظالمون مفترون، يكتمون شهادة الله التي جاءت في كتبهم، ويجحدون ما يعرفون من أنه سيبعث نبي في آخر الزمان دينه الحنيفية السمحاء.. الإسلام.. يجحدون ذلك كفرًا وضلالًا، وتعصبًا وحقدًا، وتجاوزًا على الحق الذي جاءهم من عند الله.

قال الحسن البصري: "كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم: أن الدين الإسلام، وأن محمدًا رسول الله، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقرُّوا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك".

ولكن الله تبارك وتعالى مطلع على ما يخفون من الشهادة التي ائْتُمِنُوا عليها، عليم بما يثيرون من الجدال فيها لتعميتها وتلبيسها، وسيجزيهم على ذلك بما يستحقون

وليس يغني عن هؤلاء الضالين انتسابهم إلى أولئك الأنبياء الكرام من غير متابعة لهم.. والانقياد مثلهم لأوامر الله..

قال تعالى:

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2

1 آل عمران: "67".

2 البقرة: "140-141".

ص: 136

5-

في حادث تحويل القبلة:

أ- كان حادث تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام مثارا لحملة ضجيج وتساؤل واعتراض من الأعداء السفهاء الذين ينفخون في نار الفتنة، ويقودون حملة التشويه والتشكيك، ويحاولون أن يوجدوا في الصف المسلم نزعة البلبلة والانقسام، وأن يوقعوا في روع المؤمنين القلق والاضطراب.

ولا عجب أن يرمي هؤلاء السفهاء -بما يطلقون من أقاويل ويشنون من حملات- إلى كل هذا، فهم أعداء هذه الدعوة الخيرة، وخصوم هذه الجماعة المسلمة الكريمة، وهم -يهودا أو مشركين ومنافقين- يتربصون بالمسلمين الدوائر ويقاومون -بحقد ومكر ولؤم- إقامة منهج الله في الأرض.

يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان -وهو بمكة- يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة، ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، ومن ثم كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلي مستقبلا الشمال. فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا أو يزيد

وقد كان هذا التوجه إلى بيت المقدس -وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى- سببا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام، فقد زعموا أن قبلتهم هي القبلة، وأن دينهم هو الأصل، وأن على محمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم، لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام

وكان هذا التوجه شاقا على العرب الذين آمنوا؛ لأنهم ألفوا تعظيم الكعبة، وجعلوها قبلتهم قبل مجيء الإسلام

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 137

فقد كان يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم

لقد كان توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس يعجب اليهود ويسرهم ويتخذونه -كما أسلفنا- حجة لانصرافهم عن الإسلام وتعصبهم لباطلهم.. فلما نزل القرآن الكريم يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم من رغبة في استقبال البيت الحرام، وولى وجههُ قِبَلَ البيت أنكروا ذلك، وانطلقوا يقودون حملة التشكيك، وقالوا للمسلمين: إذا كنتم في استقبال بيت المقدس على خطأ فقد ضاعت عبادتكم السابقة، وإذا كنتم على صواب فسوف تضيع عبادتكم الآتية، وكانت حملة هؤلاء السفهاء تستهدف الطعن بالإسلام، وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتشكيك في أن ما جاء به ليس وحيًا من الله يتلقاه.

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أوَّل ما قدم رسول -الله صلى الله عليه وسلم نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قِبْلَتُهُ قِبَلَ البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول -الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ الكعبة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم؛ إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، فلما ولى وجهه قِبَلَ البيت أنكروا ذلك، فنزلت:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} .

فقال السفهاء، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ "1.

1 أخرجه الشيخان ومالك والترمذي.

ص: 138

ب- هذا هو الحادث الذي جاء وحي الله تبارك وتعالى فيه يحسم أقاويل هؤلاء السفهاء، ويرد حملتهم المنكرة، ويعالج آثارها في نفوس المؤمنين، مقررًا في ذلك حقائق في العقيدة والأمة، مبينًا حكمته تعالى في اختيار القبلة التي كانوا عليها، مطمئنًا المسلمين إلى عدم ضياع ثوابهم وفي ذلك ما يملأ قلوبهم بالثقة والرضى واليقين.

لقد تساءل أولئك السفهاء عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فجاء جواب القرآن على هذا التساؤل: إن المشرق لله والمغرب لله، وهو الذي يَهْدِي من يشاء إلى الصراط المسقيم، فالجهات كلها لله؛ وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة لتكون جامعة لهم في عبادتهم، وما يختاره سبحانه فهو المختار، وهو يرشد إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين، وفي ذلك يقول عز وجل:

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

بعد ذلك يتحدث السياق القرآني عن هذه الأمة الكبيرة، ورسالتها العظمى في الأرض، وخصائصها الفريدة، وشخصيتها الفذة المتميزة، مقررًا أنه سبحانه قد جعل هؤلاء المسلمين -بِهُدَاهُ- عدولاً أخيارًا، وجنَّبَهم مساوئ الإفراط والتفريط، فليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرِّطين، وأعدهم ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل، الذي يقيم موازين القسط وقيم الحق، وجعل سبحانه رسول الهدى والنور شهيدًا عليهم، فهو المثل الحي والأسوة الحسنة، ويستحق المسلمون ثناء الله عليهم بأنهم الأمة

1 البقرة: "142".

ص: 139

الوسط، وأنهم خير أمة أخرجت للناس باتباع سنته والاقتداء بسيرته والالتزام بشريعته.

ج- أما حكمة الله تبارك وتعالى في اختيار القبلة التي كانوا عليها، ثم جاء الأمر بالتحول عنها، فقد كانت اختبارًا للمؤمنين، يظهر به صدق الصادقين وريب المرتابين. وكانت تربيةً عظيمة لهذه الجماعة التي أراد الله لها أن تخلص في عبادتها وصدق اتجاهها، وأن تتخلص من رواسب الجاهلية ووشائجها، وإنه لامتحان عظيم لا يثبت عليه إلا الذين تشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به، وإنها لتربية مثلى على احتمال التبعة، والقيام بأعباء القيادة على أمتن الأسس في الإخلاص والطاعة والتجرد، ومن حكمته سبحانه ورحمته بعباده أنه لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين الباعث لهم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حوّلها، وفي ذلك بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى، وهم أولى الناس برحمته ورأفته.

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.

لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحديد دعوة إبراهيم، وإحياء ملته، ولما

1 البقرة: "143".

ص: 140

كانت الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام أقدم القبلتين، وأول بيت وضع للناس، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو أن يوجهه ربه إلى قبلة أبيه إبراهيم، وكان يردد نظره جهة السماء حينًا بعد حين، تطلعًا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة، وبخاصة بعد ما كثر لجاج اليهود وحجاجهم؛ إذ كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا!.. ولولا ديننا لم يدرِ أين يستقبل القبلة؟!..

ولقد استجاب الله تبارك وتعالى رجاءه، ووجهه إلى ما يرضيه، وجعله يلي الجهة التي يحبها ويتشوف لها، وأمره أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وجعل ذلك قبلة له ولأمته في أي وقت، وفي أي مكان، قبلة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها.. وتعدد أجناسها وألسنتها وألوانها.. فعلى المؤمنين في أي مكان كانوا أن يستقبلوا جهة المسجد الحرام بوجوههم في الصلاة.. وهذا يقتضي أن يصلوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات.. وبذلك يتميزون عن النصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، واليهود الذين يلتزمون جهة الغرب.

وقد أكد سبحانه الأمر باستقبال المسجد الحرام، ووجَّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتدَّ عزيمتهم وتطمئن قلوبهم، ويواجهوا ما أثاره أعداؤهم من اليهود والمنافقين -من الفتنة بشأن التحويل- بروح الثبات على الحق وصدق الاتباع.. ذلك أن هؤلاء الذين أوتوا الكتاب يعلمون حق العلم أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول. الذي رفع قواعده إبراهيم عليه السلام، وأن التولِّي شطره هو الحق المنزَّل من عند الله لا مرية فيه.. ولكنهم -مع هذا- يأبون إلا أن يثيروا الفتنة، ويخدعون المؤمنين، ويقوموا بحملة التشكيك والتشويه.. ولقد افتضح أمرهم وانكشف تآمرهم.. فالله تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، وسوف يجازيهم

ص: 141

على عنادهم وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين..

وفي ذلك يقول تعالى:

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1.

د- إن موقف أهل الكتاب في إثارتهم الفتنة والشكوك، وقولهم ما لا يعتقدون، إنما يصدر عن نزعة عريقة في المكابرة والعناد، ولا تجدي مع هؤلاء حجة ولا يقنع برهان، فهم يعرفون أن التولي شطر المسجد الحرام هو الحق المنزَّل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ولكنهم -كما يعلن الوحي الإلهي لرسول الله- لن يتبعوا قبلته صلفًا وعنادًا مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة.. وليس من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتبع قبلتهم، وأن يختار غير ما اختار له ربه وارتضاه وهم في خلاف بينهم أيضًا، وكل منهم متمسك بما هو فيه، قد أعمى التعصب بصيرته، ولذا فليس بعضهم بتابع قبلة بعض.. فلا يتوجه اليهود إلى المشرق، ولا يتوجه النصارى إلى المغرب.. وليس يصح -وقد استبان الحق ووضح موقف أهل الكتاب- أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهواءهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله، ولئن وافقهم فيما يريدون -وحاشاه أن يفعل ذلك- فإن هذا هو الظلم والانحراف، الذي لا ينبغي لأحدٍ من المؤمنين أن يقع فيه.

1 البقرة: "144".

ص: 142

وفي ذلك يقول عز وجل: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 1.

ثم يصدر التقرير الإلهي الجازم مؤكدًا مكابرة أهل الكتاب بما يعلمون أنه الحق من الله.. فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به، ومن نعوته وصفاته، ويعرفون أن ما جاء به في شأن القبلة هو الحق الذي أوحى الله به إليه.. يعرفون كل ذلك معرفة يقين لا شبهة فيه كما يعرفون أبناءهم.. ولكنَّ فريقًا منهم يعاندون فيكتمون الحق الذي يعرفون..

ويتوجه الخطاب بعد هذا التقرير والبيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنًا أن الحق هو ما أوحى الله به، فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.. وفي هذا إيحاء بالغ للمؤمنين ليعملوا بما أمر الله ويعرضون عن أباطيل الجاحدين وزورهم وبهتانهم، فهم دائمًا دعاة فتنة وعناصر شر وفساد.

قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 2.

1 البقرة: "145".

2 البقرة: "146-147".

ص: 143