الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحَثّ على العلم:
1-
إن هذا التحرير للعقل الذي يفتح المدارك، ويثير التفكير، ويحمل على الاستزادة من العلوم والمعارف، ويفصل فصلاً حاسمًا بين الحقائق والأوهام، ذلك أن الإنسان إنما يفكر ويتقدم في مضمار العلم بالعمل العقلي، فإذا تعطل العقل انحسرت المعرفة، وضمر العلم، وذلك يعقد الإسلام أوثق الأواصر بين الإيمان والفكر، والإيمان والمعرفة والإيمان والتقدم في الميدان العلمي، حين يدعو الإنسان إلى النظر والتأمل والتدبير في خلق السموات والأرض، وبحثه على التفكير في عالم النفس، وفي آفاق الكون، ويرى أن خير عظة توجه إلى الإنسان هو أن يفكر تفكيرًا سليمًا وينظر نظرًا صحيحًا في آيات الله في الأنفس والآفاق.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 1.
"وفضيلة الإسلام الكبرى أن يفتح للمسلمين أبواب المعرفة، ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم
1 سبأ: "46".
الزمن، وتجدد أدوات الكشف، ووسائل التعليم، وليست فضيلته الكبرى أن يقعدهم عن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر؛ لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم"1.
2-
من أجل هذا لا يتصور في ظل منهج الإسلام أي ضرب من ضروب النزاع بين الدين والفكر أو العلم، كمثل ما عرفت أوروبا من نزاع طويل مرير بين العلماء وبين رجال الكنيسة، ذلك النزاع الذي انتهى في بعض أطواره إلى سيطرة نزعة الشك، ثم تفاقمت هذه النزعة حتى انتهت في بعض الحالات إلى هجر الدين أو الإلحاد، وظل الدين -في أوروبا- على أي حال ينظر بتوجس وخيفة وحذر، إلى العمل العقلي، والمسائل العلمية، خلال حقبة طويلة شملت القرون الوسطى، ثم لم ينعقد الوئام بين الدين والعلم فيما يسمى عصر النهضة، وإن فرض الواقع أن ظل رجال الدين في مواقعهم، يتلهون باستعراض صور تاريخهم الذي اتسم بالقسوة والعنف، وممارسة ضروب الاضطهاد والإيذاء للعلماء والمفكرين إلى حد القتل والإحراق، والتعذيب والحرمان، لكل من جاء بآراء ونظريات لم تحظَ منهم بالقبول، بسبب تناقضها مع أوهامهم وخرافاتهم.. ظل رجال الدين هكذا من حيث انطلق العلماء والمفكرون في مضمار البحث والعلم والكشف والاختراع والتربية والنظام، بعيدًا عن استيحاء الدين وسيطرة رجاله، واستغل الماديون منهم تلك العقدة التي شكلها تاريخ النزاع الحاد المرير بين العلماء ورجال الدين، فدعوا إلى إقامة الحياة الإنسانية على المنطق المادي وحده، وأقاموا بنيانهم الفكري والعلمي على غير قاعدة الإيمان، بل لقد جهر بعضهم بالدعوة إلى الإلحاد وإنكار الإيمان بالله، كما يرى ذلك في الفلسفة الماركسية. "إن هذا الصراع بين العلم والكنيسة، وانتصار
1 عباس محمود العقاد: "الفلسفة القرآنية" ص18.
العلم في النهاية على الكنيسة. إن هذا الصراع وهذا الانتصار، وما أعقبه بعد ذلك من اتجاهات جديدة في التاريخ السياسي والفكري، لا يعدو أن يكون حديثًا أوروبيًّا محضًا متعلقًا بطبيعة الكنيسة وسلطتها الكهنوتية، وتحكمها في تفسير المسيحية، وتحديدها لعقائدها، وإعطاء صفة القداسة لما قررته المجامع الكنسية من نصوص.
ولذا فإن الخطأ والظلم الفادحين اعتبار هذا الحدث في التاريخ الإنساني كله، فإن هذا يحمل في مدلوله تعميم الظاهرة على التاريخ الإسلامي، وينتهي إلى خطأ أخطر وظلم أكبر وهو: التسوية بين طبيعة المسيحية وطبيعة الإسلام، ثم الحكم عليهما بحكم واحد. ووجه الخطأ والظلم في هذا هو أن ذلك الصراع بين العلم والكنيسة في أوروبا، كان ظاهرة مَرَضِيَّةً خطيرة، قيدت الفكر وعاقت سير العلم، وأخرت النهضة، وأوقفت نمو الحضارة، ولكن لم يكن لهذه الظاهرة المرضية وجود في بنية المجتمع الإسلامي، الذي كان -في تلك الفترة الزمنية وقبلها- في أوج عافيته، منارًا لحرية الفكر، وانتشار العلم، وازدهار الحضارة، ومصدر عافيته دائمًا هو الإسلام، الذي يحض على العلم ويدعو إليه، ولا يعرف تاريخه هذا الصراع العجيب بين العلم والدين"1.
3-
إن دعوة المنهج الإسلامي إلى إعمال العقل بتوجيهه الدائم إلى التدبير والتفكير، في كل جوانب الكون والحياة، للتعرف على الحقائق بشمول وعمق؛ هو منهج العلم في أصدق أصوله، وأرسخ قواعده، فهو المنهج الذي يرفع من شأن البحث العلمي الذي يوصل إلى معرفة الحق، ويؤدي إلى الإذعان له، لما يقوم عليه العلم الصحيح من الحجة القوية، والبرهان المقنع، وليس يقبل في هذا المنهج الاعتماد على الظن
1 المسألة الاجتهادية بين الإسلام والنظم البشرية، للمؤلف ص89.
والتخمين طريقًا للوصول إلى المعرفة، وإدراك الحقائق، ولقد دعا القرآن الكريم الضالين المكذبين من المشركين وأهل الكتاب إلى أن يأتوا ببرهان على ما يزعمون إن كانوا صادقين.
ويعلي المنهج الإسلامي من قدر العلماء الذين يجعلون علمهم دليلاً إلى عمق الهداية في قلوبهم، وقوة خشيتهم لربهم.
قال تعالى:
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} 3.
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 4.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 5.
1 "النمل: 64".
2 "البقرة: 111".
3 "الأعراف: 32".
4 "الزمر: 9".
5 "المجادلة: 11".
6 "فاطر: 28".
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} 1.
4-
وإذا كان القرآن الكريم كتاب عقيدة وهداية، فإن خير ما يطلب كانت العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حكمًا من الأحكام يشل حركة العقل وتفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما استطاع، وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يُكْفَلْ قَطٌّ في كتاب من كتب الأديان، وهو بذلك يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم أو يبطل التخمين2.
على أنه ليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقًا من النظريات العلمية -حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق- فالنظرية العلمية قابلة دائمًا للانقلاب رأسًا على عقب، كلما اهتدى العلماء إلى فرض جديد، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم، الذي قامت عليه النظرية الأولى، والنص القرآني صادق بذاته، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتدِ.
وفرق ما بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية، فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وثابتة في جميع الأحوال. أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب، ومن ثم فلا يحمل القرآن عليها، ولا تحمل هي على القرآن، فلها طريق غير طريق القرآن، ومجال غير مجال القرآن.
وتَلمُّس موافقات من النظريات العلمية للنصوص القرآنية هو هزيمة
1 العنكبوت: "43".
2 انظر "الفلسفة القرآنية": عباس محمود العقاد. ص16-18.
لِجِدِّيَّةِ الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما جاء فيه، وأنه من لدن حكيم خبير، هزيمةٌ ناشئة من الفتنة بالعلم، وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته، فلينتبه إلى دبيب الهزيمة من نفسه أنه بتطبيق القرآن على العلم يخدم القرآن ويخدم العقيدة ويثبت الإيمان.
إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم المتقلبة لِيَثْبُتَ لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه. إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية الثابتة فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والاستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم وأن يتحرر، وأن يعيش في سلام ونشاط. ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادرًا، وما أثبته القرآن أثبته العلم التجريبي من هذه الحقائق، مثل إن الماء أصل الحياة، والعنصر المشترك في جميع الأحياء، ومثل إن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه، فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث"1.
1 سيد قطب: "في ظلال القرآن" ج12، ص17.