الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند بعض الناس الذين تهيأ لهم الفراغ والمال، واتخذوا الاستشراق وسيلة لإشباع رغباتهم الخاصة في السفر أو في الاطلاع على ثقافات العالم القديم.
ويبدو أن فريقًا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكاناتهم الفكرية عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم الأخرى، أو دخلوه تخلصًا من مسئولياتهم الدينية المباشرة في مجتمعاتهم المسيحية، أقبل هؤلاء على الاستشراق تبرئة لذمتهم الدينية أمام إخوانهم في الدين، وتغطية لعجزهم الفكري، وأخيرًا بحثًا عن لقمة العيش إذ إن التنافس في هذا المجال أقل منه في غيره من أبواب الرزق"1.
1 انظر في الفقرات: ج. د.هـ: "المستشرقين ما لهم وما عليهم" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص15-30.
وانظر: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف الدكتور محمد البهي. ص533
أهداف الدراسات الاستشراقية:
من الواضح أن أبرز هدف للمستشرقين من دراساتهم هو: "إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أي دعوى للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر"1. وغني عن البيان أن هذا الهدف الرئيسي قد أخذ في هذا العصر طابع تيارات فكرية حديثة تتحرك وتنشط في أوساط المسلمين، وهي تيارات نشأت كلها في الغرب، وحملها إلى المسلمين عدد من المستشرقين والمبشرين، بالإضافة إلى فئات أخرى من العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب على أيدي المستشرقين، أو في المؤسسات الثقافية الغربية التي أقامها الغرب في بلاد المسلمين.
1 الدكتور عبد الكريم عثمان: "معالم الثقافة الإسلامية" ص99.
"ونقطة البداية في نشوء هذه المذاهب الفكرية في أوروبا والفاصلة في تاريخها كانت في النهضة العلمية والفكرية التي تولدت باتصال أهل أوربا بالحضارة الإسلامية عن طريق الأندلس وصقلية. وترجمة كتب العلوم والفلسفة إليها. وكانت خسارة البشرية هنا بالضبط في أنهم أخذوا الجانب العقلي والمادي من حضارة المسلمين ولم يأخذوا الجانب العقائدي والروحي الخلقي"1.
ومن العجيب حقًّا أن هذه المذاهب الفكرية التي تقوم على اتخاذ العقل وحده أساسًا للحكم على الحقائق كلها الحسية منها والغيبية لم تظل في أوروبا وحدها على الرغم من كل نقائصها الفاضحة، بل كانت في محورها الجوهري المادي، وما برزت من وجوه فكرية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وتربوية أول المذاهب الفاسدة اتصالاً بالشعوب الإسلامية وتأثيرًا فيها، وغزوًا للطبقة المثقفة ولقادة الفكر والسياسة في عدد من البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق انتقال الثقافة الفرنسية إلى الدولة العثمانية وللمغرب، وإلى مصر في عهد محمد علي، وعن طريق الثقافة الإنكليزية في الهند ومصر والسودان، فقد غزا هذا التيار الشعوب الإسلامية التي كانت قد تردت في دركات التخلف بسبب تشويهها للإسلام، وابتعادها عن كثير من تعاليمه، وعن وعي أهدافه ومقاصده، فتسلل المذهب العقلي العلماني والمادي التجريبي إلى عقول الطبقة المثقفة، والمذهب الوطني الديمقراطي العلماني إلى الطبقة السياسية الحاكمة، وكانت النتيجة إقصاء الإسلام وعزله عن توجيه الحياة الفكرية والثقافية، وإقصاؤه كذلك عن توجيه الحياة السياسية في مفاهيمها وقيمها، وفي اتجاهاتها ومواقفها في الأحداث الداخلية والدولية وفي تشريعاتها ونظمها2.
من باعث الحقد والتعصب، ونحو هذا الهدف الخطير في إضعاف الإسلام
1 محمد المبارك: "المجتمع الإسلامي المعاصر" ص109.
2 انظر المرجع السابق 109-113.
وعزله ثم إقصائه عن الحياة والقضاء.. تحرك المستشرقون لتحقيق عدد من الأهداف الدينية والسياسية والعلمية المشبوهة، واتخذوا لذلك نهجًا في التشكيك والمغالطة وتشويه الحقائق والافتراء والتزوير، وهو نهج لا يسلم منه أو من بعضه إلا عدد يسير منهم، كما اتبعوا لبلوغ ما يريدون كل وسيلة تتيح لهم بث سمومهم، ونشر أباطيلهم.. ويمكن تلخيص هذه الأهداف والوسائل فيما يلي:
1-
إنكار أن يكون القرآن الكريم كتابًا سماويًّا منزلاً من عند الله عز وجل، وحين يفحم المستشرقون ما ورد فيه من حقائق تاريخية عن الأمم الماضية مما يستحيل صدوره عن أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم وتبطل دعواهم ببشرية القرآن الكريم وزعمهم بأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول، حين تبطل دعواهم التافهة هذه، يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه استمد هذه المعلومات من أناس كانوا يخبرونه بها، ويتخبطون في ذلك تخبطًا عجيبًا، وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تعرف وتكتشف إلا في هذا العصر يرجعون ذلك إلى ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم فيقعون في تخبط أشد غرابة من سابقه.
وعلى الرغم من أن بعض تلامذة المستشرقين من العرب والمسلمين يقولون عن القرآن الكريم كلامًا يدل على اعتقادهم أنه فكر يتأثر ببيئة عربية معينة1، فإن هنالك عددًا من علماء المسلمين المعاصرين قد أعدوا بحوثًا ودراسات علمية وافية في دحض دعاوى المستشرقين ومزاعمهم
1 انظر في كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، والردود عليه:"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" تأليف: محمد الخضر حسين وفي: "النقد التحليلي لكتاب في الشعر الجاهلي" تأليف: محمد أحمد العمراوي.
الباطلة، وافتراءاتهم المتهافتة1.
2-
التشكيك بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومصدرها الإلهي، فجمهورهم ينكر أن يكون الرسول نبيًّا موحى إليه من عند الله عز وجل ويتخبطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وبخاصة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. فمن المستشرقين من يرجع ذلك إلى "صرع" كان ينتاب النبي صلى الله عليه وسلم حينًا بعد حين، ومنهم من يفسرها بمرض نفسي وهكذا.. كأن الله عز وجل لم يرسل نبيًّا قبله حتى يصعب عليهم تفسير الوحي، ولما كانوا كلهم ما بين يهود ومسيحيين يعترفون بأنبياء التوارة، وهم كانوا أقل شأنًا من محمد صلى الله عليه وسلم في التاريخ والتأثير والمبادئ التي نادى بها، كان إنكارهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم تعنتًا مبعثه التعصب الديني الذي يملأ نفوس أكثرهم كرهبان وقساوسة ومبشرين2.
3-
ويتبع إنكارهم لنبوة الرسول وسماوية القرآن، وإنكارهم أن يكون الإسلام دينًا من عند الله، وإنما هو ملفق -عندهم- من الديانتين اليهودية والمسيحية، وليس لهم في ذلك مستند يؤيده البحث العلمي، وإنما هي ادعاءات تستند على بعض نقاط الالتقاء بين الإسلام والدينين السابقين.
1 انظر في ذلك كتابي: "النبأ العظيم" و"مدخل إلى القرآن الكريم" تأليف الدكتور محمد عبد الله دراز، وانظر:"الظاهرة القرآنية" تأليف: مالك بن نبي. وانظر بصفة خاصة المقدمة التي كتبها: محمود شاكر لهذا الكتاب.
وانظر: "القرآن والمبشرون" تأليف: محمد عزة دروزة.
2 الدكتور مصطفى السباعي: "المستشرقون ما لهم وما عليهم"، وانظر في الموضوع: المراجع السابقة في دحض دعاوى المستشرقين عن القرآن وانظر "الرسول صلى الله عليه وسلم" تأليف: سعيد حوى، الجزء الأول والثاني. وانظر:"محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل" تأليف: محمد أحمد جاد المولى.
ويلاحظ أن المستشرقين اليهود أمثال "جولد تسيهر" و"شاخت" هم أشد حرصًا على ادعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه، أما المستشرقون المسيحيون فيجرون وراءهم في هذه الدعوى؛ إذ ليس في المسيحية تشريع يستطيعون أن يزعموا تأثر الإسلام به وأخذه منه، وإنما فيها مبادئ أخلاقية زعموا أنها أثرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، كان المفروض في الديانات الإلهية أن تتعارض مبادئها الأخلاقية، وكأن الذي أوحى بدين هو غير الذي أوحى بدين آخر، فتعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
والظاهر أن المستشرقين اليهود أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية ترمي إلى التشكيك في قيم الإسلام بدعوى فضل اليهود عليه وأنها هي مصدره الأول، وأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية فكرة أولاً ثم دولة ثانيًا1.
وحول ما يتعلق بالإسلام يدعي المستشرقون أن المجتمع الإسلامي في صلته بالإسلام لم يكن على نحو قوي إلا فترة قصيرة هي الفترة الأولى التي يطلقون عليها "عهد بدائية المجتمع الإسلامي" التي أوجدت نوعًا من التلازم بين الحياة فيه وتعاليم الإسلام، ويزعمون أنه كلما تطور المجتمع ازدادت الفجوة لأن الإسلام لا يوافق التطور.
ومن هنا يسارعون إلى تقرير أن التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام تمليه الضرورة الاجتماعية تحت ضغط ظروف الحياة المتجددة التي لا يستطيع الإسلام -كما يزعمون- أن يكيفها في تعاليمه، وعلى هذا فإن تطبيق الإسلام في نظرهم إنما يعني العزلة والتخلف. ويرون أن الحل هو في الخضوع -لما يسمونه قانون التطور- ولا يتم ذلك كما ينادون إلا بالسير
1 انظر: "المستشرقون مالهم وما عليهم" للدكتور مصطفى السباعي.
وانظر: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي ص534.
وفق المثل الغربية والتفاعل معها1.
4-
التشكيك في صحة الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا المحققون، ويتذرع هؤلاء المستشرقون بما دخل على الحديث النبوي من وضع ودس، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماؤنا لتنقية الحديث الصحيح من غيره، مستندين إلى قواعد بالغة الدقة في التثبت والتحري، مما لم يعهد عندهم في ديانتهم عشر معشاره في التأكد من صحة الكتب المقدسة عندهم2.
والذي حملهم على ركوب متن الشطط في دعواهم هذه، ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا من ثروة فكرية وتشريعية مدهشة، وهم لا يعتقدون بنبوة الرسول، فادعوا أن هذا لا يعقل أن يصدر كله عن محمد الأمي، بل هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسية عندهم هي عدم تصديقهم بنبوة الرسول، ومنها تنعبث كل تخبطاتهم وأوهامهم.
5-
التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي الذاتية، ذلك التشريع الهائل الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور، لقد أسقط في أيديهم حين اطلاعهم على عظمته وهم لا يؤمنون بنبوة الرسول، فلم يجدوا بدًّا من الزعم بأن هذا الفقه العظيم مستمد من الفقه الروماني، أي أنه مستمد منهم -الغربيين- وقد بين علماؤنا الباحثون تهافت هذه الدعوى، وفيما قرره مؤتمر القانون المقارن المنعقد "بلاهاي" من أن الفقه الإسلامي فقه مستقل بذاته وليس مستمدًا من أي فقه آخر، ما يفحم المتعنتين منهم، ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلاً.
1 انظر: "معالم الثقافة الإسلامية" تأليف: الدكتور عبد الكريم عثمان ص100-101.
2 انظر في مناقشة أفكارهم كتاب "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للدكتور مصطفى السباعي.
6-
التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي، لنظل عالة على مصطلحاتهم التي تشعرنا بفضلهم وسلطانهم الأدبي علينا، وتشكيكهم في غنى الأدب العربي، وإظهاره مجدبًا فقيرًا لنتجه إلى آدابهم، وذلك هو الاستعمار الأدبي الذي يبغونه مع الاستعمار العسكري الذي يرتكبونه. "ومن المبشرين نفر يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية، أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم بما يكتبون إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية -التي يعدونها نصرانية لأن أمم الغرب تدين بالنصرانية- ليخرجوا دائمًا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية والإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب، وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام، وما غايتهم من ذلك إلا تخاذل روحي وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين وحملهم من هذا الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية"1.
7-
تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري، بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها، لم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري، وكان في حضارتهم كل النقائص، وإذا تحدثوا بشيء عن حسناتها -وقليلاً ما يفعلون- يذكرونها على مضض مع انتقاص كبير.
8-
إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قيم وعقيدة ومثل عليا، ليسهل على الاستعمار تشديد وطأته عليهم، ونشر ثقافته الحضارية فيما بينهم، فيكونوا عبيدًا لها، يجرهم حبها إلى حبهم أو إضعاف روح المقاومة في نفوسهم.
9-
إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن
1 التبشير والاستعمار ص24.
طريق إحياء القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم، وكذلك يفعلون في البلاد الإسلامية، ويجهدون لمنع اجتماع شملها ووحدة كلمتها بكل ما في أذهانهم من قدرة على تحريف الحقائق، وتصيد الحوادث الفردية في التاريخ، ليصنعوا منها تاريخًا جديدًا يدعو إلى ما يريدون من منع الوحدة بين البلاد العربية والإسلامية والتفاهم على الحق والخير بين جماهيرها المؤمنة.
10-
ومن الإنصاف أن نذكر أن لبعض المستشرقين أهدافًا علمية خالصة لا يقصد منها إلا البحث والتمحيص، ودراسة التراث العربي والإسلامي دراسة تجلو لهم بعض الحقائق الخافية عنهم، وهذا الصنف قليل عدده جدًّا، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية، وإما لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، فيحبون أن يتصوروها كما يتصورون مجتمعاتهم، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمنية التي تفرق بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها.
وهذه الفئة أسلم الفئات الثلاثة في أهدافها، وأقلها خطرًا، إذ سرعان ما يرجعون إلى الحق حين يتبين لهم، ومنهم من يعيش بقلبه وفكره في جو البيئة التي يدرسها، فيأتي بنتائج مع الحق والصدق والواقع، ولكنهم يلقون عنتًا من أصحاب الهدفين السابقين، إذ سرعان ما يتهمونهم بالانحراف عن النهج العلمي، أو الانسياق وراء العاطفة، أو الرغبة في مجاملة المسلمين والتقرب إليهم، كما فعلوا مع "توماس أرنولد" حين أنصف المسلمين في كتابه العظيم:"الدعوة إلى الإسلام" فقد برهن على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين، على عكس مخالفيهم معهم، هذا الكتاب الذي يعتبر من أدق وأوثق المراجع