الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإحسان والتسامح مع المخالفين:
1-
يرسم الإسلام بالإشادة بفضل السلام، وطبع النفوس بروح التسامح والإحسان، وحسن معاملة المخالفين، المعالم الكبرى للسلام العالمي، ويضع القواعد وأوفى الضمانات لاستقراره، فهو يدعو إلى حسن الخلق ولين الجانب، والرحمة بالضعيف والتسامح مع القريب والبعيد، وعدم التشفي من المغلوبين، وإيثارهم بالصفح والبر وحسن المعاملة، ويعدُّ أن الأصل في العلائق بين البشر هو التعارف والتعاون، والتخلي عن نزعة العدوان والتجافي عن الظلم والطغيان.
ولقد دَعَّمَ الإسلام هذه المبادئ ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعًا، والترغيب في الإيثار ولو مع الحاجة.
قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
ويدعو إلى الإحسان في كل شيء حتى في القتل.
قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} 2.
1 الحشر: "9".
2 البقرة: "195".
وقال: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 1.
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} 2.
2-
ويقيم الإسلام العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن لم يقاتلوا في الدين أو يخرجوا من ديارهم على البر والعدل، والإحسان والتسامح.
"ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية أنها جاءت بلفظ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّه} . فهذا التعبير قُصِد به نفي ما كان عالقًا بالأذهان -وما لا يزال- أن المخالف في الدين لا يستحق برًّا ولا قسطًا، ولا مودة ولا حسن عشرة. فَبَيَّن الله تعالى أنه لا ينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم"4.
3-
بل يرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذُرْوَة الإنسانية وأكرم آفاقها حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف، وحمايته وإيصاله إلى بلده ومأمنه. وفي ذلك يقول عز وجل:
1 الكهف: "30".
2 النحل: "90".
3 الممتحنة: "8-9".
4 يوسف القرضاوي: "الحلال والحرام في الإسلام" ص326.
وأخرج الحاكم "ج3 ص277" عن عبد الله بن عكرمة قال: لما كان يوم الفتح دخل الحارث بن هشام وعبد الله بن ربيعة على أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها فاستجارا بها فقالا: نحن في جوارك، فأجارتهما، فدخل عليها علي بن أبي طالب فنظر إليهما فشهر عليهما السيف، فتفلت عليهما واعتنقته وقالت: تصنع بي هذا من بين الناس، لَتَبْدَأَنَّ بي قبلهما. فقال: تجيرين المشركين! فخرج. قالت أم هانئ: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ما لقيت من ابن أمي علي، ما كدت أفلت منه، أجرت حَمَوَين لي من المشركين، فانفلت عليهما ليقتلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت وأَمَنَّا من أَمَنَّتْ"2.
"وثبت عنه أنه أجار أبا العاص لما أجارته ابنته زينب ثم قال: "يجير على المسلمين أدناهم" وفي حديث آخر: "يجير على المسلمين أدناهم ويرد عليهم أقصاهم" 3.
4-
وانطلاقًا من نظرة الإسلام إلى أن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لا بد فيها من الاقتناع والرضا، وأن الاختلاف في الدين لا يحول دون البر والصلة؛ فقد دعا إلى المجادلة بالحسنى وفي حدود الأدب والحجة والإقناع.. فقد أمر الله تبارك وتعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجادل المشركين بالطريقة الحسنة التي تلين عريكتهم في قوله:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
1التوبة: "6".
2 محمد يوسف الكاندهلوي: "حياة الصحابة" ج1 ص269.
3 محمد بن عبد الوهاب: "مختصر زاد المعاد" ص104.
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1.
وأباح مناظرة أهل الكتاب بتلك الطريقة في قوله:
ومثل هذا من قبيل المناظرة التي تهدف إلى إظهار الحق وإقامة البرهان على صحته، وهي الطريقة التي يشتمل عليها جدل القرآن في هداية الكافرين وإلزام المعاندين"3.
ونهى الإسلام عن البذاءة مع المخالفين، وعن سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين. قال تعالى:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 4.
وقرر أن أماكن العبادة للديانات الإلهية محترمة يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين.
وبذلك أوجب الإسلام على الدولة أن تحمي أماكن عبادتهم، وألا تتدخل في عقائدهم، ولا تجور عليهم في حكم، وتسويهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات العامة، وأن تصون كرامتهم وحياتهم ومستقبلهم، كما تصون كرامة المسلمين وحياتهم ومستقبلهم.
1 النحل: "125".
2 العنكبوت: "46".
3 مناع القطان: "مباحث في علوم القرآن" ص255.
4 الأنعام: "108".
5 الحج: "40".
5-
لا يعرف الإسلام -فيما يضع من قواعد المعاملة مع غير المسلمين- ما يسمى بالحقد الديني، وذلك أن القضية في اختلاف الدين -في ميزان الإسلام- إنما ترجع إلى أن هذا الاختلاف هو من سنن الله تبارك وتعالى في خلقه كما قال عز وجل:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1.
ويقول سبحانه -مخاطبًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم:
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 2.
وعلى هذا فقد أدرك المسلمون أن القرآن الكريم يربيهم بذلك على التسامح وسعة المخالفين لهم والإحسان إليهم، وينهاهم عن أن يحملوا إى كراهية لهم أو حقد عليهم، أو أن ينالوهم بأي إساءة بسبب مخالفتهم لهم في الدين، ما دام مرد هذا الاختلاف إلى سنة الله عز وجل في خلقه.
ومن هنا نرى الإسلام يصون حرية الاعتقاد، ويأبى أن يرغم المسلمون أحدًا على ترك دينه واعتناق الإسلام. وفي ذلك يقول عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم:
وعلى هذا فإن الإسلام يأبى أن يُكْرِه الضمائر، ويعوق حرية العقيدة، بل إنه يقف في وجه من يعترض طريق هذه الحرية، ويعرض الناس للفتنة. وليس معنى ذلك أن هداية مخالفيه لا تهمه، فالحقيقة أنه يحرص على هذه الهداية، ولكنه يرى أن الطريق إليها؛ إنما يتم بالدعوة إلى
1 هود: "118-119".
2 يوسف: "103".
3 يونس: "99".
الحق، ويتسم بالحكمة والإقناع وباللين1، ولذلك فلا موطن في نفوس المسلمين لما يسمى "الحقد الديني"؛ لأن المبدأ الذي يحدد العلاقة بين جماعة المسلمين وبين مخالفيهم هو الذي يطلق عليه -بصفة عامة- اسم "التسامح" وقد تكون هذه التسمية أقل من الحقيقة؛ إذ نلاحظ أن الشعوب التي لا تعتنق الإسلام، وإنما تخضع سلميًّا لتشريعه ودولته لا تتمتع بمبدأ "التسامح" فحسب، بل إن الإسلام يأخذ على عاتقه أن يوفر لها الحريات الكاملة على قدم المساواة مع المسلمين أنفسهم على قاعدة:"لهم ما لنا وعليهم ما علينا" ولا يطلب الإسلام من هؤلاء إلا أن يقفوا منه موقف المسالمة، وعدم صَدِّ الناس عن دين الله، أو الإساءة إلى المسلمين أو إلحاق الضرر والأذى بهم.
وبهذا يتضح أن ما زعمه "جون سيمون" في كتابه "حرية الاعتقاد" من أن الحقد الديني لم يتوصل إلى تخفيفه إلا منذ قرن ونصف هو قول لا نصيب له من الصحة؛ لأن الإسلام -وقد جاء منذ أربعة عشر قرنًا- لا يعرف شيئًا من هذا الحقد الديني الذي يقول عنه "جون سيمون": "إن تاريخ العالم كله هو عبارة عن تاريخ الحقد الديني، وهذا الحقد الديني الذي هو أقدم من الحرية يتصاعد إلى أبعد عصور التاريخ"3.
إن الإسلام يأبى أن يصبح الدين مفهومًا ضيقًا يتميز بالحقد والعداء، ويبعث على النزاع والشحناء، وينتهي إلى الفتن وسفك الدماء، ولهذا فإن التاريخ الإنساني لا يزال حتى يومنا هذا يقف موقف الإجلال والإكبار لأولئك الذين كانوا أمثلة فذة في التسامح والإحسان.
والأمثلة على التسامح وانتفاء ما يسمى الحقد الديني لا حصر لها في تاريخنا، وإن كان هذا الحقد الديني أبرز ظاهرة في تاريخ أوروبا على
1 انظر: "مدخل إلى القرآن الكريم" تأليف: الدكتور محمد عبد الله دراز ص63.
2 انظر: "روح الدين الإسلامي" تأليف: عفيف عبد الفتاح طبارة ص280.
مر العصور حتى يومنا هذا.
وحسبنا أن نذكر هنا كيف أن عمر بن الخطاب أعطى أهل بيت المقدس أمانًا على معابدهم وكنائسهم وعقائهم وأموالهم، كما أن السلطان محمد الفاتح أعطى -حين دخل القسطنطينية فاتحًا- لبطريرك المدينة السلطان الداخلي على رعيته من النصارى؛ بحيث لا تتدخل الدولة في عقائدهم ولا في عباداتهم.
ويروي التاريخ أن شيخ الإسلام ابن تيمية طلب إلى أمير التتار إطلاق سراح الأسرى، فأجابه الأمير التتاري إلى إطلاق سراح أسرى المسلمين وحدهم دون المسيحيين واليهود فأبى شيخ الإسلام رحمه الله ذلك وقال: "لا بد من إطلاق سراح أسرى الذميين من أهل الكتاب، فإنهم أهل ذمتنا، لهم ذمة الله ورسوله. فأطلق الأمير سراحهم جميعًا1.
1 انظر: "أخلاقنا الاجتماعية" تأليف: الدكتور مصطفى السباعي ص91 -100.