الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خصائص الثقافة الإسلامية
1-
موضع الثقة الكاملة:
أ- إن الثقافة الإسلامية بارتكازها على العقيدة ليست من وضع بشر منساق بطبيعته البشرية إلى عوامل الضعف والنقص وضغط المنفعة والعصبية والطبقية؛ بل إن انبثاقها عن المنهج الإلهي يعطيها مطلق الثقة الكاملة بها، ويجعلها موضع الإيمان والتسليم، ويغنيها -من ناحية أخرى- عن الوسائل التي يُلْجَأ إليها لتزيين المفاهيم البشرية الناقصة المحدودة.
إن مناط تلك المفاهيم الضالة التمويه على الإنسان والتدليس عليه، وفي ذلك ما فيه من زراية بعقله، واستهانة بكرامته. "وقد اتسمت الحضارة المادية في العهد الأخير بالتدجيل في كل شيء، والتلبيس على الناس، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وتمويه الحقائق، وإطلاق الأسماء البراقة الخلابة للعقول على غير مسمياتها، وبكثرة الاختلاف بين الظاهر والباطن، والأول والآخر، والنظريات العلمية، والتجارب العملية. وهذا شأن الشعارات والفلسفات التي حلت محل الأديان. وسحرت النفوس والعقول، والكلمات التي أحاطت بها هالات التقديس والتمجيد وحل حبها واحترامها في قرارة النفوس، وحبات القلوب، وأصبح
الشك في قدسها، أو النقاش في كرامتها ومكانتها علامة للرجعية، وإنكارًا للبداهة، والمشهود المحسوس، وقد التبس الأمر بذلك على كبار الأذكياء، ونوابغ العلماء؛ فأصبحوا يتغنون بهذه الشعارات والفلسفات، ويدعون إليها في إيمان وحماسة من غير تمحيص لنية أصحابها وإخلاصهم، أو شجاعة في تحديد نجاحها أو إخفاقها في مجال العمل والتطبيق، والمقارنة الصحيحة المحايدة بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة، وبين ما خسرته من سلطان هذه الشعارات وتحت رايتها من السعادة الحقيقية، والحقوق الفطرية، وهذا كله من قوة التدجيل وسحره الذي تفوق فيه "الدجال الأكبر" على جميع الدجالين والمدلسين والمموهين، الذين عرفهم التاريخ البشري. وقد سرت هذه الروحية "الدجلية المدلسة" في هذه الحضارة لسيرها على خط معارض لخط النبوة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر الكون، وقدرته المطلقة، واحترام شريعته وتعاليمه، وللاعتماد الزائد على الحواس الظاهرة، والشغف الزائد بما يعود على الإنسان باللذة البدنية، والمنفعة العاجلة والغلبة الظاهرة"1.
وإن هذه الثقافات المرتكزة على النظرات البشرية والفلسفات المحدودة والمرتبطة بقيود الزمان والمكان والخاضعة لمؤثرات البيئات والظروف، والمتأثرة بالأزمات النفسية والهزات الاجتماعية، وما ينجم عنها من ردود الفعل التي يبعدها عن العمق والصدق والاتزان.. إن هذه الثقافات -وهذا حالها- إنما تعيش في الحقيقة خارج دائرة الوجدان الإنساني في أصالته ونقائه؛ فهي بعيدة كل البعد عن أي نزعة تحفظ للإنسان مكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، ولا تملك إلا أن تسوق الإنسان بنزعة القوة التي تسيطر بها عليه سيطرة تسلبه بها حريته، أو نزعة الخديعة التي تسلبه
1 أبو الحسن علي الحسني الندوي: "الصراع بين الإيمان والمادية" ص13
بها كرامته، أو بهما معًا كما هو حال كثير من الأمم والشعوب في ظل هذه الفلسفات المادية المنحرفة التي استطاعت أن تتخذ من السلطة منطلقًا لممارسة نزعة القوة والخديعة في آن واحد..
ب- ولعل خير ما يجلي الصورة المقابلة لهذا الوضع المنحرف ما يبينه الإسلام من حقيقة "العبودية" في الإنسان، وهي العبودية التي تقوم على الثقة والطمأنينة واليقين الخالص وحب الله عز وجل والخوف منه ورجائه..
وقد أوضح شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- حقيقة جوانب ذلك في رسالته "العبودية" فهو "ينزع نزعة مثالية في نظريته، نزعة ترد على الإنسانية كرامتها، وتحتفظ للإنسان بمنزلته العليا فوق عالم الكائنات الحية التي لا تطاوله في منزلته، ولا تنازعه في قمته التي وضعه الله فيها بما وضع فيه من عنصر العقل والإدراك، وابتغاء الحق والخير وأهلية التكليف".
يقول ابن تيمية: "والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه؛ فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل" ص100 ويقول: "والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن؛ إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات؛ لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه" ص108.
وهذه النزعة -في الوقت نفسه- ليست نزعة خيالية تهمل الواقع؛ ولكن ترتفع به عن طريق "التسامي" أو "الإبدال" مما لمحه علماء النفس والتربية، وما عرفوا الطريق الحق إليه. "والأنبياء -كما يقول ابن تيمية في كتاب
"النبوات"- قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها"1.
ج- إن هذه الثقافة التي تقوم على الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر.. تنشئ في النفس الإنسانية تلك الثقة المرتكزة على يقظة ذاتية، وحيوية داخلية، تكوّن تلك النزعة الفطرية إلى الاستقامة، وتدفع إلى حسن السلوك، وهي نزعة لا تحتاج إلى محرك خارجي، ولا إلى رقابة خارجية؛ إذ السلطان على الفرد عندئذ هو الاعتقاد الذي يحمله بين جنبيه.
والفرق بين المؤمن الذي يحمل في نفسه القوة الدافعة إلى العمل المستقيم، والتعاون مع الناس، وبين القانون الذي يضعه المجتمع ويفرضه بقوة الحراسة وهي القوة التنفيذية. إن الفرق هو أن سلطان القانون وما يصحبه من قوة تنفيذية خارج عن الإنسان، والإنسان في المجتمع الحديث -وهو المجتمع صاحب القانون الوضعي وصاحب السلطة التنفيذية- يعمل بدفع هذه القوة الخارجة عنه، ولو تهاون هذا المجتمع في تطبيق القانون يومًا ما، أو خفت رقابة السلطة التنفيذية؛ فإن الفرد يتهاون بدوره في أداء ما كان يحتم عليه القانون أداءه، وما كانت السلطة التنفيذية ترقبه منه.
إن الثقة الكاملة بين الإنسان وما يجب عليه من العمل والسلوك؛ لا بد أن تكون منبثقة من يقين الإنسان بصحة ما يجب عليه، وحُبٍّ صادق له، ورغبة قوية فيه، وحرص تام عليه، وسعادة في أدائه؛ ولكن هذه العناصر والبواعث لا يمكن أن تتحقق للإنسان بعامل الدفع الخارجي؛ بل لا بد لها من العقيدة التي تمزجها جميعًا مزجًا طرائعًا بكيان الإنسان الداخلي، وشعوره الوجداني.
من أجل هذا حاول بعض الفلاسفة الأخلاقيين المثاليين في -المجتمع
1 عبد الرحمن الباني: "مقدمة رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية" ص22. وأرقام الصفحات في النص من رسالة العبودية.
الأوربي في القرن الثاني عشر- أن يضع خلقية ذاتية تقوم على فكرة "أداء الواجب لذات الواجب" وشاعت هذه الخلقية المثالية في الشعب الألماني على الخصوص، وعرفت هذه الفكرة بفكرة "كانت" أو بالواجب الخلقي.
ومع أنها خلقية دافعة نحو العمل من ذات الإنسان، دون رعاية القانون الوضعي، وما يصحبه من سلطة تنفيذية؛ فإنها تفترق عن الخلقية الدينية التي يريدها الإسلام للمجتمع الإسلامي، والتي هي أساس لتماسك المجتمع الإسلامي، وتعاون أفراده؛ لأنه مهما كان الأمر فلا يغيب عن أذهاننا أن أساس القوة الخلقية هو الاعتقاد بالله، وإن أساس الخلقية المثالية هو تصور عمل الواجب من الإنسان للإنسانية. وشتان بين قوة تعتمد على الاعتقاد بالله، وأخرى تقوم على تصور الإنسان للإنسانية؛ فالاعتقاد بالله من شأنه أن يبقى ويدوم؛ بينما تطورات الإنسان -مهما كانت- فإنها تخضع للعوامل التي يتأثر بها الإنسان، ويسهل عندئذ أن يتغير تصور الإنسان من لونٍ إلى لونٍ آخر.
وإذا كان أي قانون من القوانين لا يستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات؛ بل لا بد أن يقترن حتى ينفذ ويصان بثقة الإنسان به، فإن مرتكز هذه الثقة هو مرتكز وجداني أخلاقي، لا تنشئه إلا العقيدة الدينية وحدها، وفي هذا ما يؤكد أن الإيمان وحده هو الذي يستوفي كل هذه الأمور. وينشئ ذلك الشعور الذي يظل يعتمل في قرارة ضمير المؤمن؛ فيحمله على الخير ويردعه عن الشر، ويحدث ذلك التفاعل الإيجابي -الناجم عن الثقة- مع الاستقامة والفضائل، وذلك التفاعل السلبي مع الانحراف والرذائل1.
1 انظر "الإسلام في الواقع الأيديولوجي المعاصر": للدكتور محمد البهي ص42-45.
وانظر: "الإسلام يتحدى" تأليف: وحيد الدين خان ص423