الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طبيعة المعركة وصُوَر العَداء
المعركة في ماضيها وحاضرها:
1-
حين انبثق نور الدعوة الإسلامية في فجرها الزاهي المشرق لقيت من أعداء الحق عتاة الجاهلية ورءوس الضلال ألوانًا شتى من التكذيب والسخرية، والتحدي والعدوان، فقد أخذتهم العزة بالإثم، وشق على نفوسهم المستكبرة أن تهز هذه الدعوة من القواعد مواريث الباطل، الذي كانوا يرتكزون إليه، ويصدرون في سلطانهم عنه، ويتحكمون باسمه في رقاب العباد، ويعيثون في الأرض الفساد.. فاندفعوا يسومون المؤمنين سوء العذاب، ويشنون عليهم حملات عاتية من البغي والإيذاء، وأغراهم بالتمادي في طغيانهم أنه لم تكن للمسلمين في بدء دعوتهم منعة وقوة وسلطان، فلم يكن ثمة ما يحملهم على أن يطامنوا من كبريائهم وعنفوانهم المغرور، إذ لم تكن للمسلمين آنذاك سلطة مطاعة، أو قوة مرهوبة.. ولكنّ ما شهدوه من صمود المؤمنين وصبرهم وثباتهم جلعهم يدركون أن الإيمان بالله والانضواء تحت راية الاسلام، قد زوَّد هؤلاء المسلمين بقوة عجيبة لا تغلب، وعزيمة خارقة لا تلين.. وروح لا تعبأ بالعدوان، ولا تخضع للطغيان.
لم يكن موكب الهداية يعبأ بما كان يلقى من أعدائه من عنت وشدة وعدوان، ولم يتح أي فرد في هذا الموكب الطاهر العظيم لهؤلاء الأعداء فرصة النيل من دعوته بموقف ضعف أو مهانة واستخذاء، وكانت قوة الإيمان هي تلك الدرع التي تنبو عنها الضربات مهما اشتدت.. بل لقد جعلت الأعداء على مثل اليقين أن معركتهم خاسرة وإن كانوا يملكون من القوى المادية ما يجعلهم أكثر تفوقًا ورجحانًا.. ولكن قوة الإيمان كانت تؤذن الباطل بنهايته، وتنذره باندحاره. فهي -في ميزان القوى- القوة الكبرى التي لا تعرف الهزيمة والضعف والاستسلام ومن شأنها إذا امتلأت بها القلوب وتحركت بها العزائم، أن تلجئ الأعداء إلى الانكفاء والضمور.. فالإيمان في مدِّه الكبير هو وحده صانع البطولات.
2-
ثم إن المعركة بين دعوة الإسلام والزائغين عنها المقاومين لها هي معركة دائمة الاحتدام، عنيفة الصراع، مشبوبة الأوار تجري اليوم -كما جرت من قبل- على جبهة واسعة عريضة، والأعداء فيها أصناف شتى، ولهم في الوصول إلى أهدافهم المعادية وسائل متنوعة متعددة، وهم على اختلاف أشكالهم وتعدد أسلحتهم دائبون في الحرب المكشوفة والمستورة، بمكر ودس وتآمر وتصادم، يرمون بحقد ولؤم إلى تحطيم هذه الدعوة، وتمزيق وحدة المسلمين، وصد الناس عن اتباع الهدى، ووقف التيار المشرق الزاخر بالإيمان عن أن يبلغ أهدافه الطيبة الكريمة في حياة البشر.
لقد كانوا يعلمون -من قبل- على ما بينهم من تنافر وخلاف إلى غاية واحدة: وهي القضاء على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، فقد واجه المشركون -مثلاً- دعوة الإسلام بالإعراض والتحدي
والعناد والاستكبار، ولم يكونوا يصدرون في موقفهم ذلك عن أي أثارة من علم، أو مسكة من منطق، بل لم تكن لديهم شبهات يثيرونها، أو مسائل يناورون بها، وكل ما كانوا ينطلقون منه هو اتباع الآباء وتقليد الأجداد، والجمود على هذا الميراث الفاسد والركام التافه من أساطير الجاهلية وطوفان الوثنية.
أما موقف أعداء الإسلام من أهل الكتاب -وبخاصة اليهود- فلم يكن من حيث النتيجة يختلف عن موقف المشركين، وإن أخذ جحودهم وإعراضهم صورًا أخرى تتسم بالإفك والتزوير، ونشر الشبهات، وبث المفتريات، وقد كانوا متناسقين في خططهم الماكرة؛ وتشكيكهم وتآمرهم مع المشركين في عدائهم المكشوف، وأسلوبهم الأرعن.. لقد كان الفريقان يصدران عن نزعة واحدة هي الحقد العنيف والعداوة والبغضاء، ويساند بعضهم بعضا، ويتعاونون على الأثم والعداون.. ولم يختلف شأنهم اليوم عما كان عليه موقف من سبقهم من أعداء الأمس، إنهم -وإن تغيرت منهم الأسماء والسمات، والمذاهب والنزعات- الأعداء الألداء لنا ولدعوتنا، لايتفقون -إذا اختلفوا- إلا على حربنا وكراهيتنا، ومحاولة القضاء علينا.
3-
ومن وقائع تاريخنا الإسلامي حول طابع العلاقات التي كانت قائمة بين الجماعة الإسلامية في بدء تكوين مجتمعها الفريد، وإقامة دولتها الفاضلة.. أن بعض المسلمين كانوا -انطلاقا من روحهم الطيبة، وسريرتهم الصافية، ووفائهم بعهدهم- ما يزالون مخدوعين بمن كان يعيش بين ظهرانيهم في تلك الفترة من مخالفيهم في الدين من اليهود وغيرهم.. ممن أظهر الموادعة والمسالمة، ودخل في ذمة المؤمنين، ولكن الحقيقة التي كشفت عنها الوقائع فيما بعد، ودلت عليها التجارب التي تشي بما تنطوي عليه النفوس.. أكدت أن هؤلاء المتظاهرين بالود
وحسن التعايش وصدق التعامل، لم يكونوا سوى نماذج سيئة في الدس واللؤم والمكر.. بما قاموا به من ضروب الفتن وحبك الدسائس والمكر الخفي، بل كان لهم في مهمتهم الخبيثة أعوان من المنافقين الذين تظاهروا -كذباً وزورا- بأنهم مؤمنون؛ ليتاح لهم -من خلال تظاهرهم الكاذب- أن يمارسوا مهمة تمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق صفوفها، وهدم دولتها، وصد الناس عن الاستجابة لدعوتها.
لم يكن المسلمون جميعا -والأمر ما يزال في أوله- على معرفة تامة بحقيقة هؤلاء الأعداء الحاقدين، الذين يجاورونهم ويعيشون فيما بنيهم، فربما أفضى إليهم بعض المؤمنين بالمودة، أو اتخذ منهم بطانة وأصحابًا اغترارًا بظاهرة حالهم ومعسول كلامهم.
إزاء هذا الواقع جاء المنهج الإسلامي يحذر المؤمنين من موالاة هؤلاء الأعداء، واتخاذهم بطانة وأصدقاء.. فهؤلاء لا يصلحون أن يكونوا كذلك، وهم لا يقصرون في أي عمل يسبب للمؤمنين الفتنة والفساد والتشويش، ويتمنون لهم كل عنت ومشقة وسوء.. وإذا لم تظهر علامات البغض والكراهية على ألسنتهم، فإن قلوبهم تتميز غيظا بالحقد على المسلمين لما يرون من ائتلافهم واجتماع كلمتهم.. وصلاح ذات بينهم..
4-
وإن من طبيعة المنحرفين عن المنهج الإلهي، الذي جاءت به دعوة الإسلام هدىً وحقًا ونورًا، أن يقفوا من قواعده الخيرة، ومقاصده السامية، موقف التحدي والعداء، وأن يحاولوا -بكل ما لديهم من وسائل- أن يوقفوا تحركه نحو صدّ غلواء الباطل، وكبح جماح الشر، وتحطيم كبرياء الهوى.. فهذه هي ركائز انحرافهم، وقواعد فسادهم، فإذا تحطمت وانهارت كان وجودهم كله على شفا جرف هارٍ. وكان مآلهم في خاتمة المطاف إلى الهلاك والدمار.. فهم إنما يصدرون -في الحقيقة-
عن نزعة الدفاع عن هذا الوجود الفاسد المتهلهل. وإن كانوا يتخذون لذلك خطة الهجوم، وأسلوب التحدي، ويلتمسون لتحقيق مقاصدهم الخبيثة وسائل الدس والتشكيك، وإثارة الشبهات، وإدارة معارك الجدال الفارغ، والمراء العقيم، ويزعمون -إمعانًا في المكر والتضليل- أنهم رواد الحقيقة.. وأنهم موضوعيون. وأنصار البحث الدقيق، والفكر الحر.. والواقع أنهم ليسوا صادقين فيما يدعون، فهم لا يبحثون عن الحقيقة بل يكابرون فيها، ولا يودون تمحيص الموضوعات وبحثها لمعرفة الحق فيما يتعرضون له من مسائل، أو يثيرونه من قضايا وأمور.. فهم متعصبون لباطلهم، متشبثون بما هم عليه من إفك ووهم وزور.
إن هذا المسلك الذي يتسم بالالتواء والمخاتلة، وتشويه الحقائق، وإثارة الشبهات، هو مسلك أعداء هذا الدين في القديم والحديث. وتسجل وقائع التاريخ أن اليهود كانوا -في بدء الدعوة- أول من عمل على بلبلة الأفكار، وتصيد الشبهات، وشن الحملات، لإضعاف الصف المؤمن، وتمزيق وحدته، وصد الناس عن دين الله.. ولعلهم ما يزالون في عصرنا هذا، وراء هذا الغزو الفكري المعادي الذي يتحرك على أيدي المستشرقين والمستغربين لتشويه دعوة الحق، وطمس معالم النور.
5-
ثم إن من دأب أعداء الإسلام في كل عصر أن يحاولوا بكل ما في صدورهم من حقد، وما في وسائلهم من كيد، وما في رءوسهم من مكر، أن يقصوا الناس عن الهدى، ويصرفوهم عن الإيمان، ويدفعوهم في مسالك الضلال، وطرق الشر، ومهاوي الرذيلة، ودروب الغواية.. إنهم لا يحقدون على شيء كما يحقدون على هذه العقيدة الحقة النيرة، التي تحرر الفكر والوجدان، وتطهر القلوب، وتزكي النفوس، وتصحح التصورات، وتقوّم الأوضاع وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له، كما تخرج البشر من إسار الطغيان، وجور