الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعد لهم من نعيم وثواب في دار الكرامة والخلود؛ فقال في الثناء على ما فيهم من طهارة وعفة، وصيانة للأمانة، ورعاية للعهد، وأداء للشهادة:
1 المعارج: "29-35".
7-
رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا:
أ- إن المعنى الإنساني للثقافة الإسلامية واضح في كل جانب من جوانبها؛ لأنها ثقافة منبثقة عن المفاهيم والمثل الإنسانية العليا في أوسع آفاقها وأسمى أهدفها.
ولقد دَرَجَ الباحثون في ثقافات الأمم على تلمس هذا المعنى الإنساني فيما يسود المجتمع البشري من عادات وتقاليد، وضروب المعارف العقلية، ودوائر النشاط الإنساني في شئون السياسة والحقوق والفن، وغير ذلك مما يبذله الإنسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله على الطاقات المذخورة في الكون..
وَلَقَدْ حَمَلَ فقدان هذا المعنى الإنساني في الثقافات الوطنية عامةً باحثًا أمريكيًّا "رتشارد ماك كوين" -مستشار وفد الولايات المتحدة في الدورات الأولى والثانية والثالثة للمؤتمر العام لليونسكو- على الدعوة إلى إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي مطامح الشعوب.. مشيرًا إلى أن على هذا النظام أن
يعدل طبائع الشعوب وأوضاعها وعاداتها؛ مستندًا في ذلك إلى المكتسبات العقلية والخلقية، ومبتكرات الأفراد -في الإطار العالمي طبعًا- في ميدان الفكر والعلم والتعبير..
قال في كتاب "أصالة الثقافات" -وهو مجموعة مقالات من مطبوعات اليونسكو- تحت عنوان "موقف الفلسفة تجاه تنوع الثقافات":
"يمكن تعريف الثقافات -من ناحية- بكونها أنماطًا ناشئة عن تطور تاريخي -ومن ناحية أخرى- كمجموعة من العادات يعترف بكونها مقبولة في جماعة معينة، كما يمكن متابعة آثارها في كل دوائر النشاط الإنساني كالسياسة والحقوق والفن والدين والمعرفة العقلية بمختلف صورها. إن مثل هذا التعريف لا يتعلق بثقافة وطنية معينة فحسب؛ بل يمكن أن يصدق على جماعة عالمية. وهذا ما يسمح لنا بأن نؤكد أن تنظيم السلام والأمن لا يقتضي توطيد الوضع الراهن، واتخاذ التدابير المؤدية إلى منع الخصومات المسلحة فحسب؛ بل يقتضي إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي بصورة دقيقة مطامح الشعوب؛ ولكن ليس على نظام من هذا النوع -كي يتلاءم على حاجات وموارد الشعوب المختلفة- أن يعكس طبائع الشعوب، أي أوضاعها وعاداتها فحسب؛ بل عليه أن يعدلها أيضًا. ولكي ننشئ هذا النظام العالمي لا بد لنا أولًا من الاستناد إلى المكتسبات العقلية والخلقية وتوطيدها، ومن الضروري كذلك أن نعير انتباهنا لكل مبتكرات الأفراد في ميدان الفكر والعمل والتعبير، وأن ننقدها ببصيرة صافية، وأن نبحث عن الميول والغايات التي تقابلها؛ ذلك أن هذه المبتكرات لا تتعلق بشروط اجتماعية وعوامل سياسية "ملائمة أو معادية" فحسب؛ بل تنشأ آخر الأمر طبقًا لمعاييرها الخاصة، معايير الحكم الخلقي أو الجمالي أو العلمي مثلًا"1.
1 أصالة الثقافات. ص7
وقد صدر في البيان المشترك1 لمجموعة الخبراء المجتمعين بدعوة من اليونسكو لدراسة المشكلات الناشئة عن الاتصالات والعلاقات بين الحضارات في العالم الراهن ما يلي:
"إن جامعة عالمية في المثل العليا تنبجس ببطء، ويمكن أن تكون أساسًا للمنظمات السياسية والمبادلات الاقتصادية الدولية؛ فإذا توصلت الأمم إلى أن تتفاهم، حلت الثقة محل الخوف والتوترات، وأصبح من الممكن -في إطار قيم مفهومة ودوافع معروفة- أن يتوصل التعاون الاقتصادي والاتفاق السياسي إلى نهاية موفقة حقيقية؛ أما إذا أغفل هذا الإطار الثقافي، أو حطمته سرعة التبدلات التي تهدد التطور وتكييف القيم؛ فإن التقدم المادي والمصالح الخاصة تكون معرضة هي الأخرى للخطر".
ويختم البيان المشترك بالإلحاح على التعاون -في إطار اليونسكو- لتكوين النزعة الإنسانية فيقول:
"إن مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقات بين الثقافات؛ فمن هذه العلاقات بين الثقافات يجب أن ينبثق مجتمع عالمي جديد قوامه التفاهم والاحترام المتبادل. وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة نزعة إنسانية جديدة يتحقق فيها الشمول بالاعتراف بقيم مشتركة تحت شعار تنوع الثقافات".
وبعد أن يشير البيان إلى أن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن تحققه الأمم بوساطة وزارات للاستعلامات أو إدارات للعلاقات الثقافية يقول:
"أما منظمة دولية مثل منظمة اليونسكو؛ فإنها قادرة على أن تدعو جميع
1 أصالة الثقافات ص423 تحت عنوان "إنسانية الغد وتنوع الثقافات". ولم يذكر في البيان تاريخ صدوره ولم يحدد مكان الاجتماع في الترجمة العربية.
قوى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعة إنسانية كهذه؛ وذلك بالكشف عن قيم ومعانٍ مشتركة، تحت التعبيرات الخاصة، إن قيام تفاهم دولي ونزعة إنسانية جديدة، هو -من جهة- ضروري لنجاح التلاؤمات السياسية، كما أن هذا التفاهم وهذه النزعة الإنسانية الجديدة هما -من جهة أخرى- عنصران مهمان في مواصلة السعي إلى المعرفة، وفي إنضاج القيم الثقافية، وفي فن الحياة الطيبة.. هذا الفن الذي تعد المؤسسات الاقتصادية والسياسية تحضيرًا له وأساسًا"1
ب- إن الدعوة إلى نظام عالمي يعدل طبائع الشعوب بمكتسباتها العقلية والخلقية -كما ينادي بذلك رتشارد ماك كوين- والمناداة بإنشاء جامعة عالمية في المثل العليا لتكوين النزعة الإنسانية على أيدى قادة التربية والعلم والثقافة برعاية منظمة اليونسكو. إن مثل هذه الدعوة العجيبة التي لا يمكن أن تجد سبيلها إلى التطبيق بحال، والتي تعد ضربًا من أحلام الفلاسفة، تؤكد أن هذه النزعة الإنسانية -وهي إحدى سمات ثقافتنا الإسلامية- تشغل أذهان المفكرين ورجال الثقافة لدى الأمم في عصرنا الحاضر، ويحاولون جاهدين أن يعثروا عليها بعد أن فقدت تمامًا في هذه الحضارة المادية التي عصف تيارها المدمر بكل القيم الخيرة والمثل العليا.
إن النزعة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق؛ إلا إذا اعتبرت شخصية الإنسان السوية وحدة متماسكة، تبنى على أساس عقيدة واحدة؛ فلا تصدر إلا عنها، ولا تستلهم في الشعور والسلوك سواها، ولا تستهدي في مواجهة الكون والحياة إلا وحيها، ولا ترجع في كل صغيرة وكبيرة إلا إلى توجيهها.."والعقيدة الإسلامية هي المثال الواحد الذي عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل في هذا المجال؛ إنها العقيدة التي تتسع فتشمل كل نشاط الإنسان في كل حقول الحياة؛ فلا تقتصر مهمتها على حقل
1 المرجع السابق ص425-426
دون حقل، ولا على اتجاه دون اتجاه. إنها لا تدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فما لقيصر؟! وقيصر ذاته في العقيدة الإسلامية كله لله، وما لقيصر حق ليس للفرد من رعاياه. وإنها لا تتولى روح الفرد وتهمل عقله وجسده، أو تتولى شعائره وتهمل شرائعه، أو تتولى ضميره وتهمل سلوكه، وإنها لا تتولاه فردًا وتهمله جماعة، ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه أو علاقات دولته؛ إنها الفكرة الكاملة الشاملة التي تمتد خيوطها في الحياة الإنسانية امتداد الشرايين في الكائن الحي وامتداد الأعصاب"1
ج- ثم إن هذه السمة المميزة لثقافتنا في وحدة العقيدة "تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا؛ فهناك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير؛ حتى إن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة: فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوعها وزخرفتها ذات أسلوب واحد، وطابع واحد"2؛ فلا غرو بعد أن تكون ثقافتنا الإسلامية من بين ثقافات الأمم كلها: "إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه في قوله تعالى:
1 سيد قطب: "السلام العالمي والإسلام" ص9.
2 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31.
3 الحجرات:"13".
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد، وأمة واحدة؛ إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا وحدتها من جميع الأمم والشعوب"1
ثم إننا نلحظ التركيز على هذا المعنى الإنساني الخير الذي قامت عليه شريعة الله تبارك وتعالى لتحقيق مثل العدل والرحمة ومصالح البشر جميعًا، وسعادتهم الكاملة؛ كلما تعمقنا في فهم هذه الشريعة وأحكامها التي تبني الحق وتدور معه، وتقيم الوجود البشري على الحكم والمصالح العامة والعدل والرحمة وكل المثل الإنسانية العليا.
قال الإمام ابن القيم:
"إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور.. ومن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة -وإن دخلت فيها بالتأويل- فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه؛ فهي بالحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه إضاعتها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا وفي الآخرة"2.
1 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31.
2 ابن القيم: "إعلام الموقعين" 3 ص1.