الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روح المسئولية في الدَّولة والحُكْم:
1-
يضع الإسلام في شئون الدولة والحكم قواعد عامة تنمي شعور الارتباط الوثيق بالله عز وجل وتغرس روح التناصح والتآزر، والتعاون على البر والتقوى، والتكافل في المسئولية، باعتبار الحكم تعاقدًا بين الأمة وحاكمها، يتمثل في البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصالح المؤمنين، وتؤكد هذه المسئولية العامة حين تلزم جميع الأفراد القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورعاية حدود الله.
"وقد عُنِي الإسلام فيما عُنِي بهاتين الخصلتين العظيمتين:
إخلاص ولاة الأمور للأمة، وطاعة الأمة لولاة أمورها، فأوجب على الولاة أن يقيموا سياستهم على رعاية الحقوق والمصالح.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة"1. ثم التفت إلى الرعية فأمرهم بحسن الطاعة. ومن شواهد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"2.
1 رواه البخاري. وعند مسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة".
2 رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا ما يؤكد "أن سعادة الأمة في أيدي رؤسائها، فإذا استقاموا على الطريق، وساسوها برفق وحرص على مصالحها وكرامتها؛ سارت بجانبهم مستقيمة، فلا تلبث أن تنجح في سيرتها، وتظفر ببغيتها"1.
2-
وتنبثق مسئولية الدولة في المنهج الإسلامي، من وظيفتها الأساسية في إقامة الإسلام وتمكينه، والقضاء على الشرك والانحراف والفساد، وذلك بسياسة أمور الناس في حدود ما أنزل الله عز وجل من الهدى ودين الحق، ورعاية الخير والعدل، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله2.
3-
من جوهر هذه الأمور المسئولية الكبرى، وضع عدد من علماء المسلمين طائفة من الواجبات المنوط القيام بها بالحاكم المسلم؛ حتى يعرف حدود مسئوليته، ولا يقصر في أي واجب من هذه الواجبات.
1 محمد الخضر حسين: "رسائل الإصلاح" ص115.
2 انظر "المال والحكم في الإسلام" تأليف: عبد القادر عودة ص95.
3 النور: "55".
4 الحج: "41".
وقد حدَّدَ "الماوردي" عشرة واجبات رأى أن الإمام ملزم بأدائها، وهي تنحصر في واجبين أساسيين هما: إقامة الإسلام، وإدارة شئون الدولة في حدود الإسلام: أما الواجبات فهي1:
أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بَيَّنَ له الحجة، وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من الزلل.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين.
الرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرمًا، ويسفكون فيها دمًا لمسلم أو معاهد.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف فيه ولا تقصير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
1 الماوردي: "الأحكام السلطانية" ص15. وانظر: "معالم الثقافة الإسلامية": تأليف الدكتور عبد الكريم عثمان ص212. وانظر "الإسلام" تأليف: سعيد حوى ج2 ص161.
التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال مضبوطة، والأموال محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتفحص الأحوال؛ ليهتم بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح.
وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} 1.
فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته".
4-
إن للمسئولية مرحلتين أساسيتين2:
الأولى: مرحلة المسئولية قبل القيام بالعمل، وهذه مسئولية تكليف ومطالبة، وهي بالنسبة لكل إنسان نوع من أنواع الكرامة التي أكرم الله بها هذا المخلوق، حين جعله خليفة في الأرض ومكَّنه من التصرف، وأعطاه في الحياة أنواعًا من السلطان والنفوذ، وهي بالنسبة لمن يلي من أمور الناس شيئًا مسئولية تتسع على قدر اتساع سلطة الإنسان، وامتداد قدرته، ولذا فمسئولية الحاكم أكبر من مسئولية المحكوم؛ لأن التكاليف المنوطة به أضخم، ومطالبته بالعمل على ما يحقق للناس مصالحهم أشد من حيث الخطط والمشروعات، وتوفير وسائل الحياة الطيبة الصالحة الكريمة لهم.
1 سورة ص: "26".
2 انظر: "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" للدكتور محمد عبد الله دراز ص63.
الثانية: مرحلة المسئولية بعد القيام بالعمل، وهذه مسئولية استجواب ومحاسبة، ولما كانت مسئولية الإنسان لا تتوجه عليه إلا في حدود حريته واختياره؛ فإن المسئولية هنا تتوجه على الحاكم في حدود ما كُلِّفَ به، وكانت له القدرة على التصرف فيه، وهي متناسبة مع مركزه في المجتمع، وسلطانه على الناس، ولذلك لا يقبل من الحاكم المسلم أن يزيل المنكر بقلبه ولسانه، بل إن عليه -بما أوتي من السلطة والنفوذ- أن يزيله بيده. ولذلك كانت مسئوليته في هذا الجانب أعلى درجة في سلم المسئولية لدى الناس جميعًا.
5-
ويلقي الإسلام على كل إنسان تبعة أعماله الحسنة أو السيئة بصفته الفردية، بحيث لا يترك له أن يأمل أن أحدًا ما سينقذه من تبعة أعماله، أو يحمل عنه خطاياه وذنوبه، ولا يستطيع كذلك أن يسلم من وبال جرائمه، كما لا يحمل وزر جرائم غيره، إن كل شخص في الإسلام منفرد في احتماله العقاب؛ نتيجة لأعماله السيئة، وهو منفرد كذلك في فوزه بالثواب؛ نتيجة لأعماله الصالحة، فعلى كل شخص -وفي مقدمة ذلك ما يلي السلطة والحكم- أن يكون على شعور تام بتبعته الفردية في انتفاعه بالدنيا وتصرفه في شئونها، وعليه كذلك ألا يقضي حياته إلا على شعور تام بأنه هو المسئول عن كل عمل من أعماله.
1 النساء: "58".
قال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
6-
بعد هذا لا بد أن نجيب عن هذا السؤال وهو:
إلى من سيكون تقديم الحساب؟
وهنا تختلف وجهة النظر الإسلامية عن غيرها من وجهة نظر المذاهب الفلسفية، وما يتصل بذلك من مناهجها في التربية؛ فبينا ترى بعض هذه المذاهب أن المسئولية هي مسئولية الإنسان أمام ضميره، ولذا فهي تبذل جهودها في تربية الضمير الفردي على ما تراه من نزعات أخلاقية، ترى المذاهب ذات النزعة الاجتماعية أن المسئولية هي أمام الأمة، وتعمل لتحقيق ذلك على تربية الشعور الاجتماعي.
أما وجهة النظر الإسلامية: فإنها تقرر أن المسئولية هي أمام الله عز وجل وهي منوطة بالتكليف الرباني للإنسان بحمل الأمانة، وأدائها حق أدائها كما قال عز وجل:
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
1 الأنعام: "164".
2 الممتحنة: "3".
3 فاطر: "18" وانظر "الحضارة الإسلامية" تأليف أبي الأعلى المودودي ص33.
أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 1.
فالأمانة شاملة للقيام بجميع التكاليف والالتزامات التي تلازم الإنسان، باعتباره مؤهلاً بطبيعة ما أودع الله فيه من العقل والإرادة وجميع الخصائص الإنسانية لاحتمالها وأدائها، ولا بد إزاء هذا من أن يكون مسئولاً عن هذا الاحتمال والأداء أمام الله تبارك وتعالى، الذي جعله من بين سائر المخلوقات الكائن المكلف المسئول، فإذا كانت الأمانة تعني الاستقامة في شئون الحياة كلها، من عقيدة وأدب ومعاملة وتكافل وسياسة حكيمة وخلق حسن، ونصح ورعاية وصيانة لكرامات الناس وحرياتهم2، فإن مسئولية الحاكم بهذا مسئولية كبرى أمام الله تبارك وتعالى، فإن رعاها حق رعايتها كان وفيًّا أمينًا، وإلا كان ظالمًا لنفسه بما قَصَّرَ وفرَّط، ولا بد أن يسأل عن ذلك ويحاسب وينال جزاءه العادل.
قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 3.
وقال: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 4.
ويشير بعض الباحثين5 إلى أن القرآن الكريم يضعنا -من حيث المسئولية- أما محكمة الضمير في قلوبنا، ومحكمة البشر من حولنا،
1 الأحزاب: "72".
2 انظر: "أخلاقنا الاجتماعية" للدكتور مصطفى السباعي ص105 و"معالم الثقافة الإسلامية" للدكتور عبد الكريم عثمان ص158.
2 "آل عمران: 25".
3 "البقرة: 281".
5 الدكتور محمد عبد الله دراز في: "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" ص67.
ومحكمة السماء من فوقنا، ولكل واحدة منها أمانة في أعناقنا.. وقد اشتق هذه الفكرة من تفسير قوله تعالى:
فقد جمعت هذه الآية الكريمة في هذه الكلمات القليلة أنواع السلطات القضائية التي ستتولى محاسبتنا: {لا تَخُونُوا اللَّهَ} هذه هي المسئولية الدينية. و {الرَّسُولَ} هذه هي المسئولية أمام الناس {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} هذه هي المسئولية الأخلاقية أمام الضمير. وإليكم نصًّا قرآنيًا يؤكد هذا المعنى ويزيده تفصيلاً، ذلك هو قوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2.
{فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} : هذه هي المحكمة الإلهية.
{وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} : هذه هي المحكمة الإنسانية.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : هذه هي محكمة الضمير، نمر أمامها يوم القيامة قبل أن نعرض على المحكمة الإلهية:
1 الأنفال: "27".
2 التوبة: "105".
3 الإسراء: "13-14".
ويختم الباحث فكرته بقوله:
"فهذا هو أدق نظام وأحكمه، وأرقى تكوين وأكمله، وفي هذا صلاح البشرية في ظاهرها وباطنها، وفي سرها وعلانيتها"1.
7-
وإذا رجعنا إلى ما روي من سبب نزول قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، فإننا نرى أن بعض الروايات تشير إلى أنها أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك، وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقًا حتى يموت، أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيًّا عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله، فقال: يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة. فقال: "يجزيك الثلث أن تصدَّقَ به".
وذكر ابن كثير3 آثارًا أخرى وعقب على ذلك بقوله: "والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء". ونقل عن السدي
1 المرجع السابق ص68.
2 الأنفال: "27".
3 تفسير القرآن العظيم: ابن كثير الدمشقي ج3 ص300.
قوله:"إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم".
ومن هذا يفهم أن مَرَدَّ الأمر إلى مسئولية الإنسان أمام الله -عز جل- وخوفه منه وحده، ولم يكن صنيع أبي لبابة إلا بباعث من شعوره بهذه المسئولية الكبرى، وهو شعور جعله يحس بخطورة ذنبه. الذي لا خلاص منه إلا بتوبة الله عليه. فإذا خلا الإنسان عن هذا الإيمان الذي يدفعه إلى مراقبة الله عز وجل وخوفه منه، فلن يضعه على درب الاستقامة، شعوره بمسئوليته أمام ضميره أو أمام الأمة. ولذلك كان "الهتاف الأخير للأمة المؤمنة هو هتاف التقوى، فما تنهض القلوب بهذه الأمانات الثقال إلا وهي متصلة بالله ترقبه وتخشاه، وتتطلع إلى فضله ورضاه:
هذا هو الزاد الذي تتقوى به القلوب في طريق الجهاد، وزاد التقوى الذي يحيي القلوب ويقويها، وزاد الهدى الذي يفرق بين الحق والباطل، وزاد المغفرة الذي يكفر الخطايا، وزاد الأمل في فضل الله العظيم. ذلك يوم تنفد الأزواد، ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم"1.
1 الأنفال: "29".
2 سيد قطب: "في ظلال القرآن" ج9 ص95.