الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 القصص: "77".
4-
بثها روح التميز في الأمة:
أ- ومن خصائص الثقافة الإسلامية بث روح التميز التام لهذه الأمة في القول والعمل والسلوك.. تميزًا ينأى بها نأيًا كاملًا عن التشبه بغيرها من الأمم المخالفة لها في العقيدة والخلق والاتجاه في كل شأن يمس وجودها الفريد، وأوضاعها الاجتماعية وطابع شخصيتها العامة.
إن الشعور بالتميز يصون في الأمة مقومات وجودها، وينشئ لها كيانًا راسخًا صلبًا، لا يعتريه التصدع، أو ينفذ إليه الخلل، ما دام هذا الشعور مستندًا إلى الحق والخير والفضيلة، منبثقًا من جوهر العقيدة، وأصولها الثابتة؛ متصلًا بالشريعة وأحكامها بأوثق سبب. وهو -في آثاره الفكرية والنفسية- يعمق ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من كراهية للكفر ونفور منه، وتباعد عن خطه المنحرف، وسيره الشاذ.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.
ففي هاتين الآيتين لفتة تربوية عالية تلح على الفاصل الكبير بين أسلوبين في الخطاب، بينهما في ظاهر اللفظ تشابه؛ لكنهما -في ظلالهما النفسية، وما تنم عنه من نوايا- مختلفان.
وقصة ذلك: أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية، لما يقصدون من التنقيص؛ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا؛ يقولوا: راعِنا، ويورّون بالرعونة كما قال تعالى:
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم "والسام هو الموت". كما ورد أن بعض اليهود كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع. وقد حسب المسلمون أن الأنبياء كانت تفخم بمثل هذا الخطاب. فكان ناس منهم يقولون مثل هذا القول؛ فجاء النهي للمؤمنين عن التشبه باليهود في أقوالهم وأفعالهم، وكره الله للمسلمين أن يقولوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم:"راعنا"، وسقطت هذه الكلمة في ميدان التربية الإلهية؛ لا باعتبار حروفها وتركيبها؛ فهي كلمة عربية مثل غيرها من الكلمات؛ ولكن باعتبار صدورها عن اليهود الأشرار المفسدين. وفي هذا نهي قاطع
1 البقرة: "104-105".
2 النساء: "46".
للمسلمين عن التشبه بالكافرين في كل ما يصدر عنهم من قول أو عمل؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وكيف يتشبه المسملون بهؤلاء الأعداء؟ من الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهم يطوون صدورهم على أشد العداوة والبغضاء، ولا يضمرون للمؤمنين إلا الحقد والضغينة، ويكرهون -حسدًا واستكبارًا وتعصبًا- أن يختارهم الله لحمل رسالة الحق والخير والسداد، وأن يعدهم لقيادة البشرية، وتحريرها من أغلال الظلم والطغيان..
ب- وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حقيقة التميز ومعناه مبينًا ضرورة المسلم وحاجته إلى هداية الصراط المستقيم، وهو سبيل التميز؛ محذرًا في ذلك من الانحراف إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وأوضح أثر التميز في نفس المسلم وسلوكه وأحواله كلها؛ مشيرًا إلى ما تورثه المشاركة من تناسب وتشاكل بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.
قال: "ثم إن الصراط المستقيم: هي أمور باطنةٌ في القلب: من اعتقادات وإرادات، وأمور ظاهرة ومن أقوال وأفعال قد تكون عبادات. وقد تكون أيضًا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب، وغير ذلك.
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة: بينهما -ولا بد- ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةًً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له.
فكان من هذه الحكمة: أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر -وإن لم
يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة -لأمور: منها: أن المشاركة في الهدى الظاهر، تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينةً ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتمّ حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام -لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجود في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين؛ إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم؛ فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ فإنه يكون شعبة من شعب الكفر. فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي أن يُتَفَطَّنَ له. والله أعلم"1.
وإن المسلمين الذين اختصهم الله برحمته، ومنَّ عليهم بفضله العظيم، فكانوا حملة الأمانة الإلهية، والأمة الوسط الشهداء على الناس؛ مدعوون -دائمًا- إلى أن يلتزموا المنهج الإسلامي الكامل في العقيدة والفكر،
1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص11.