المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إنشاء المجتمع الفاضل: - لمحات في الثقافة الإسلامية

[عمر عودة الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة

- ‌الثقافة في حياة الأمم

- ‌المفاهيم الأساسية

- ‌الثقافة والتغيرات الطارئة:

- ‌أمتنا على مفترق الطرق:

- ‌الثقافة ومشكلة التعريف

- ‌بين المدلولين: اللفظي والفكري

- ‌الثقافة في نطاق اللغة:

- ‌تعريف الأمور المعنوية:

- ‌الثقافة في اللغات الأجنبية:

- ‌الثقافة والمجتمع

- ‌الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية:

- ‌الثقافة وقيم المجتمع:

- ‌الثَّقَافَة وَالحَضَارَة

- ‌طبيعة العلاقة بين الثقافة والحضارة:

- ‌دلالة الثقافة والحضارة على مفاهيم واحدة:

- ‌الربط بين الثقافة والحضارة:

- ‌الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية

- ‌ركائز الثقافة الإسلامية

- ‌الحقائق اليقينية الهادية

- ‌ المنهج الإلهي الشامل:

- ‌رصيد الفطرة الإنسانية الأصلية

- ‌خصائص الثقافة الإسلامية

- ‌ موضع الثقة الكاملة:

- ‌ كمال تصورها للإنسان والحياة:

- ‌ وحدتها المترابطة المتناسقة:

- ‌ بثها روح التميز في الأمة:

- ‌ إيجابية في روحها:

- ‌ أخلاقية في دعوتها:

- ‌ رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا:

- ‌الفصل الثالث: الثقافة الإسلامية والقوى المعادية

- ‌معركة الإسلام في الحياة

- ‌معركة تصحيح شامل دائم

- ‌معركة تحديات وتبعات:

- ‌المعركة وأصالة البناء الثقافي:

- ‌طبيعة المعركة وصُوَر العَداء

- ‌المعركة في ماضيها وحاضرها:

- ‌صور العداء:

- ‌نظرة في التاريخ

- ‌أمة لا تذوب:

- ‌جاذبية المبادئ:

- ‌بين المد والجزر:

- ‌في العصر الأموي:

- ‌في العصر العباسي:

- ‌الصليبية والغزو الفكري:

- ‌الفصل الرابع: خطط المبشرين والمستشرقين

- ‌الغزو الاستعماري والتبشير

- ‌الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته

- ‌الثقافة وهدف العداء:

- ‌المواقع الثقافية وحملات التشويه:

- ‌مدارس الإرساليات التبشيرية:

- ‌المناداة بتحرير المرأة:

- ‌نشر كتب الطعن على الإسلام:

- ‌الاستشراق والثقافة الإسلامية

- ‌بين المادحين والمشوهين:

- ‌تاريخ الاستشراق:

- ‌دوافع الاستشراق:

- ‌أهداف الدراسات الاستشراقية:

- ‌وسائل الاستشراق:

- ‌الفصل الخامس: الثقافة الإسلامية وآفاق الحياة الإنسانية

- ‌أفق البناء الفكري والخلقي

- ‌مدخل

- ‌تحرير العقل من التعطل:

- ‌الحَثّ على العلم:

- ‌السمو بالنفس وتطهير الضمير:

- ‌أفق البناء الاجتماعي والسياسي

- ‌إنشاء المجتمع الفاضل:

- ‌روح المسئولية في الدَّولة والحُكْم:

- ‌الروح الإنسانية في علاقات السلم والحرب

- ‌عالمية الإسلام وإنسانيته:

- ‌مبادئ الإسلام في العلاقات بين الناس:

- ‌أغراض الحرب في الإسلام:

- ‌قواعد الإسلام في الحرب:

- ‌الإحسان والتسامح مع المخالفين:

- ‌الوَفَاء بالعُهُودِ والمواثيق:

- ‌نماذج من الوفاء بالعهود:

- ‌بين وفاء المسلمين وغدر أعدائهم:

- ‌الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد:

- ‌بين الإسلام والقانون الدولي العام:

- ‌الفصل السادس: في العقيدة

- ‌العقيدة والحياة

- ‌مدخل

- ‌العقيدة والواقع الإنساني:

- ‌العقيدة ومصير الأمم:

- ‌سنة الله في الأمم الجاحدة:

- ‌مثل من قصة بني إسرائيل:

- ‌عقيدة التوحيد في مواجهة الجاهلية:

- ‌العقيدة والإنسان

- ‌الإنسان بين الهداية والغواية:

- ‌طريقان لا تسوية بينهما:

- ‌العقيدة ذخيرة الخير:

- ‌العقيدة تحدد الهدف:

- ‌إقصاء العقيدة عدوان على الإنسان:

- ‌الإنسان في رحاب الإيمان:

- ‌الصلة بالله وأثرها في الطاقات الإنسانية

- ‌إنسان العقيدة:

- ‌خَصَائِصُ العقيدة

- ‌العقيدة قوة هدم وبناء:

- ‌العقيدة منهج القصد والاعتدال:

- ‌العقيدة رابطة أخوة وتراحم:

- ‌العقيدة علاج الأزمات:

- ‌الفهرس

الفصل: ‌إنشاء المجتمع الفاضل:

‌أفق البناء الاجتماعي والسياسي

‌إنشاء المجتمع الفاضل:

لا بد لتحقيق المجتمع الفاضل من توافر عناصر عدة تضمن لهذا المجتمع القوة والوحدة، والتماسك والاستمرار، والإسهام في البناء الحضاري الخيِّر للإنسانية جمعاء.. من هذه العناصر:

أولا: صياغة الفرد صياغة تقوم على أساس إبراز خصائصه الإنسانية العليا، وتطهيره من أدران الهبوط والإسفاف، والتجافي به عن كل ما يتنافى مع أصالة فطرته، وكمال إنسانيته، والسمو به فكرًا وروحًا وشعورًا وسلوكًا.

ثانيا: صياغة المجتمع على أساس إنساني عالمي، يقوم على مبادئ سليمة، وغايات طيبة وأخلاق قويمة، وروابط تحقق الوحدة والتكافل والعدل، وتمنع الفرقة والأثرة والظلم.

ثالثًا: إقامة العلاقات بين الفرد والمجتمع على أساس التساند والتوازن بين النزعتين الفردية والجماعية، بحيث لا تطغى نزعة على أخرى، ولا يقع أي تعارض أو تطرف بين النزعتين، أو يجري أي خلل في الحقوق والواجبات.

رابعًا: انبثاق النظام الاجتماعي بمعناه الشامل -في جوانبه التربوية والسياسية والاقتصادية والخلقية- من عقيدة حقة واضحة صحيحة، لا لبس

ص: 231

فيها ولا غموض، ولا بد أن تكون هذه العقيدة حية تبعث الحركة والنشاط لدى الفرد والجماعة.

ويحقق الإسلام هذه العناصر التي يقوم عليها المجتمع الفاضل على أساس إيجابي وآخر سلبي، تطبيقًا لمنهجه في إقامة المعروف، وهدم المنكر، ويصوغ الفرد والجماعة والعلاقة بينهما، والنظام الذي لا غنى عنه لحياة اجتماعية صحيحة، على أساس عقيدة التوحيد الفطرية السليمة، التي جاءت بالخير والحق، والاستقامة والرشاد، وفق المنهج الإلهي الذي قرره الله تبارك تعالى في كتابه الكريم:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1.

وتحقق فيما شرع الله عز وجل عناصر هذا المجتمع الفاضل على أكمل صورة، وأقوم تربية، وأقوى كيان، بحيث يكون "المجتمع الإسلامي" هو وحده من دون أي مجتمع إنساني آخر "المجتمع الفاضل" المنشود.

1-

صياغة الفرد:

أ- الفرد هو الإنسان الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه، وفضله على كثير من خلقه، وسخر له ما في السموات والأرض، وكرَّمه أعظم تكريم، وخلقه في أحسن تقويم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وحمَّله الأمانة الغالية، وأكرمه بالفطرة الطيبة وأعده أكمل إعداد وأوفاه، وأمره أن يعبد الله وحده لا شريك له، عبادة خالصة يؤدي بها شكر ربه ويبتغي ثوابه ورضاه.

قال تعالى:

1 الشورى: "13".

ص: 232

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1.

{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 2.

ب- إن الإسلام بهذا قد كرم الفرد الإنساني كرامة رائعة ينالها منذ تكوينه جنينًا في بطن أمه، وهي كرامة ينشرها منهج الإسلام على كل فرد من البشر، ذكرًا كان أو أنثى، أبيض أو أسود، ضعيفًا أو قويًّا فقيرًا أو غنيًّا، كما يصون منهج الإسلام دم الإنسان أن يسفك، أو عرضه أن ينتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه، وضميره أن يتحكم فيه قسرًا، وتعطل حريته خداعًا ومكرًا

فهو حمى محمي، وفي حرم محرم، ولا يزال كذلك حتى ينتهك هو حرمة نفسه، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبًا من تلك الحصانة، وهو بعد ذلك بريء حتى تثبت جريمته، ولم يكتفِ الإسلام بأن عرف كل فرد حقه نظريًّا في هذه الحصانة الإنسانية، ولكنه أخذ يهيب به أن يدافع عن هذا الحق، وطفق يحرضه أشد التحريض على أن يقاتل دونه وأن يضحي بنفسه في سبيله3.

ج- وإذا كانت الكرامة الإنسانية -كما قررها منهج الإسلام- سياجًا لحرمة الإنسان وحصانة له، وحفظًا لحقوقه، فإنها -من ناحية آخرى- روح تحمل الإنسان على أن يعرف في هذا الوجود مكانته

1 الذاريات: "56-58".

2 الانفطار: "6-8".

3 انظر "دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية" للدكتور محمد عبد الله دراز ص33.

ص: 233

التي بوأه الله إياها، ووظيفته التي كلفه بها، ويقتضي ذلك منه أن يتحرك وفق خصائص الإنسانية الأصيلة، وفطرته الطيبة النقية، فلا يهبط ولا يسف، ولا يتقاصر عن السمو والارتقاء، بل ينطلق في رحاب الجد والعلم والإنتاج، دون أن يشرب انطلاقه غرور أو ظلم أو كبرياء.

د- يقوم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان على حقيقة أن كل شيء يخضع لله عز وجل وينقاد لأمره.

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون} 1.

فالإنسان -وفق التصور- مكلف بحكم ما أودع الله فيه من الفطرة، وما مَيَّزَهُ به من العقل، أن يصبغ حياته كلها وفق مقتضى هذه الحقيقة، بحيث يحقق في حياته معنى الطاعة الكاملة لله، والانقياد التام لأمره، والإذعان لحكمه، فإذا انسجم بكل ملكاته وطاقاته مع هذا اليقين، واتجه بصدق وإخلاص نحو هذه الغاية، كان مؤمنًا حقًّا، والمؤمن هو الفرد الصالح النافع، الذي يحسن إلى نفسه وإلى الناس.

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 2.

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3.

ولا بد أن يتم توافق الإنسان وانسجامه الكامل، مع هذه الغاية التي

1 الروم: "26".

2 النساء: "124".

3 لقمان: "22".

ص: 234

قررها المنهج الرباني، بحيث يشمل فكر الإنسان ونيته، وشعوره وإرادته، وسلوكه وحركته، وبذلك يدرك مكانه في هذا الوجود، وعلاقته بهذا الكون، وتقويمه لهذه الحياة، فلا يزلّ ولا يَضِل، ولا تتشعب به السبل، أو تلتوي به المسالك، وبذلك تخلو حياته عن العبث والفراغ.

قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} 1.

2-

صياغة المجتمع:

تنطلق صياغة المنهج الإسلامي للمجتمع من حيث المبادئ والغايات، والروابط والأخلاق، والمثل والتشريعات، من حقيقتين أصيلتين راسختين، تنبثق عنهما وتتحرك بهما، وتتأثر بإيحائهما، وتستنير بهديهما كل المسائل والقضايا المتصلة بالمجتمع على أي مستوى كان، وفي أي زمان ومكان، بحيث لا تقوم مشكلة إلا وتجد الحل الناجع الحاسم، ولا ينشب خلاف إلا وينتهي بالوفاق والوئام، وتسود الطمأنينة ويعم الرخاء وينتشر السلام.

قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 2.

1 المؤمنون: "115-116".

2 سورة ص: "71-72".

ص: 235

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

"أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى"1.

واتحدت مع طبيعة الأصل والنشأة تلك الفطرة التي فطرها الله عليها، وتلك الاستعدادات التي أودعها الله فيهم، فهم من حيث علاقتهم بها في هذه الحياة من متع وزينة، إنما يصدرون عن حب لها وتطلع إليها.

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 2.

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3.

وهاتان الحقيقتان هما:

أ- وحدة الأصل: فالبشر جميعًا ينتسبون إلى أب واحد وأمٍّ واحدة، وإذا اختلفوا جنسًا ولونًا ووطنًا، فلا ينبغي أن يكون اختلافهم الذي

1 متفق عليه.

2 آل عمران: "14".

3 الشمس: "7-10".

ص: 236

اقتضته حكمة الله عز وجل لعمارة الأرض بهم، عائقًا عن مشاركتهم الإيجابية في هذه الوظيفة الإنسانية، التي يفرض أداؤها على الوجه الصحيح، التعارف فيما بينهم، والتعاون الخيِّر البنَّاء، وهذا هو المعنى الإنساني الأصيل الذي يقرره منهج الإسلام، وتغذية توجيهاته وقواعده وأحكامه.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 1.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2.

وإذا كان الناس قد خلقوا -كما يقرر منهج الإسلام- من نفس واحدة، فإن الوحدة الإنسانية فيما بينهم، متحققة أتم تحقق في خصائصهم الإنسانية، التي أودعها الله فيهم، فهم لا يختلفون من حيث أصل النشأة، فقد خلقهم الله من التراب فاتحدت بذلك طبيعتهم.. ومن شأن وحدة الطبيعة فيهم، أن توجه طاقاتهم لما يحقق النفع والخير لهم.

ب- وحدة العقيدة: ومحور هذه الحقيقة هو تلك الصلة التي تجعل البشر جميعًا عبادًا لله عز وجل وعقيدة التوحيد هذه تؤكد أن رسل الله -عز

1 النساء: "1".

2 الحجرات: "13".

ص: 237

وجل- قد جاءوا جميعًا بذلك الدين الواحد وهو "الإسلام":

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} 1.

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2.

فهذا هو أساس العقيدة الذي لا يتبدل، أما التشريع الذي ينظم حياة الجماعة فهو الذي يتطور في الرسالات الإلهية على أيدي الرسل، تبعًا لمصلحة البشرية ودرجة نموها وتطور إدراكها، حتى إذا جاء الإسلام في صورته النهائية التي جاء عليها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كان قد احتضن الفكرة الأساسية في دين الله الواحد، واستقى الصالح من المبادئ والتشريعات والنظم في الرسالات السابقة، وأكمل الناقص منها وأتمَّهُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} 3.

وتؤكد الآيات الكريمة في كتاب الله عز وجل وحدة العقيدة هذه؛ ببيان أن كل دين كان هو الإسلام في صورة من صوره الموحدة الأصل، وتكشف لنا عن الطبيعة العالمية للإسلام باحتضانه كافة العقائد السماوية قبله، واحترامها واحترام أنبيائها وأتباعها، ومودته للمؤمنين منهم، وسماحته بحرية العبادة حتى إن لم يؤمنوا به، ما لم يقاوموه ويحادوه.

في سورة الأعراف ترد قصص نوح وهود وصالح متجاورة، فيرد

1 آل عمران: "19".

2 آل عمران: "85".

3 المائدة: "3" وانظر: "نحو مجتمع إسلامي" تأليف: سيد قطب ص110.

ص: 238

فيها نص واحد على لسان هؤلاء الأنبياء في دعوتهم إلى أقوامهم منذ أقدم الرسالات:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1.

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2.

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3.

وفي سورة البقرة دعا على لسان إبراهيم وإسماعيل في أثناء قيامهما ببناء البيت الحرام يقولان فيه:

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 4.

وحكاية كذلك عن إبراهيم ويعقوب والأسباط:

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ

1 الأعراف: "59".

2 الأعراف: "65".

3 الأعراف: "73".

4 البقرة: "128".

ص: 239

مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1.

وهكذا يتضح أن الرسل جمعيًا جاءوا برسالة واحدة هي عبادة الله وحده بلا شريك، وهي الإسلام في معناه العام، وعلى أساس هذا كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط مسلمين.

وتبعًا لهذه الحقيقة الكلية يؤمن المسلمون بالرسل جميعًا، ولا يفرقون بينهم، ولا يكرهون دياناتهم، ولا أتباع هذه الديانات، وكل ما يطلبونه منهم أن يؤمنوا هم كذلك بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا لما بين أيديهم، فإن لم يستجيبوا، فهم وما يشاءون، وليدعوا المسلمين آمنين يبلغون دعوتهم للعالمين.

والإسلام تبعًا لفكرته عن هذه الديانات المختلفة، وتمشيًا مع نزعته العالمية، لا يبت الصلة بينه وبين من لا يؤمنون به ما داموا لا يحاربونه، ولا يمنعون دعوته أن تبلغ الناس، ولا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على الضعفاء، بل يفسح للداخلين في سلطانه مجال الحياة كاملاً، ويفسح لمن لا سلطان عليهم مجال التعاون العالمي في الخير والصلاح2.

وبهذا يتبيَّن أن المجتمع الذي يصوغه الإسلام، هو المجتمع الذي يقوم على وحدة الأصل ووحدة العقيدة، وما ينبثق من هذه الوحدة من المبادئ السامية والغايات النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والضوابط المحكمة، والروابط الوثيقة، التي تجعل من هذا المجتمع الإنساني الكبير

1 البقرة: "130-133".

2 انظر "نحو مجتمع إسلامي" تأليف: سيد قطب. ص111 وما بعدها.

ص: 240

النموذج الذي تتشكل على صورته الفذة الوحدات الاجتماعية الأخرى التي يقتضي العمران البشري قيامها، ضمن حدود مكانية وزمانية معينة، فإذا ما قدمت هذه المجتمعات على جوهر هاتين الحقيقتين، لم تكن الأوضاع الخاصة والأشكال التي تقتضيها الاعتبارات الجغرافية أو السكانية أو الاقتصادية أو غير ذلك من الاعتبارات، عاملاً من عوامل الفرقة والخلاف، بل دعمًا للحقيقتين الأصيلتين وإغناءً لهما، وتطبيقًا لما تقرر أنه من المعاني الإنسانية التي يتحقق بها للبشر الخير والعدل والسلام.

3-

التوازن بين الفرد والمجتمع:

أ- حين تتم الصياغة للفرد والمجتمع على أساس من حقائق المنهج الإسلامي، الذي لا يقيم أي وزن للنعرات الجنسية، أو العصبيات العنصرية، أو الفروق اللونية، أو الامتيازات الطبقية؛ فإن من الطبيعي أن تنعدم في كيان هذا المجتمع وروحه، آفات التصادم والتنافر بين النزعتين الفردية والجماعية، وبذلك يقوم المجتمع على أسس التوازن الكامل بين مطالب الفرد وحق الجماعة، في جو عامر بالأخوة والود، والحرية والعدالة، والمساواة في الحقوق والواجبات.

ب- وإن مما يؤكد هذا التوازن قيامه على وعي المسلم بحق الجماعة، وشعوره بواجب التعاون معها، وتنديده بالنزعات الانعزالية التي تنمي الأثرة والفردية، وتنكمش عن التعاون الاجتماعي، ويعد الإسلام الحافز الاجتماعي لدى الفرد، الذي يحمل على نفع الناس والتعاون معهم، مقياس القرب من الله عز وجل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 241

"الخلق كلهم عيال الله فأَحَبّهُمْ إلى الله أنفعهم لعياله"1.

ويعد الإسلام كل عمل اجتماعي نافع عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعله الخير لا تصيد الثناء، واكتساب السمعة الزائفة عند الناس. كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرًا، أو يعلم جاهلاً، أو يؤوي غريبًا، أو يدفع شرًا عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعًا إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.

بمثل هذه الروح يستحث الإسلام كل مسلم -وإن يكن محدود الاستطاعة- أن يؤدي هذه العبادة أو "الضريبة الاجتماعية".. وفي هذه الدائرة الرحبة من أعمال البر العامة التي تشمل الإنسان وغير الإنسان يجد المهتمون بالعبادة، الراغبون في الإكثار منها، والمهتمون بخدمة المجتمع والإحسان إلى الخلق أيضًا ما يشبع نهمهم ويتجاوب مع أشواقهم، بدل أن يحصروا في عبادات "الصوامع" وحدها، وينقطعوا عن ركب الحياة2.

ج- وإذا كان الدين الحق هو الذي ينمي في الإنسان روح الشعور بحق الجماعة، والحضارة الخالدة هي التي تحمل أبناءها على الشعور بشعور الجماعة، والأمم الراقية هي التي تغلب الروح الجماعية كل نزعة فردية وانعزالية في أبنائها.. فإن من الحق أن نقرر أن الإسلام يحتل مكان الصدارة بين الديانات التي تدعو إلى التعاون، وتحارب العزلة والانكماش

1 رواه البزار.

2 انظر تفصيل ذلك ونماذج من النصوص الدالة عليه في كتاب "العبادة في الإسلام" تأليف: يوسف القرضاوي. ص56-61.

ص: 242

وتقوي صلة الفرد بالمحيط الذي يعيش فيه عن طريق العبادة والتربية والتشريع1.

"ومع كل هذا فقد بدا لبعض المستشرقين أن يصوروا المسلم على أنه ذو نزعة فردية لا تقاوم، لم يعرف معنى رباط التضامن في يوم من الأيام"2 وإن الدين الإسلامي -كما يقول أحد المستشرقين- يحترم النزعة الفردية ويقدسها، ولا يعرف معنى اندماج النفوس وتلاشيها في تنظيم كبير:"فليست الأعمال الجماعية مثل صلاة الجمعة، ووَقْفَة عرفات، وصلاة الأعياد، إلا أعمالاً فردية يؤديها المؤمنون في وقت واحد ومكان واحد، دون أن تتخذ طابع الاحتفالات الموجهة أو المنظمة وفق تنسيق خاص"3.

وسوف يلاحظ أي إنسان يحضر صلاة الجماعة للمسلمين، أن هذا القول لا أساس له من الصحة، وسوف لا يرى المؤمنين مبعثرين في غير نظام، يصلي كل واحد من أجل نفسه، أو يحضر كمشاهد، بينما إمامهم يؤدي وحده جوهر الفريضة الدينية؛ وإنما سوف يرى المؤمنين مصطفِّين في نظام جميل، متلاصقين كتفًا إلى كتف، الغني بجانب الفقير، والرئيس بجوار مرءوسه في وضع واحد، واتجاه واحد، ودعاء واحد، كل منهم يدعو للجميع:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . إنهم جميعًا يطلبون النجاة والفلاح، ليس فقط لمجموعة المصلين، وإنما لجميع عباد الله الصالحين أينما كانوا:"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"4.

1 انظر كتاب "أخلاقنا الاجتماعية" للدكتور مصطفى السباعي. ص41.

2 انظر "أخلاق وعادات المسلمين" تأليف جوتييه ص216.

3 انظر "الإسلام" في مجموعة "التاريخ والمؤرخون" تأليف: دودفروا ديمومبين ص739.

4 انظر "مدخل إلى القرآن الكريم" تأليف: الدكتور محمد عبد الله دراز ص110.

ص: 243

د- ويرى بعض المستشرقين -من المنصفين- عكس ما يراه غيرهم من المتعصبين.. بل لقد ألحت فكرة موقف الإسلام من الجماعة، وصياغتها على العقيدة والعوامل الروحية. وفكرة الوحدة.. على واحد من هؤلاء المستشرقين وهو "مونتغمري وات" -عميد قسم الدراسات العربية بجامعة "أدنبرة"- فأصدر كتابًا سماه:"الإسلام والجماعة المتحدة" قال فيه:

"إن فكرة الأمة -كما جاء بها الإسلام- هي الفكرة البديعة التي لم يسبق إليها، ولم تزل إلى هذا الزمن ينبوعًا لكل فيض من فيوض الإيمان يدفع بالمسلمين إلى "الوحدة" في "أمة" واحدة، تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات وعصبيات النسب والسلالة. وقد تفرد الإسلام بخلق هذه الوحدة بين أتباعه، فاشتملت أمته على أقوام من العرب والفرس والهنود والصينيين والمغول والبربر والسود والبيض، على تباعد الأقطار، وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حظيرة هذه الأمة أحد لينشق عليها، ويقطع الصلة بينها"1.

هـ- ولقد غابت هذه الحقيقة عن الرأسمالية في الغرب والشيوعية في الشرق، فكان هذا التناقض والتنافر والصدام وهذه الحقيقة ليست أمرًا معقدًا غامضًا. ولكن تجاهلها والانحراف عنها لا بد أن ينتهي إلى التعقيد والغموض ويدفع إلى التخبط والاضطراب، وتلتوي السبل، وتتعرج المسالك، ولا تبلغ بسالكيها إلا إلى متاهات لا حدود لها، وضياع لا اهتداء معه.

لقد انحرفت تلك الفلسفات عن هذه الحقيقة التي يقررها الإسلام -انطلاقًا من روح الفطرة الإنسانية- وتجاوزت تلك الفلسفات نهج

1 انظر كتاب "ما يقال عن الإسلام" تأليف: عباس محمود العقاد ص183.

ص: 244

الفطرة السوية، ووقفت عند ظاهرة التعارض السطحي، وتحركت تفلسف التناقض وجنحت إلى طرفيه، فالتزمت إحداها طرف الفردية وفسرت الحياة والمجتمع من خلاله، وصاغت النظام بتأثير منه، والتزمت إحداها الطرف المقابل، وجاءت بتفسير للحياة ونظامٍ لها على النقيض من الآخر، واتسعت شقة الخلاف واحتدم الصراع.

أما الإسلام -وهو دين الفطرة- فقد جاء يوفق بقدر ما في طاقة البشر بين النزعتين الأصيلتين: الفردية والجماعية، ويغذيهما معًا، ويجعلهما متساندتين بدلًا من أن تكونا متنازعتين. ولا يعد الإسلام تغذية إحدى النزعتين إساءة إلى الأخرى، أو إسقاطًا لها من الحساب، بل ينظر إليهما معًا. مقررًا حاجة الحياة إليهما بباعث الفطرة التي لا يمكن أن تستقيم بإحداهما دون الأخرى، ولذلك لا يكبت أيًّا منهما، ويلقي على الفرد والجماعة عددًا من المسئوليات والتبعات، لصياغة الفرد والجماعة على أساسٍ من التوازن الدقيق، والتعاون الوثيق1.

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2.

ويرى الإسلام أن التعاون في المجتمع إنما يقوم على الاختيار بدلًا من الإلزام، وهو ليس قاصرًا على جانب واحد، ولكنه متعدد الجوانب، ويتحقق فيه التوازن والتعادل بين الغنى والفقر، بمعنى انعدام الفجوات القائمة على الشحناء والبغضاء، والحقد والكراهية بين الغني والفقير، ولم تستطع النظم المادية التي تقوم على النزعة الجماعية، وسحق الروح الفردية -بالسطوة والقوة والإلزام- أن تنزع البغضاء والكراهية

1 انظر "المسألة الاجتماعية" للمؤلف ص182 وما بعدها

2 المائدة: "2".

ص: 245

من نفوس الأفراد لتحقيق الروح التعاونية المنتجة في المجتمع، بل إنها -على العكس من ذلك- دمَّرت هذه الروح وقضت عليها؛ حين أقامت العلاقات الاجتماعية، بالتربية السيئة والقهر القانوني على قاعدة الحقد والكراهية والبغضاء، فلم ينعدم التعاون في تلك المجتمعات فحسب، بل اعتبرته تلك الأنظمة آفة من آفات المجتمع؛ لأنه ينبثق من الضمير الذي لم يبلغ الدرجة المطلوبة من الوعي والنضج، وهي تعني بذلك أن يظل الضمير الإنساني مشحونًا بالمقت والحقد ضد الروح الإنسانية، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان، حتى يُعَدَّ لديها واعيًا ناضجًا.

ومن هنا يبدو الفرق بين نظرة الإسلام المرتكزة على تربية الضمير بالإيمان والخير والحب والإحسان والتعاون، وبين نظرة هذه النظم المرتكزة على تغذية هذا الضمير بالشر والكراهية، ومقت الإحسان والتعاون.. "وشتان بين إنسان له مستوى الإنسانية في السلوك والتصرف وإنسان آخر يؤمن بقوة العلم، ولا يؤمن بقوة الخلق. يؤمن بقيمة التطور في الصناعة، ولكنه يكفر بهدف الخير ومصلحة المجتمع الإنساني كله"1.

4-

العقيدة والنظام الاجتماعي:

- إن أي تعايش بين مجموعة من الناس، لا يمكن أن يكون صحيحًا وسليمًا ومنتجًا، إلا إذا قام على ضرب من التوافق بين أفراد هذه المجموعة على دعم الخير وهدم الشر، وإشاعة الحق وإزهاق الباطل، وتقوية كل ما يصلح وينفع، ومقاومة كل ما يفسد ويضر.

1 الدكتور محمد البهي: "الإسلام في الواقع الأيديولوجي المعاصر" ص42.

ص: 246

ولكن هل يكفي أن يتحول هذا التوافق إلى عرف عام، ينتقل بعد ذلك إلى قانون له صفة الإلزام؟

إن الحقيقة أن هذا التوافق -وهو فكر وخلق بحكم طبيعته وهدفه- لا يمكن أن يُعَوَّلَ عليه ويُطمأن إليه، إذا لم يكن مشتقًّا من عقيدة تطبع الجماعة بطابعها، وتصبغها بصبغتها، ولن تبلغ النظم المنبثقة من هذا التوافق الاجتماعي هدف الإلزام الذي لا مناص منه، إذا لم يقم على أساس من الفطرة التي تحب الخير وتكره الشر، وتقبل على الحق وتنأى عن الباطل، وتتفاعل مع مقتضيات الاستقامة، وتتجافى عن جواذب الانحراف، ثم لا بد مع هذا من قيام هذا التوافق على مبدأ الثواب والعقاب، والمسئولية والجزاء، حتى تكون قيم الجماعة مصونة من أن ينالها الضعف أو الفساد، وحتى يكون كيان الجماعة نفسها آمنًا قويًّا سليمًا.

ب- وعلى هذا فالعقيدة إذن: هي التي تصون القيم الإنسانية، وتهذب ضمير الفرد، وتقوي فطرته الطبيعية، كما تحتفظ للجماعة قوتها وسلامتها ووحدتها، لأنها "منتهى ما تصل إليه الجماعة لحفظ كيانها، وتحقيق أهدافها الفطرية في قيام حياة اجتماعية، منتطمة متحركة ودائمة، وما دامت العقيدة فإن الجماعة تدوم، فإذا زالت فإن تلك الجماعة تنحل وينقرض وجودها"1.

إن أي مجتمع من المجتمعات البشرية لا بد أن يرتكز توافق أفرادها على عقيدة ربانية، توحد أفكارهم ومفاهيمهم ومشاعرهم، وتضبط بها تصرفاتهم وأوضاعهم وسلوكهم، حتى يصح أن يوصف هذا المجتمع بالصلاح والتماسك والثبات والاستقرار. ومن هنا فقد جاء الإسلام

1 علال الفاسي: "دفاع عن الشريعة" ص56.

ص: 247

يبين لنا "أن أساس المجتمع الفاضل عقيدة صالحة، ترفع عن العقول لوثة الوثنية، وانحراف التفكير، وضلال العبادة، وتطهر المجتمع من الزيغ وعبادة الأصنام، وتدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، المستحق للعبادة، والمتفرد بها، وأنه هو الخالق القادر، ليس له كفء ولا مثيل، ولم يلد ولم يولد، وهو الهادي إلى سواء السبيل"1.

قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2.

إن هذه العقيدة التي تقرر بأن الدين هو موجة الحياة، وأن الحاكمية فيه لله رب العالمين؛ إذ إن معنى الألوهية لله أن تكون الحاكمية له، فلا أحبار ولا رهبان، يشرعون للناس ما لم يأذن به الله، ولا سيادة للشعب، وإنما هي لله سبحانه وتعالى، والشعب له السلطان في اختيار من ينفذ شرع الله، ولا طبقة تَحْكُم وطبقة تُحْكَم، ولا شخصيات مقدسة فوق القانون، ولا محاكم تختص بطبقة من الحكام دون آخرين، ولا تشريعات تفرق بين جنس وجنس، ولون ولون. والقادة والأحزاب والحكام والشعوب، كلها تخضع للنظام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى. ولا يعني هذا تحجر النظم والتشريعات، ولا تقييد البشرية والتضييق عليها، وإنما يعني هذا أن يكون الأساس الذي يقوم عليه التشريع، والأرضية التي ينبثق عنها الحكم، أرضية ثابتة لا تضل، هي من عند الله الخبير العليم، الذي يعلم البشر واتجاهاتهم ودخائل نفوسهم، فوضع لهم الأسس التي تنظم حياتهم، وترك لهم

1 محمد أبو زهرة: "المجتمع الإسلامي في ظل الإسلام" ص17.

2 سورة الإخلاص.

ص: 248

استنباط الأحاكم للفروع والجزئيات بما يحقق المصلحة والسعادة، ويضمن العدالة والطمأنينة1.

ج- وإذا كان من مقومات المجتمع الأنظمة التي تنظم علاقات الأفراد، وتشمل الأنظمة التجارية والاقتصادية والمعاملات وأنظمة الأسرة والقضاء والوصايا والميراث والنفقات، وأنظمة الحكم والسياسة والعقوبات وغيرها. فإن هذه الأنظمة تستند -في مجتمع الإسلام- إلى دستور مستمد من كتاب الله تبارك وتعالى، فالقرآن الكريم هو أصل الدستور الذي يوضح القانون العام، وعنه تنبثق كل الأنظمة التي تكون هذا المقوم الأساسي للمجتمع، فتنظم علاقاته، وتسوي أموره، وترفع خصوماته2.

إن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظامًا، وخلقًا وسلوكًا؛ لأن آصرة التجمع الأساسية فيه هي العقيدة التي تقرر أن الحكم لله وحده لا شريك له.

قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 3.

وحين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده، متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية؛ تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا كاملاً وحقيقيًّا من العبودية للبشر، وتكون هذه هي "الحضارة الإنسانية"؛ لأن حضارة الإنسان تقتضي قاعدة أساسية من

1 الدكتور عبد العزيز الخياط: "المجتمع المتكافل في الإسلام" ص14.

2 انظر المرجع السابق ص25.

3 يوسف: "40".

ص: 249

التحرر الحقيقي الكامل للإنسان، ومن الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع، ولا حرية في الحقيقة، ولا كرامة للإنسان -ممثلاً في كل فرد من أفراده- في مجتمع بعض أربابه يشرعون، وبعضه عبيد يطيعون.

والمجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، والعبودية المطلقة لله وحده تتمثل في اتخاذ الله وحده إلهًا، عقيدةً وعبادةً وشريعةً؛ فلا يعتقد المسلم أن الألوهية تكون لأحد غير الله سبحانه، ولا يعتقد أن العبادة تكون لغيره من خلقه، ولا يعتقد أن الحاكمية تكون لأحدٍ من عباده1.

وتتمثل حقيقة العبودية لله، واتباع شريعته، والإذعان بالحاكمية لله، بالإيمان الكامل -من ناحية أخرى- بأحقية ما شرعه الله تبارك وتعالى لتنظيم الحياة البشرية من أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول المعرفة، وكل تشريع ينظم أوضاع الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكل ما يتعلق بالقيم والموازين التي تسود المجتمع وتنميه وتقويه، وتدفع نشاط كل فرد فيه، لما يرضي الله عز وجل.

1 انظر: "معالم في الطريق" تأليف سيد قطب. ص105، 107، 108، 123.

ص: 250