الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن هذه العوامل الفكرية والثقافية والتاريخية والاجتماعية والسياسية أوجدت -عبر الروابط المشتركة بين المسلمين والانسجام في طرق تفكيرهم وأساليب سلوكهم ومظاهر حياتهم- حقيقة "المجتمع الإسلامي" ممثلة في كل واحد من الشعوب الإسلامية، كما أظهرت تميز هذا "العالم الإسلامي" عن العالم الآخر من ديموقراطي غربي، واشتراكي ماركسي، ووثني آسيوي إفريقي1..
وبذلك يظهر -كما يقول "أرنولد توينبي": "إن التقليد الإسلامي في أخوة الإنسان للإنسان هو مثل أعلى يوافق حاجات العصر الاجتماعية، وهو أفضل من التقليد الغربي الذي أدى إلى قيام عشرات الدول الصغيرة ذات السيادة على أساس الاختلاف القومي".
ويقول: "ومن المأمول أن يستطيع العالم الإسلامي على كل حال إيقاف انتشار هذا الداء السياسي الغربي "القومية" وذلك عن طريق الشعور الإسلامي القوي بالوحدة"2.
1 انظر المرجع السابق ص32
2 أرنولد توينبي: "الإسلام والغرب والمستقبل" تعريب: الدكتور نبيل صبحي ص28.
الثقافة وهدف العداء:
1-
أصبحت مشكلة الثقافة في البلاد الإسلامية -بسبب التبعية للغرب والانبهار بحضارته والإعجاب بقوته- أبرز المشكلات؛ لما للثقافة من أثر قوي في تحديد اتجاه الأمة وولائها ومعرفة ملامح شخصيتها والحكم على مستقبلها. فالثقافة ليست -في حياة الأمم- علومًا ومعارف وآدابًا وفنونًا فحسب، ولكنها -كما سبق ذكره- مناهج فكر وخلق تصبغ حياة الأمة بصبغتها في شتى ضروب نشاطها، وتتجاوز بشكلٍ عام
إطار الجماعة وحدها؛ لتؤثر في حياة كل فرد تأثيرًا خاصًّا، وتوجه سلوكه توجيهًا معينًا.. وهي -على أي حال- عامل بناء أو عنصر هدم.. فإذا كانت صحيحة سليمة مرتكزة على أسس خيِّرة؛ فإنها ترتفع بالأمة وتنهض بها، وتحقق لها ما تصبو إليه من حرية وكرامة ومجد.. وإن لم تكن كذلك، بل كانت مزيجًا من الأخلاط الغربية الملتمسة من الفكر الغريب المنحرف والتوجيه الفاسد القائم على التخطيط الشرير؛ فإنها تنحدر بالأمة إلى أحط المستويات وتكبلها بالأغلال وتتركها فريسة لكل طامع..
ولهذا تعنى الأمم الحية -كما أسلفنا- بثقافتها وتعمل على حياطتها من عوامل الخلل والضعف، وتسعى جاهدة لترسيخ أسسها وتقوية سلطانها، ومدها بكل أسباب الحياة، وتصل بينها وبين أبنائها بأقوى الأواصر، وتعدها من أولى القضايا التي يعد إهمالها أو التفريط بها خطرًا كبيرًا يهدد حاضرها ومستقبلها.
ولقد عني أعداء الإسلام عناية كبيرة بثقافتهم، وسخروها لأهدافهم ومطامعهم وكان تخطيطهم الثقافي متناسقًا كل التناسق مع تخطيطهم العسكري، مدفوعًا بتلك الروح الصليبية الحاقدة التي قذفت بهم من شواطئ أوربا للسيطرة على البلاد الإسلامية، وقهر المسلمين واستعبادهم، وتكشف هذه الواقعة التاريخية عن حقيقة هذا التناسق بين التخطيطين الثقافي والعسكري:
"ففي عام 1924م ظفر "رامون لل" بمقابلة من البابا "سلستن الخامس" وقدم له كتابين فيهما خطة للتبشير بين المسلمين في الأكثر، وكانت خطة "رامون لل" ذات شقين، أولهما: أن يتخذ العلم والمدارس وسيلة للتبشير، وثانيتها: أن يُنصَّر المسلمون بالقوة إذا لم تنفع فيهم
الجهود السلمية"1.
وقد ذكر "أدوين بلس" الذي ألف كتاب "ملخص تاريخ التبشير" أن "رامون لل" الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها؛ فتعلم اللغة العربية بكل مشقة، وجال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة2.
2-
إن الغاية لدى أعداء الإسلام واضحة مكشوفة يجاهر بها بعض ساستهم، ورجال الدين والفكر والاقتصاد مجاهرة لا مواربة فيها، كما يحاول بعض هؤلاء أن يكتموا حقيقة أهدافهم بضروبهم من المخاتلة والمراوغة تأخذ طابع الدعاوى العريضة مثل: الرسالة الإنسانية ونشر الحضارة وبث المدنية والنهوض والتقدم ونحو ذلك..
والحقيقة أن الغاية هي القضاء على الإسلام وتمزيق المسلمين واتخاذ كل وسيلة ممكنة لبلوغها، وحول حقيقة هذه الغاية يلتقي كل أعداء الإسلام في جبهة واحدة مهما كانت اختلافاتهم عميقة الجذور، عريقة في التاريخ، لا يتصور معها أي توافق أو لقاء..؛ لأن حقدهم على الإسلام وعداءهم الشديد له وحرصهم على تدميره وتدمير أبنائه يلغي استحالة لقائهم واتفاقهم وتعاونهم، ويجعله ممكنًا ميسورًا، بل أمرًا لا بد من المبادرة إليه، وتذليل الصعوبات التي تعترضه، وبذل كل الجهود لتحقيقه، والإنفاق على ذلك بغير حساب.. ومن هنا نجد دائمًا أن الدول والحركات، والاتجاهات والمبادئ والمذاهب السياسية والاجتماعية
…
التي يجمعها عداؤها للإسلام
…
تتحول بسرعة عجيبة من كيانات واتجاهات متناقضة متنافرة.. إلى كيان موحد متلاحم البنية متناسق
1 الدكتوران: عمر فروخ ومصطفى الخالدي: "التبشير والاستعمار" ص77.
2 انظر: "الغارة على العالم الإسلامي" تلخيص وتعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي ص29، 262 وجاء في:"الآداب العربية في القرن التاسع عشر" تأليف: الأب لويس شيخو اليسوعي ج1 ص12 "أن ريمند لل R. Lull "1235-1315" كان من أكبر أنصار اللغات السامية في كلية أوروبا. وهو إسباني ويتبع الرهبانية الفرنسية.
الحركة، حين يتصل الأمر بتحقيق الهدف المشترك وهو النيل من الإسلام والمسلمين.
لقد ظهر في عام 1932 كتاب اسمه "التفكير الجديد في أمر الإرساليات" أصدرته لجنة من المبشرين وفيه: أن المبشرين يفرضون على أنفسهم أن يكونوا مستعدين لأن يقبلوا بأمور تخالف العقيدة المسيحية..
"ويرى هذا الكتاب أن جميع المبشرين من بلاد رأسمالية، ولكن هذا يجب ألا يمنعهم من تفهم المذاهب الاقتصادية الأخرى كالاشتراكية والشيوعية. وعليهم أن يطعنوا الرأسمالية إذا كان ذلك يفتح لهم قلوب الخاضعين قهرًا لها، حتى إنه ليس ثمة مانع يمنع مصادقة الشيوعيين أيضًا، وإن كانت الشيوعية عدوة للنصرانية"
ويقول "تشارلس واطسون" -في نصحه للمبشرين بالتلون في سبيل تحقيق هدفهم التبشري: "يجب أن يظلوا برآء كالحمام، ولكن هذا لا يمنعهم أيضًا من أن يكونوا حكماء كالحيات"1.
3-
وإذا كانت رسالة الرجل الأبيض -وهي عنوان الاستعمار الحديث بجميع صوره وأشكاله النتيجة التي آلت إليها حركة أوروبا في العصر الحديث، فإن هذه النتيجة قد سبقتها مقدمة قبلها وهي حركة الحروب الصليبية، وليست تفهم حركة الاستعمار الحديث -سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا- إذا لم تفهم قبلها حق الفهم حركة الحروب الصليبية.
ولا نحسب أننا نفهم سر انتقال الدعوة الصليبية إلى ما يسمى برسالة الرجل الأبيض إلا إذا فهمنا أن الرسالة الجديدة جاءت لتحل محل الحركة الصليبية الأولى، كما جاءت لتمتد بها وتستفيد من سوابقها.. فرسالة
1 انظر: "التبشر والاستعمار" ص51-52.