الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
أخلاقية في دعوتها:
أ- جاء هذا الإسلام منهج هداية ونور لتصحيح عقيدة البشر، وتهذيب نفوسهم، وتقويم أخلاقهم، وإصلاح مجتمعهم، وتنظيم علاقاتهم، وإشاعة الخير فيما بينهم، ومطاردة الشر والفساد في بيئاتهم، وقطع دابر الفرقة والتناحر بين صفوفهم.
قال تعالى:
وفي دعوة الإسلام العامة الشاملة الخالدة روح أخلاقية عالية، تنبثق من جوهر العقيدة، وتشيع في كل عبادة، وترى في كل حكم، وتظهر في كل توجيه، وتلمس في كل تنظيم؛ ولهذا كانت الثقافة الإسلامية دستور الأخلاق، ومنهاج التربية النفسية لرفع الإنسان الذي كرمه الله بتكليفه حمل هذه الرسالة، وأداء هذه الأمانة من حضيض الفساد، وبؤر التمزق والانحراف إلى أوج الصلاح والتماسك والاستقامة.
قال تعالى:
وقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته وهو خاتم الأنبياء والمرسلين بهذه الكلمة الرائعة الجامعة: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"3. وفي هذا دلالة
1 يونس: "57".
2 النحل: "90".
3 رواه البخاري في الأدب، والحاكم، ورواه مالك:"بعثت لأتمم حسن الاخلاق".
كبرى على أن دعوة الإسلام هي وحدها منتهى الخير، وذروة الفضائل، وصفوة الكمال، وخلاصة الأخلاق.. كما أن صاحب هذه الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النموذج الأمثل للخلق الرفيع بما حباه ربه من صفات وفضائل تجل عن الوصف، ويضيق عنها البيان، وحسبنا أن نتلوا قول الله عز وجل في الثناء على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، لندرك هذا المستوى الكبير من سمو نفسه، ورفعة أخلاقه، ونبل صفاته.. وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها خلقه بهذا الوصف الجميل:"كان خلقه القرآن"2، وفي هذا تنبيه عظيم، ولفتة ذات دلالة إلى أن أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهي التطبيق الحي لما في كتاب الله عز وجل من فضائل الأخلاق ورفيع الصفات مما يبلغ الغاية في صفاء القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وحسن المعاملة، والصدق والإخلاص في القول والعمل والسلوك.
ب- ولما كانت هذه الثقافة تقوم على أصول اعتقادية وتهذيبية وتشريعية تتلاقى جميعًا في منهج تكاملي يصلح من شأن الإنسان، ويعمل على إسعاده في الدنيا والآخرة؛ فإننا نرى أن العنصر الأخلاقي أصيل وواضح في أصول دعوة الإسلام، كما أنه السمة البارزة في سيرة رسولها صلى الله عليه وسلم.. وسيرة الصفوة الرائدة من صحابته رضوان الله عليهم.. وفي هذا التعاون الوثيق والتساند المحكم بين التوجيه والقدوة، والإرشاد والتطبيق، يُشَادُ البناء الأخلاقي على أمتن الأسس، ويبلغ الذروة في القوة والإحكام..
قال تعالى:
1 القلم: "4".
2 رواه مسلم.
3 الأحزاب: "21".
ونلمس أثر العنصر في الدعوة الدائمة الملحة إلى الأخلاق الكريمة من أمانة ووفاء، وعدل ورحمة، وبر وإحسان، ووفاء بالوعد، وصيانة للعهد.. والتحذير الدائم من الصفات السيئة كالغدر والخداع، والظلم والاعتداء، والغش والالتواء، وغير ذلك مما تأباه الطباع الكريمة، والنفوس الطيبة. ولا يقف الأمر في هذه الدعوة عند حدود التوجيه والترغيب أو النقد والتحذير؛ بل يتجاوز ذلك إلى التنفيذ والالتزام في التشريع والأحكام؛ لتكون المسئولية الفردية والجماعية أساس الحماية والتطبيق لهذا الجانب الأخلاقي في حياة الأفراد والجماعات، وليكون الروح الحية الفعالة في أعماق ضمائر المؤمنين، والمحور الذي ينتظم سلوكهم في حياتهم الخاصة، وواقعهم الاجتماعي.
ولعل الدعوة إلى الاستقامة تحدد معنى هذه الأخلاقية العالية، وترشد إلى الطريق التي تحقق للمؤمنين إنسانيتهم المثلى، وتؤهلهم لحمل هذه الرسالة، وتجعل منهم الأمة الوسط التي اختارها الله؛ لتكون شهيدة على الناس، وهاديةً إلى سواء السبيل، تثبت ببنائها للمعروف، وهدمها للمنكر أنها أهل لتكريم الله لها، واستخلافها في الأرض، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
قال تعالى:
1 فصلت: "30-32".
وقال:
وقال تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى الاستقامة، مبينًا أنها الأمر الإلهي الذي به يصلح كل شأن في الدين والدنيا والآخرة:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} 2.
وقد كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الاستقامة في قوله وعمله وحياته كلها، وكان يأمر بها ويحث عليها، واعتبرها إذا ارتكزت على الإيمان بالله مِلَاكَ دعوة الإسلام:
عن أبي عمرو -وقيل أبي عَمْرَة- سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال:"قل آمنت بالله ثم استقم"3.
ج- ولا شك أن النفس الإنسانية هي مصدر الأخلاق؛ فعنها تصدر الفضائل ومنها تقع الرذائل، وبالتزامها نهج العقيدة، واتباعها سبيل التقوى؛ تتحلى بالخلق الحسن، وتتصف بأنبل الصفات، وبانحرافها عن جادة الإسلام ونأيها عن سبيله القويم؛ تتردى في المهالك، وتغرق في المفاسد والآثام؛ ولذا فقد عرض القرآن الكريم في آيات كثيرة لنفسية الإنسان عرضًا دقيقًا، وصورها في أحوالها المختلفة، حتى يكون
1 الأحقاف: "13-14".
2 هود: "112".
3 رواه مسلم.
المؤمنون على بصيرة من خبايا نفوسهم، ويدركوا مسئولياتهم إزاءها، ويعملوا على تنمية الخير فيها، وتنقية الشر منها، ويتصاعدوا بها إلى آفاق السمو والطهر والنقاء.
قال تعالى:
ففي هذه الآيات الكريمة تصوير ينبض بالحياة للنفس الإنسانية بما تعانيه من جزع إذا أصابتها الضراء، وما تمارسه من بَطَرٍ إذا مستها النعماء؛ فإذا هي في إحدى حالتيها فريسة القلق الدائم، يمزقها الخوف، ويطبق عليها الهلع.. ثم إذا بها في حالة أخرى مستعلية مستكبرة، ذات أثرة وبطر، يشتد بها الحرص فتجحد النعمة، وتمنع الخير. وهي في الحالين نفس محجوبة عن الخير، بعيدة عن الاستقامة، منحرفة عن الخلق السوي؛ ذلك أنها عاشت في خواء من الإيمان؛ ففقدت الطمأنينة، وجانبت سبيل الرشاد..
وقد استثنى الله عز وجل المومنين الذين تمتلئ نفوسهم بالطمأنينة والرضا، فيصبرون على ما يمسهم من ضرر، ويشكرون على ما ينالهم من خير، وحدد ملامح نفوسهم الرضية، وسماتهم الطيبة في العبادة والمعاملة والسلوك؛ فذكر أنهم يؤدون حق ربهم بصلاة دائمة خاشعة، وزكاة معلومة كريمة، وتصديق بيوم الدين، وخوف من عذاب الله.. ثم ذكر -سبحانه- نماذج من أخلاقهم الفاضلة، وختم ذلك ببيان مرتبتهم العالية، وما
1 المعارج: "19-28".