الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشواطًا في الكشف والاختراع بعيدة المدى، ولكنه في جموح بعض جوانبه، وغرور طائفة من رجاله، جاوز وظيفته في البناء إلى التخريب حين أقصي من منطلق حركته سنة الله في الكون، وحكمته في الحياة، وفطرته في الإنسان.. فَضَلَّ وتاه.. وأصبح بذلك داءًا قائلاً بدل أن يكون الدواء النافع، وانقلب نارًا محرقة بدل أن يكون النور الساطع..
قال تعالى:
1 غافر: "35".
المعركة وأصالة البناء الثقافي:
1-
ولا بُدَّ لنا من أن نقيم بناءنا الثقافي على ركيزة الأصالة حتى يكون واضح السِّمَةِ، معروف النسب، موصلًا بعقيدتنا الحقة، ومبادئنا السامية، وشخصيتنا المتميزة، وقيمنا الخالدة.. وأن نقومه تقويمًا عميقًا ونحرره من أخلاط الثقافات المسمومة، ورواسب الغزو الفكري الدخيل.. حتى يكون عطاؤه السخي حقًا خالصًا، وعلمًا نافعًا، وعمرانًا دائمًا، وإبداعًا حضاريًا يسير في ركب الإيمان والحق والعدالة والحرية..
ودعامة الأصالة الثقافية للأمة الإسلامية هي الفهم الصحيح لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتفقه في الدين، واستيعاب التاريخ الإسلامي، وحل المشكلات المعاصرة للمجتمع الإسلامي من
خلال تحكيم شرع الله تبارك وتعالى تحكيمًا كاملاً من غير تأويل تمليه الأهواء، أو تحمل عليه نزعة الانهزام الفكري والنفسي أمام التيارات المعادية الطاغية..
ولا تتحقق هذه الأصالة إلا بالإحاطة الشاملة بالإسلام عقيدة وعبادة وتشريعًا وخلقًا، "وإن أكبر نكبة أصيب بها المسلمون اليوم هي أنه ليس فيهم التفقه في الدين، والتدبر في الكتاب والسنة، وهذا هو الذي زعزع أركان عقائدهم، وجرد أعمالهم عن الروح، وشتت شملهم، وخيب مساعيهم، ودفع حياتهم في الفوضى. لا ريب أن فيهم عددًا كبيرًا يعشقون الإسلام، ولكن الذين يستطيعون فهمه منهم هم نزر يسير.
ومن نتائج هذا الجهل والفوضى أن الذين يدَّعون الإسلام ويزعمون أنفسهم مسلمين، يوجد فيهم أشنع ما يكون من أنواع الأوهام، وعقائد الشرك، بل هم يعتنقون مبادئ ونظمًا تدعو صراحة إلى الإلحاد والكفر بالله، ولا يشعرون بأن الإسلام الذي يدَّعُون اتباعه لا يتلاءم أبدًا مع هذه الأفكار، وأن بينه وبينها ما بين السماء والأرض"1
2-
وإذا أردنا للأصالة أن تكون مكتملة الوجود في حياتنا الثقافية فلا بد لنا من التفريق -في علاقاتنا مع الغرب- بين الأشياء والأفكار، والتمييز بين المظاهر والحقائق، ووعي الغايات من خلال الوسائل، والحذر من السقوط في وثنية التقدم التي تردى فيها الغربيون، بعد أن جعلوا الدين معزولاً عن الحياة، ووضعوه في أبعد مكان في مؤخرة الأحداث.. فهذا هو التقليد المردي الذي يفقد الأمة الإسلامية أصالتها في الميدان الثقافي. ولسنا نعني "أن المسلمين لا يستطيعون أن يفيدوا
1 انظر: "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" تأليف: أبي الأعلى المودودي ص16.
كثيرًا من الغرب وبخاصة في مجالي العلوم والفنون الصناعية؛ ذلك أن اكتساب الأفكار والأساليب العلمية ليس في الحق "تقليدًا" وبالتأكيد ليس في حالة قوم يأمرهم دينهم بطلب العلم حيثما يمكن أن يوجد. إن العلم لا غربي ولا شرقي ذلك أن الاكتشافات العلمية ليست إلا حلقات في سلسلة لا نهاية لها من الجهد العقلي الذي يضم الجنس البشري بكامله. إن كل عالم يبني على الأسس التي يقدمها له أسلافه، سواء كانوا من بني أمته أو من أبناء أمة غيرها، وعملية البناء والإصلاح والتحسين هذه تستمر وتستمر، ومن إنسان إلى إنسان، ومن عصر إلى عصر، ومن مدينة إلى مدينة؛ بحيث إن ما يحققه عصر معين أو مدنية معينة من أعمال علمية جليلة لا يمكن مطلقًا أن يقال إنها تخص أو تعود إلى ذلك العصر أو تلك المدنية"1.
وبعد.. فإنّ قضيتنا ليست موجةً عابرة على سطح الحياة، تعبث بها الأنواء ويدفعها مَدُّ الأحداث، ويحسرها بعد ذلك جزرها.. حتى تتكسر على الشاطئ وتضمحل ويطول بها الفناء.. بل روح الحياة، وشعلة الهدى، ومعقد الرجاء، وهي أمانة الله، ودعوته إلى البشر، حملها الجيل المثالي الرائد من الأجداد بقوة وصدق وإخلاص، فنشر رايتها في شرق الأرض وغربها، وخط بالدم الزكي الطاهر حدود هذا العالم الإسلام الكبير..
وجيل أمتنا اليوم مدعو إلى أن يكون أكثر -مما هو عليه- إيمانًا بقضيته، وإحاطة برسالته. ووعيًا لمقوماته، وأشد حرصًا على أن أن يتزود بالإيمان، ويتسلح بالفكر؛ ليخوض المعركة بثقة وعزيمة وثبات، ويطل على الدنيا من جديد، ويقول للتائهين السادرين: هذا هو الطريق {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2
1 محمد أسد: "الطريق إلى الإسلام" ص377.
2 الحج: "40".