الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد:
1-
لا بُدَّ حتى يكون المسلم مسلمًا حقًّا أن يكون معنى انتمائه لهذا الدين وثيق الصلة محكم الأواصر بعقيدته الحقة، ومبادئه السامية وتشريعاته العادلة، وجهاده الدائب لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له.. كما قال "رِبْعِيُّ بن عامر"1 لرستم -قائد جيش الفرس- حين قال له هذا:
ما جاء بكم؟
فقال ربعي:
"إن الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك منا قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم:
وما موعود الله؟
أجاب ربعي:
1 انظر قصة ربعي في الطبري ج3 ص23.
وانظر "حياة الصحابة" تأليف: محمد يوسف الكاندهلوي ج4 ص643.
"الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي".
2-
ولا بُدَّ -تثبيتًا لمعنى الانتماء الحق- من أن تكون صلات المؤمن وأواصره بعقيدته ممتدة في حياته كلها.. في واقعه الذي يعيشه، واتجاهاته التي يراها، ومواقفه التي يتخذها، وسبل الحياة التي يسلكها، فهي له المحور الذي لا ينفك عنه، والنبضُ الذي لا يتوقف فيه، بل يمده -فكرًا واعتقادًا وسلوكًا وعملاً- بالنور الهادي إلى سواء السبيل، فلا يضل وبين يديه نور الإيمان، ولا يزيغ ومعه زاد التقوى ولا تتفرق به السبل وأمامه صراط الله المستقيم، يسلك به دروب الرفعة والكرامة، ويبلغ به ذرى العزة والنصر، وكنف الرضى والنعيم، وملاك ذلك كله إنما هو في طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال بصدق وجد، وعزيمة وإخلاص، على الالتزام بهذا الإسلام اعتقادًا وعملاً، وسلوكا واتجاها، دينًا ودنيا، وفكرًا ونظامًا، وسياسة راشدة، وعبادة خاشعة، وكفاحًا دائبًا، وجهادًا صادقًا، وتضحية وفداء، ففي هذا الالتزام بالإسلام، والتمسك بمبادئه، والتحلي بأخلاقه، وتحكيم نظامه، والانضواء تحت رايته، برهان جلي على سداد فكر المؤمن وسمو روحه، ويقظة ضميره، وتفتح بصيرته، وقوة عزيمته.
3-
لقد جاء وحي الله تبارك وتعالى يهتف بالمؤمنين ليطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه وهم يسمعون آياته وكلماته، وجاء التحذير من التولي والإعراض مقترنًا بذكر شر الدواب التي فقدت السمع والنطق والعقل، وتلك صورة ينفر الإنسان من أن ينحدر إليها؛ بحيث يصبح في إعراضه عن الهدى، وتحجر عقله، وطمس قلبه، مثل هذه الدواب التي لا تعي ولا تسمع، ولذلك فقد كان اقتران الدعوة للطاعة، والتحذير من التولي، بهذا المثل الحي، في ذروة العظة والتذكير والتأثير، وفي ذلك يقول سبحانه:
ويتكرر في سياق الآيات الكريمة بعد أمر المؤمنين بالطاعة أمرهم بالاستجابة لله والرسول في إطار من تذكيرهم بنعمة الله عليهم، حيث يقول سبحانه:
4-
إن رسالة الإسلام التي جاء حض المؤمنين على الاستجابة لها هي دعوة الحياة الحقة الحرة الكريمة.
أما أنها دعوة الحياة الحقة؛ فلأنها -بمنهجها الراشد القويم- ارتفاع بالإنسان إلى معين الحياة وجوهرها الأصيل، وبذلك يكون المؤمن الذي لبَّى الدعوة واستجاب للنداء مثلاً فريدًا في فقه الحياة وحسن التلاؤم
1 الأنفال: "20-23".
2 الأنفال: "24-26".
معها، وجعلها وسيلة خير؛ لأن نور الإيمان الذي يمتلئ به قلبه هو الذي يجنبه أن يغتر بها، أو يخدع بزخارفها، أو يجعل من نفسه وملكاته تبعًا لأهوائها.
ثم إذا كرم الله تبارك وتعالى المؤمن بهذا النور الهادي، تحرر به عقله، وتطهر وجدانه، وصفت سريرته، واستقام خلقه وصح اتجاهه، وصلح عمله، وتلك هي عناصر الكرامة الإنسانية في الحياة.
ولكن لا بد لهذا النور الذي ينسكب في القلب والضمير بفضل الله ومنته، فيصنع هذه الحياة الطيبة، من إقبال الإنسان على الطاعات، وتجنب المعاصي، والحذر من مزالق الهوى، وهواجس الشك، ونزغات الشيطان، وهواتف الشك، ومخاطر الغفلات، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله المعصوم يقول -كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه:"يا وليّ الإسلام وأهله، ثبتني به حتى ألقاك"1.
وكان يكثر من دعاء ربه بقوله:
"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"2.
5-
بعد ذلك لا بد من الحذر من أن تتسرب إلى صف الجماعة المؤمنة بواعث الفتن الخطيرة التي تعصف بوجود الأمة وكرامتها وعزتها، وأي فتنة أكبر وأخطر من الإعراض عن تلبية دواعي الحياة الحقة الكريمة، والقعود عن الجهاد في سبيل الله، والتراخي في تغيير المنكر ومقاومة الفساد؟
هذه هي الفتنة التي جاء الأمر الإلهي بتوقيها والحذر منها، وليس يتم هذا
1 رواه الطبراني في الأوسط.
2 رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها بإسناد حسن.
التوقي والحذر إلا باتباع منهج الإسلام الكامل في أوامره ونواهيه، وأحكامه وآدابه، وبيع النفوس رخيصة في سبيل الله، واحتمال ما يلقاه المجاهدون في معارك عقيدتهم من شدة وبلاء، ومحن وإيذاء، إيثارًا لما عند الله، وسعيًا لما يحبه ويرضاه.
ولقد جاء وحي الله تبارك وتعالى يذكر المؤمنين الذين أنزلت عليهم آياته بصورة من صور ضعفهم -في فجر الدعوة- قبل أن يوجههم إلى قتال أعدائهم من المشركين، فيصور لهم كيف كانوا وجلين خائفين، يخشون أن تمتد إليهم أيدي أعدائهم بما ينال منهم، ويفرق جمعهم، ثم كيف أكرمهم الله بعد ذلك بالأمن والقوة والنصر، والرزق الطيب والمتاع الكريم.
لقد كان ذلك تحولاً ضخمًا في تاريخ هذه الجماعة التي تحمل أمانة الدعوة، فهو انتقال من الضعف إلى القوة، ومن العسر إلى اليسر، ومن الخوف إلى الأمن، ثم من الترقب والحذر، والخشية من الأعداء إلى الإقدام والاندفاع، والنصر الحاسم المبين. قال سبحانه:
{فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.
6-
ثم إن من شأن هذه الدعوة -بما فيها من نهج التحرير وروح التطهير- أن تواجه الواقع البشري في الأرض بما يصلحه ويقوم اعوجاجه، ويستأصل جذور الفساد والشر فيه، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويذعن الناس لسطان الله، ويقروا بالحاكمية له وحده سبحانه، وليست تتم هذه المواجهة الشاملة إلا بتوافر أسباب القوة، وإعداد العدة، وامتلاك كل الوسائل التي تفضي على جميع القوى الطاغية، المناوئة للخير،
1 الأنفال: "26".
المتصدية للهدى، المتحدية للحق، المتحكمة في رقاب العباد، بأوضاعها الجائرة وسلطانها الفاسد وعقائدها الباطلة ونُظُمِهَا المنحرفة.
من أجل هذا كان واجب المسلمين الذين يفرض عليهم دينهم الجهاد في سبيل الله أن يعدوا العدة لأعدائهم بكل ما في طاقتهم من القوة على اختلاف أشكالها وصورها، وتعدد صنوفها وأسبابها، بحيث تكون تحت أيديهم القوة التي تلقي الرعب، وتزرع الرهبة في قلوب أعداء الله وأعدائهم، الذين بدت عداوتهم، واتضحت أهدافهم الخبيثة في كراهيتهم للمسلمين وتبييت الشر لهم، وصد الناس عن دينهم، كما ترهب أولئك الذين يضمرون العداء وإن لم يجاهروا به، ويبيّتون الشر في الخفاء وإن لم تمتد أيديهم به، هؤلاء الذين يعملون في الخفاء فلا يعلم المسلمون حقيقة أمرهم، ولكن الله يعلم سرائرهم وحقائقهم.
وحين تكون للمسلمين هذه القوة وهذا الإعداد تقع الرهبة في قلوب أعداء الإسلام على اختلاف أنواعهم، وتعدد وسائلهم فلا يتاح لهم أن يتحركوا بالعدوان ولا يستطيعون أن يقفوا في وجه الدعوة الهادية، أو يحولوا بين الناس وبين الإقبال على دين الله، كما تردعهم هذه القوة عن الظلم والطغيان، وتمنعهم من إقامة العقبات في وجه رسالة الحق وإنقاذ الإنسان، وفي ذلك يقول عز وجل:
7-
إن الجهاد في الإسلام هو ذروة سنامه، فبه يتم إقرار الحق في نصابه،
1 الأنفال: "60".
ويرد البغي والطغيان، ويكافح الشر والعدوان، وفي ذلك يقول الله عز وجل:
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية التي اقتضتها سنة الله تبارك وتعالى في دفع الظلم، ورد البغي، وقطع دابر الفساد في الأرض، كانت صبغة الجهاد في الإسلام أنه في سبيل الله، لا في سبيل مغانم يحرزها المقاتلون، أو مواقع يحتلها المحاربون، أو رتب ومراكز يسعى لها من يخوض معارك القتال. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"2.
فالجهاد في سبيل الله إنما هو الإقدام الذي لا يشوبه تردد أو إحجام، وتضحية خالصة تتجرد فيها نفوس المؤمنين من التعلق بالحياة، والإخلاد إلى ما فيها من متاع زائل، وعرض حائل، وصدق في بيع النفس، واندفاع في بذل الروح، طاعة لله وإقبالاً عليه، وحرصًا على ابتغاء ما وعد به المجاهدين الصادقين من الرضى الخالص، والفوز بجنات النعيم.
وفي ذلك يقول سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
1 البقرة: "251".
2 رواه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده.
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1.
8-
وليس من شك في أن الدخول في الإسلام والانتماء إليه بيعة مع الله، يعطيها عهدًا صادقًا، وجهادًا خالصًا، وبذلا وفداء، أولئك الصفوة الأبرار من عباد الله، فلا يحتجزون لأنفسهم -وقد ارتضوا هذه الصفقة الكريمة- ذرةً من الحرص على الحياة، أو الرغبة في المال؛ لأن أرواحهم وأموالهم قد بيعت في سبيل الله، فليس عليهم إلا أن يفوا بالعهد، ويمضوا العقد، فيجاهدوا في سبيل الله طيبة نفوسهم، رضية أرواحهم، ويسلكون السبيل القويم الكريم إلى نهايته، فإذا تم لهم النصر فذلك خير كبير أكرمهم الله به، وإذا أدركتهم الشهادة فتلك هي النعمة الكبرى، والغاية التي يسعى لها المجاهدون الصادقون، ولهم في الحالين الجنة التي أعدها الله للأبرار من عباده المخلصين.
إن هذه البيعة العظيمة لازمة في عنق كل مؤمن، ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه جعل لهذا البيع ثمنًا وهو الجنة؛ لأنه سبحانه هو واهب الأنفس والأموال وهو مالكها، فكان من فضله عز وجل أنه قبل العِوَض عما يملكه بما تفضل به عباده المطيعين له.
ولهذا قال الحسن البصري وقتادة:"بَايَعَهُم والله فأغلى ثمنهم".
وروى محمد بن كعب القرظي وغيره أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
1 التوبة: "111-112".
فقال: "أشْتَرط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأمواكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة" قالوا: رَبِحَ البيع لا نقيل ولا نستقيل.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وتكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وتصديق برسلي، بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة".
إن وعد الله تبارك وتعالى في هذا وعد قاطع قديم كتبه على نفسه وأنزله على رسله في التوارة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد فليستبشر من أخلص نفسه وماله لله، وقام بمقتضى هذه البيعة، ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم.
وليس الجهاد في سبيل الله مجرد اندفاع إلى القتل؛ وإنما هو ذروة العمل الذي ينبثق من روح الإيمان ويصدر عن تمثل المؤمنين بحقيقته، ولذلك جاء نعت هؤلاء الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم.. بأنهم التائبون من ذنوبهم، العابدون المخلصون في عبادتهم، فهم في طاعة دائمة وتوجه صادق إلى الله، وهم يحمدونه دائمًا على نعمه، ويشكرونه في كل حال على فضله، وهم ينفقون عمرهم في الحرص على تقوى الله، فيهاجرون في سبيله، ويصومون ابتغاء مرضاته، ويتفكرون في آياته، ويقيمون الصلاة، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقومون على حدود الله؛ لتنفيذها في أنفسهم وفي الناس، ومقاومة من يضَيِّعها أو يعتدى عليها.
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1.
9-
ثم إن تصور الناس عن الحياة، وتصرفهم تجاه ما تحفل به من شئون وشجون، منبثق أصلًا من تصورهم الاعتقادي لمعنى الحياة والموت، فبينما ينظر المفتونون بالحياة الدنيا، المحجوبون عن هدى الله إلى الحياة على أنها الغاية التي ليس بعدها غاية، فيحرصون عليها ويتشبثون بها، ويتعلقون بمتعها، ويروعهم تصور انقضائها، فيخشون ذكر الموت، ويجزعون أن يصيبهم، أو يدرك عزيزًا عليهم، ويرُدُّونَ -بسبب فساد تصورهم- وقوع الموت وانقضاء الحياة إلى الأسباب الظاهرة، زاعمين أن الجبن والقعود عن القتال يصون الحياة، فإذا لم يجاهدوا ويخوضوا معارك القتال استطاعوا أن يتفادوا وقوع الموت، أو يؤخروا أجله المحتوم.
بينما ينظر هؤلاء إلى الحياة والموت تلك النظرة القاصرة الخائرة التي تشد إلى الذل، وتحمل على المهانة، وتنأى بأصحابها عن دروب الكرامة، تأتي دعوة الإسلام بما ينشئ في أعماق المؤمنين ذلك التصور الإيماني الصحيح للحياة والموت، وهو تصور يرتكز على تجاوز الأسباب الظاهرة، ويرد الأمر إلى قضاء الله وقدره، فمن كتب عليه أن يقتل فلن يؤجل موته قعود، ولن يمنعه حرص أو تدبير، ومن لم يُقَدَّر له أن يقتل فلا خوف عليه من خوض المعارك، وورود المهالك.
هذا هو التصور الحق الذي يجب أن يستقر في يقين المؤمن عن الحياة والموت، وهو التصور الذي جاء وحي الله عز وجل يغرسه في قلوب المؤمنين، ويربيهم عليه، مفنِّدًا ما عداه من التصورات الجاهلية الضالة الصادرة عن بُعْدِ الإنسان عن ربه عز وجل، وعدم الإيمان بقدره، وفي ذلك يقول سبحانه:
1 التوبة: "112".
10-
على أساس من تجلية هذا التصور تقوم حقيقة كبرى جليلة الشأن بعيدة الأثر في موقف المؤمن المكلف بالجهاد في سبيل الله تجاه هذه الحياة، تلك هي حقيقة مصير الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وفي هؤلاء يأتي نهي الله تبارك وتعالى عن حسبانهم أمواتًا، وإن كانوا قد فارقوا هذه الدنيا، وبعدوا عن أعين الناس، إنهم ليسوا أمواتًا وإن فارقتهم الحياة التي لا نعرف منها إلا ظواهرها، بل هم أحياء فوق أحياء الدنيا؛ لأنهم مقربون عند ربهم، إذ بذلوا في سبيله أرواحهم، إنهم أحياء قد صاروا إلى خير مما كانوا فيه.
إن حياة هؤلاء الشهداء التي أثبتها القرآن الكريم لهم، مؤكدًا لتحقيقها بأنهم يرزقون.. فرحين بهذا الرزق الذي يتمثل فيه رضى الله عنهم وفضله عليهم، هي من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها موقف ما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، والمأثور من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن في بيان ما يغمُرُ أرواح الشهداء الأحياء عند ربهم من فرح وغبطة، بما أعطاهم ربهم من الثواب والكرامة والإحسان. أجل حافز في بعث روح الجهاد في المؤمنين، وحثهم على الإقدام طلبًا للشهادة، ويقينًا بصدق وعد الله عز وجل للشهداء، ورضاه عنهم وفضله عليهم، وهل ثمة باعث لطلب الاستشهاد في سبيل الله عز وجل أعظم من هذا الباعث الذي ينتهي بأرواح الشهداء إلى جنة الخلد، حيث تسرح هناك، ويُغْدى عليهم فيها ويُرَاح برزق الله والزلفى عنده، والكرامة والنضرة والنعيم.
1 آل عمران: "156".
11-
وإذا كان هؤلاء الشهداء قد سبقوا إلى منازل الكرامة في غبطة وأنس ورضى، فإنهم كذلك مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم المجاهدين الصادقين، لم ينفصلوا عنهم، ولم تنقطع صِلَاتهم بهم، يستبشرون بأولئك الذين لم يقتلوا بعدُ في سبيل الله فيلحقوا بهم من خلفهم، لقد تركوهم وراءهم أحياء تتطلع نفوسهم إلى شرف الشهادة، وبلوغ منازل الكرامة عند الله، ولذا فهم مستبشرون لهم لما استيقنوا من رضى الله عنهم؛ بحيث لم يلقوا عنده سبحانه ما يخيفهم وما يحزنهم، ما داموا ثابتين على الحق، صادقين في الجهاد متطلعين إلى الاستشهاد. إنهم جميعًا -من سَبق إلى جوار الله ومن يَنْتظر- يُنَعَّمُون بما منَّ الله به عليهم من زيادة الكرامة والنعيم، وفيض الثواب الكريم والأجر العميم.
هذا هو التصور الحق لمعنى الحياة والموت، إنه التصور الذي ينقل المؤمنين تلك النقلة البعيدة الرائعة التي تتخطى هذه الحياة العاجلة الفانية، لتستقر أرواحهم في آفاق الكرامة والنعيم، وتطمئن في رحاب الرضى والأنس في دار الخلود.
12-
وفي ظلال هذا التصور وإيحائه الرائع يأتي التنويه الكريم بأولئك المؤمنين
1 آل عمران: "169-171".
الذين استجابوا إلى الله ورسوله.. من ذلك الرعيل الأول من المجاهدين الأبرار.. الذين خرجوا ملبين النداء لملاقاة الأعداء، وهم مثخنون بالجراح، مرهقون بما نالهم من أعدائهم في يوم معركة "أحد".. خرجوا لمتابعة المشركين وتعقبهم حين استنهضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؛ ليعلن للدنيا أن صف الإيمان لا يذل ولا يستكين، وأنه إذا غُلِب في معركة لم تكن هزيمته فيها خاتمة المطاف لمعركة العقيدة الدائمة في الحياة..
لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر ما تنطوي عليه جوانح المؤمنين -بعد معركة أحد- شعور المرارة بالهزيمة، وألم الضعف والجراح، وقبول تحدي المشركين بما يحمل من استعلاء بالباطل، وتبجح وطغيان
…
بل أراد أن يرهب أعداء الله، ويريهم من نفسه وأصحابه قوة الإيمان وعزته
…
فَنَدَب الناس إلى المسير للقاء عدوهم وقال: "لا يخرجنَّ معنا إلا من حضر القتال وشهد يومنا بالأمس"، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجراح، وساروا حتى بلغوا "حمراء الأسد" متوجهين لمقابلة المشركين بعد أن بلغهم أنهم جمعوا الكرة عليهم ليستأصلوهم، ولكنهم وجدوا أن المشركين قد انصرفوا، وعادوا دون أن يمسهم سوء بفضل الله ونعمته، وقد نالوا رضوان الله ذي الفضل العظيم.
قال تعالى:
1 آل عمران: "172-174".
13-
ومن الحقائق الراسخة في دعوة الإسلام أنه ليس يستقيم أمر البشر في هذه الحياة إلا باتباع هدى الله، فهو منهج الحق الكامل، وشرعة العدل الشامل، وهو أمانة الله، وسبيل السعادة الخالصة للناس في الدنيا والآخرة، وهذا المنهج الإلهي القويم حق في ذاته، ومصدره، ووسائله وغاياته، وهو منسجم أروع انسجام مع الفطرة الإنسانية الخيرة، وأشواق الإنسان وحاجاته وتطلعاته..
وإن تحقيق هذا المنهج الراشد في حياة البشر -عقيدة وعبادة، وفكرًا وسلوكًا، وتشريعًا ونظامًا- يقتضي من المؤمنين العاملين على إقامته في الأرض أن يكونوا في مستواه الرفيع، وآفاقه السامية.. ذلك أمر يحملهم في الفكرة والحركة والسلوك على الارتفاع فوق جواذب المغانم، ويحفزهم إلى احتمال أشد المغارم.. لا بد لهم إذا أرادوا أن يؤكدوا صدق انتمائهم لهذه الدعوة، وعمق ولائهم لهذه الرسالة أن يجاهدوا نفوسهم وأهواءهم، وأن يجادلوا خصومهم وأعداءهم وهم في ذروة الاستعداد للبذل والتضحية والفداء، واحتمال المصاعب، والصبر على الشدائد، والنهوض بالأعباء، مهما بَعُدَت الشقة، وطال الطريق، وبلغ مكر الأعداء.. فذلك هو طريق الإيمان الخالص والجهاد الصادق. وهو دليل العبودية الحقة، والاستجابة الصحيحة لدعوة الحياة الطيبة الكريمة، والسبيل الذي ينتهي بسالكيه إلى النصر والتمكين في هذه الحياة، والفوز والنعيم في دار الخلود.
14-
وإن هذه الدعوة التي كلف الله تبارك وتعالى المؤمنين بحمل أمانتها، وشرفهم بالانضواء تحت رايتها، وأرشدهم إلى النهوض بمقتضى رسالتها.. تحتاج -ولا شك- إلى تعبئة النفوس المؤمنة تعبئة عالية، وإعدادها للمضي في الحياة بقوة وعزم وثبات لتأييد الحق وإعلانه، وهدم الباطل وخذلانه، وإقامة صروح العدل، وتحرير البشرية من
الظلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.... وهي مهمة ضخمة ثقيلة ذات تكاليف وأعباء، وتضحيات غالية وبذل وفداء، ولا بد للمؤمنين –وهم يخوضون غِمَار هذه المعركة الدائمة في ميادينها الحاسمة- من أن تسفك منهم الدماء، ويخرَّ منهم في سبيل الله شهداء.. وهذا هو حقا عنوان عمق الولاء، وبرهان صدق الانتماء....
وإن أول ما يجب أن يستقر في قلوب المؤمنين أن قوة الله وحده، هي القوة التي يُلْتَمَسُ عندها النصر، وبها تُتَّقى الهزيمة، وإليها يكون التوجه، وعليها يكون التوكل، فإذا أراد الله تبارك وتعالى نصر المؤمنين إذا عملوا بشريعته، والتزموا بدعوته، وأطاعوا أمره، ولم يخالفوا حكمه، وتوكلوا على توفيقه ومعونته، وأخذوا للأمر أهبته، وأعدوا له عدته
…
فلا غالب لهم من الناس إذا أراد الله لهم النصر والتمكين.... وإن أراد سبحانه خذلانهم بما كسبت أيديهم من الفشل والتنازع والعصيان فلا يملك أحد لهم نصرًا، ولا يدفع عنهم ذلك الخذلان
…
قال تعالى:
1 آل عمران: "160".