الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحياتها ويثقلها، ومن التيه الذي كانت أفكارها وحياتها شاردة فيه، ولينشئ لها تصورًا خاصًا متميزًا منفردًا، وحياة أخرى تسير وفق منهج الله القويم.. وإن هذا التصور ليكفل تجمع الشخصية والطاقة في كيان المسلم الفرد والجماعة، وينفي التمزق والانفصام التي تسببها العقائد والتصورات الأخرى1.
1 انظر: "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص24 و "خصائص التصور الإسلامي" لسيد قطب ص22 وص228.
الثقافة وقيم المجتمع:
1-
إن ثقافة أي أمة يجب أن تقوم على أساس من القيم التي تسود مجتمعها، وهي قيم وثيقة الصلة بالعقيدة والفكر، والسلوك ونمط الحياة. ووجهة الحركة، وتحديد الهدف؛ كما أنها عماد التراث الروحي والنفسي والاجتماعي، ومحور التاريخ في جوانبه المتعددة، وأبطاله البارزين، ومواقفه الفاصلة..
2-
إذا كان من شأن ثقافة أفراد أي مجتمع أن تكون مصدرًا لتقديم الحلول الناجحة السليمة لكل ما يعترضهم من مشكلات، والوفاء بكل ما يجِدُّ في حياتهم من حاجات..؛ فإن تحقيق ذلك إنما يكون ميسورًا للثقافة إذا كانت قد نمت نموًا صحيحًا في جو القيم الصالحة ومناخها السليم..؛ وإلا كانت الثقافة عاجزةً مشلولة الحركة، عديمة التأثير، ولم تَعْدُ أن تكون لونًا من التعبير الجميل تارة.. أو ضربًا من الفلسفة النظرية في تيه الجدل العقيم تارة أخرى.. وهي معزولة -في الحالين- عن التأثير في المجتمع، وعلاج مشكلاته والوفاء بحاجاته.
3-
وعلى هذا فلا بد من أن تكون تعبيرًا حيًّا عن القيم الأساسية التي
تعطي المجتمع ملامحه الصحيحة، وتضبط حركته السديدة، وترسم له وجهته الرشيدة؛ فإذا انعزلت الثقافة عن هذه القيم، ووقع الفصل التام بينهما؛ فإن نتائج ذلك إنما تنعكس على الثقافة والقيم والمجتمع معًا؛ فلا مناص للثقافة بسبب ذلك من الضمور، وللقيم من الخمود، وللمجتمع من الانحطاط؛ إذ لا يتصور أن تنمو الثقافة من غير رِِفْْدٍ يغذوها، أو تحيا القيم إذا لم تأخذ مجالها في التطبيق والواقع؛ أما المجتمع فلا بد أن تتفاقم مشكلاته، وتشتد أزماته، ويصبح عاجزًا عن التحرك المجدي، والإنتاج المثمر حتى تفترسه العلل، وتعصف به الأحداث، ويمزقه الضياع.
4-
ومن هنا كان لا بد من أن تأخذ ثقافة أي مجتمع معنى تفاعله الذي يؤكد مدى تقديره واعتزازه للقيم التي يؤمن بها؛ فكما يدل هذا التفاعل مع القيم -من ناحية أخرى- على مدى حرصه على ترسيخها وإغنائها، وجعلها مقياس ما يعمل على بلوغه من تقدم ورقي في كل جوانب الحياة؛ بحيث تكون هذه القيم معيار تقويمه للواقع الذي يحياه، فيحلل بوحي منها هذا الواقع وينقده، ويقر الصالح منه ويطرح الفاسد دون أن تسيطر عليه نزعة الحرص على الجديد إذا كان متصادمًا مع هذه القيم، أو الرغبة في الانفلات من القديم إذا كان منبثقًا عنها، أو غير متصادم معها؛ وبذلك يصوغ المجتمع صورة مسقبله المنشود، وفق ركائز من القيم الأصلية الثابتة، التي تعطيه طابعه المميز وسماته الفريدة.
5-
ولا بد لنا هنا من أن نلقي نظرة على قيمنا الإسلامية التي يجب أن تكون ثقافتنا متفاعلة معها أوثق تفاعل وأعمقه، كما يجب أن تكون معيار تقويمنا لواقعنا ونقده، وتمييز عناصره وفرزها في ضوء ما تعطيه هذه القيم لنا من ملامح فريدة لشخصيتنا.
ومحور هذه القيم الإسلامية يسمو في حقيقته على الاعتبارات الأرضية كلها،
مهما كان لهذه الاعتبارات من وزن وتأثير، وضغط شديد على الفرد والجماعة، في أي مكان أو زمان؛ ذلك أن الإسلام لا يقيم أي وزن لما تواضع عليه الناس من قيم المادة والقوة، والجنس واللون، والعصبية والثراء، وما إلى ذلك من القيم الأخرى، إذا تجردت هذه القيم عن الإيمان والتقوى..
إنه بذلك يرمي إلى أن ينطلق الإنسان -فكرًا وشعورًا وسلوكًا وواقعًا- من حدود القيم الباطلة المتوارثة، والتي تراكمت في عصور الجاهلية، وأصبحت بسبب البعد عن المنهج الحق أمورًا ذات وزن واعتبار في حياة الناس، ولا يجد الإسلام لبقائها أي مبرر، مهما اكتسبت من قوة السيطرة على النفوس وأوضاع المجتمع، بسبب عنصر الاستمرار التاريخي، أو الإلف والشيوع، أو الملابسات الاجتماعية، والضغط النفسي، أو الأثر التربوي أو غير ذلك. إن الإسلام الذي جاء ليضع معالم الطريق لخير الإنسان وسعادته وتقدمه وأمنه وفلاحه، لا يعرف المساومة والمهادنة في أمر الحق الذي جاء به، وما انبثق عن هذا الحق من قيم جديدة بلغت الذروة في الاحتفال بخير الإنسان والاهتمام بعزته، وتوفير كرامته..
ولقد تنوعت الوسائل والأساليب التي جاءت بها دعوة الإسلام لتقرير هذه القيم وتحقيقها، وجعلها روح سلوك الفرد، وطابع المجتمع، وسمة الحياة الإسلامية. وتعمل دعوة الإسلام على توجيه المؤمنين إلى أن يستمدوا موازينهم من هذه القيم، في تجرد كامل من الملابسات والمواصفات، التي أقامتها في نفوسهم ومجتمعهم الأعراف الخاصة، والمواريث المألوفة، التي لا تتلاءم مع حقيقة الدعوة ومبادئها وأهدافها. ويقتضي الارتفاع إلى مستوى هذه القيم انعتاق الفرد والجماعة -في إيمان وعزيمة وصبر- من جواذب كثيرة، ورواسب ثقيلة، وظروف وارتباطات وموروثات مختلفة إلى الحد الذي يصبح فيه المؤمنون صورة حية صادقة لهذه القيم، ونماذج طيبة صالحة لتطبيقاتها الإنسانية في واقع الحياة..
وفي كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أمثلة لا حصر لها من تربية المؤمنين على هذه القيم وتفاعلهم معها وصبغ حياتهم بها وتقريرها وإعلائها لدى الأمم والشعوب التي امتد إليها نور الإسلام، خلال أحقاب طويلة من التاريخ..
من هذه النماذج1:
أ- ما قرره القرآن الكريم في سورة "عبس" -في إطار التوجيه والعتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن "القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل"، هي قيمة الإيمان والتقوى، وهي منفصلة عن كل ما تعارف عليه الناس من موازين واعتبارات..
وقصة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولًا بأمر نفرٍ من سادة قريش، يدعوهم إلى الإسلام، ويرجو بدخولهم فيه خيرًا كثيرًا، لما لهم من قوة وجاه، ومال ونفوذ في قومهم -حين جاءه "ابن أم مكتوم" الرجل الفقير الأعمى- يقول: يا رسول الله. أقرئني وعلمني مما علمك الله. فيكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم مكتوم قطعه لكلامه واهتمامه؛ فيعبس ويعرض.. فينزل القرآن يعاتب الرسول عتابًا شديدًا على موقفه هذا، ويوجهه بعد ذلك إلى "حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها واستغنائها عن كل أحد، وعن كل سند، وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها؛ كائنًا ما كان وضعه في موازين الدنيا"
…
وفي ذلك يقول عز وجل:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ
1 انظر في ذلك: "في ظلال القرآن" لسيد قطب ج30 ص38-51
عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 1.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت هذه الآيات يَهشُّ لابن أم مكتوم ويقول له كلما لقيه: "أهلًا بمن عاتبني فيه ربي" وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة.
ب- آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار أخوة إيمان وحب وإيثار؛ فربطت هذه الأخوة بين قلوب المؤمنين برباط لا ينفصم؛ لأنها فوق المنافع والمطامع، والعصبيات والأهواء؛ فوضع الإسلام بذلك القيم الجديدة والموازين الفاصلة، التي تتحدد بها علاقات القرب والبعد، ويتعين على أساسها موقف الولاء والعداء، دون أي اعتبار لما تواضع الناس في مجتمع الجاهلية من قيم العصبية أو الجنس أو اللون؛ تلك القيم الجاهلية التي كانت مدعاة إلى تمزيق الشمل، وإثارة الأحقاد، والتي صنفت الناس تصنيفًا يذكي بينهم نار العداوة والبغضاء، وفي ذلك يقول سبحانه -مذكرًا المؤمنين بهذه الأخوة الكريمة التي جمعتهم بعد تفرق، ووحدتهم بعد تمزق، وجعلت منهم إخوانًا متحابين بعد أن كانوا أعداء متناحرين:
إن هذه الأخوة التي مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين آصرة برٍّ وتعاطف،
1 سورة "عبس" 1-16
2 آل عمران: 103
ودعامة تآزر وتناصر؛ كانت إحدى القيم الإسلامية الكبرى التي أنعم الله بها على هذه الأمة، وعمّقت في فكر المؤمن ووجدانه روح الاعتزاز بهذا الإسلام، وشدة الحرص على دعوته، والعمل على ما يقوي كيان المؤمنين بها المنضوين تحت لوائها1.
ج- كان زيد بن حارثة مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية، كما آخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب، وجعله الأمير الأول في غزوة "مؤتة" يليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة الأنصاري؛ فجعل بذلك قيمة العقيدة فوق أي قيمة أخرى من قيم النسب والعصبية..
ثم كان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمَّرَ أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار؛ فيهم أبو بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة والسابقين إلى الإسلام، وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث، وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا أمّرَ عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ فطعن بعض الناس في إمارته؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تطعنوا في إمارته؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحبِّ الناس إلي، وإن هذا لمن أحبِّ الناس إليّ"2.
وقد بادر أبو بكر رضي الله عنه بعد توليه الخلافة إلى إنفاذ بعث أسامة، وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة، وكان أسامة راكبًا فاستحيا أن يشيعه الخليفة راجلًا فقال "يا خليفة رسول الله لتركبَنَّ أو لأنزلنَّ"؛ فقال أبو بكر:"والله لا تنزل ولا أركب. وما عليَّ أن أغبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة" ثم
1 انظر: "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص206
2 أخرجه الشيخان والترمذي
يضرب أبو بكر مثلًا رائعًا في أدب الإسلام ورعاية النظام حين يستأذن أسامة في أن يتخلف عمر بن الخطاب -وهو جندي في الجيش الذي يقوده أسامة- عن الخروج لحاجته إليه بعد أن ولي أعباء الخلافة فيقول لأسامة: "إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل" فيأذن أسامة أمير الجيش لعمر في عدم الخروج استجابة لطلب أبي بكر رضي الله عنهم جميعًا.
وتمتد هذه الروح حين يلي الخلافة عمر بن الخطاب بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنهما فيفرض لأسامة نصيبًا أكبر مما يفرض لابنه عبد الله؛ فيسأله ابنه في ذلك فيقول: "يا بني، كان زيد رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك؛ فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي"1.
1 أخرجه الترمذي.