الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: خطط المبشرين والمستشرقين
الغزو الاستعماري والتبشير
الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته
…
الغزو الاستعماري والتبشير الغزو الفكري: أبعاده ومواجهته:
1-
لقد استطاعت قوى الشر أن تحتل بعض المواقع الرئيسة في هذا الحصن الإسلامي الشامخ، حين حاولت -بالغزو الفكري وبعث الجاهلية بصورة جديدة- أن تفصل بين هذا الجيل وبين إسلامه، مصمِّمَة بذلك على استئصال استمرار الإسلام في المسلمين، والقضاء على أن يكون للإسلام ناس يتحرك بهم إلى أهدافه.
وانطلقت هذه القوة التي يجمعها الحقد على الإسلام ويحركها العداء للمسلمين -على ما بينها من تنافر واختلاف- لتحقيق الغرض القديم للجاهلية على مدار الزمن، فاستغلت التدهور الفكري، والاضطراب السياسي، والضعف والتمزق والانقسام، فسيطرت على البلاد الإسلامية وأخضعتها بالقوة والتآمر الماكر لنير استعمارها، وإذا كانت هذه القوى الاستعمارية قد احتلت الأرض، وسلبت الأموال، واستغلت الخيرات، وعاثت في البلاد الفساد، فقد كانت أخطر النتائج التي أعقبت هذا الغزو الصليبي الجديد، تلك التبعية الثقافية، التي بدأت إعجابًا بالمظاهر المدنية، والمبتكرات الصناعية، وتحولت -نتيجة الالتقاء بالغرب والأخذ عنه-
إلى شيوع روح الانهزام الفكري، وضياع روح الاعتزاز بالشخصية الإسلامية، لدى فريق ممن تخرج على أيدي أساطين الاستعمار ووفق خططه ومناهجه، وكان هؤلاء المتخرجون الذي سرعان ما تسلموا من أيدي أساتذتهم ومدربيهم زمام القيادة الثقافية والاجتماعية، أول الداعين إلى هذه التبعية الثقافية، والعاملين على نشرها والترويج لها.. بل لقد فرضوها -بما لهم من سلطة ونفوذ- في البلاد الإسلامية، واستطاع هؤلاء الذين فقدوا كل السمات الأصلية التي تربطهم بعقيدتهم وأمتهم أن يتولوا عن المستعمرين مهمتهم، وينشطوا لتحقيق أغراضهم، فأثاروا حملة التشكيك في مبادئ الإسلام وأوردوا الشبهات حول كثير من أحكامه، وحرصوا على أن يحجبوا الثقافة الإسلامية عن أبناء الإسلام؛ ليظلوا جاهلين بالحقائق الناصعة الكبرى التي جاءت بها رسالة الإسلام، وليتاح لهم -بسبب هذا الجهل بالمقومات الذاتية- أن يغرسوا المثل الغربية المادية والفكر المسموم والثقافة الدخيلة، وانفرد هؤلاء بالتخطيط التربوي ورسم السياسة التعليمية في كثير من البلاد الإسلامية، يحاولون أن يصبغوا الجيل المسلم -بتفكيره وأسلوب حياته- على أساس القوالب الغربية المحضة. وفقد -نتيجة ذلك- المقياس الصحيح والقوي للحكم على الأشياء، فأصبح بعض المسلمين يردد -ببلاهة وضياع شخصيته- كلمات الرجعية والتقدمية والتطور والتجديد، ويحاول أن ينقل التجارب الخاصة بالغرب وحده إلى الجو الإسلامي نقلاً تامًا دون تمحيص أو تمييز.. وانتشر الإلحاد والانهيار الخلقي.. وأخذ التقليد لأعداء الإسلام صوة التشبث التام بأسس الثقافة الغربية والحضارة المادية.. بل لقد بلغ الإسفاف في هذا التقليد حد الذوبان الكامل في بعض تفاهات المجتمع الغربي وأوضاعه التي يشكو هو منها وصح في هؤلاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سَنَنَ من قبلكم، شِبرًا بشبرٍ، أو ذراعًا بذراع، حتى لو دخل أحدهم جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه".
2-
وقد كانت لهذا الغزو الفكري آثار بالغة في تأثير الثقافة الغربية على الناشئة المسلمة، ذلك أن الغرب بادر إلى فرض الثقافة الغربية على المسلمين من خلال استيلائه على بلادهم ومصادر ثرواتهم، مما كان معناه أنه لن ينال الرزق في البلاد الإسلامية التي استولى الغربيون عليها إلا من يتلقى التعليم الذي فرضوه، فأقبلت الناشئة على المعاهد الغربية -تحت هذا الضغط الاقتصادي إقبالًا هائلاً، وتعلمت في معاهد الغرب جميع النظريات والمظاهر العلمية التي كانت بروحها وشكلها مناقضة لثقافتنا الإسلامية، وإذا كانت هذه المعاهد قد أخفقت في أن تخرج أبناء المسلمين عن دينهم، وأن تحولهم كفارًا مرتدين، فإنها -من ناحية أخرى- لم تجعل إلا قليلاً من هؤلاء على ولاء وفهم صحيحين للإسلام، من حيث الاعتقاد والفكرة، والنظرة والوجدان، والعلم والسلوك.. فقد نالوا من المسلمين في هذا المجال منالاً كبيرًا، وألحقوا بنا ضررا فادحًا، فقد استأصلوا من عقولنا وقلوبنا جذور ثقافتنا، وغرسوا فيها جذور ثقافتهم. كما فرضوا علينا كذلك نظمهم الاقتصادية من خلال فلسفاتهم ونظمه المادية، وفرضوا علينا قوانينهم أيضًا، ولم يبدلوا بذلك صورة نظامنا الاجتماعي فحسب، بل أحدثوا تغييرات هائلة في تصوراتنا الاجتماعية، كما فرضوا علينا مفاسدهم الخلقية وعاداتهم المتنافرة مع عاداتنا وتقاليدنا، ولم نأخذها كعادات أجنبية، بل نظر إليها بعضنا أنها نماذج للمثل الرفيعة والعادات الراقية..
3-
لقد كان تجاوب فريق منا مع أبعاد هذا الغزو الفكري تجاوبًا إيجابيًا ينطلق من نظرة الضعيف إلى القوي، والمغلوب إلى الغالب، والمنهزم إلى المنتصر، وكان دافع هؤلاء إلى التجاوب -على هذا النحو- أنهم قالوا: لا قِبَلَ لنا بالمقاومة بعد أن غلبنا على أمرنا، واستولى علينا غيرنا، وإننا إذا حاولنا المقاومة بؤنا بالإخفاق والخسران، فلا مناص لنا من أن نستفيد من كل فرصة من فرص الحياة، والمضي مع
ما أسموه ركب النهضة والرقي والتقدم1..
غير أن الغرب لم يستطع أن ينفرد بالتوجيه الفكري والثقافي انفرادًا تامًّا في البلاد الإسلامية، على الرغم مما بذله في سبيل هذا التفرد من مال وسلطة ودهاء وسياسة، وتبشير بالفكر الأوروبي وبالمسيحية، وإلحاح دائم على جعل المسلمين في يأس من حاضرهم ومستقبلهم. فقد وجد مقاومة ومعارضة لاتجاهه وغزوه.. وإذا كانت هذه المقاومة قد اتسمت -في أول الأمر- بطابع التحرر من السيطرة الاستعمارية فقد كانت هذه السمة السياسية ذات قواعد فكرية إسلامية أصيلة، بل كانت بواعثها الأساسية حماية الإسلام من أعدائه، وتقوية صلة المسلمين بدينهم وفهمهم لمبادئه فهمًا يمكنهم من السير في الحياة المعاصرة2..
لقد كان الاستعمار بحملاته العسكرية وغزوه الفكري وسيطرته السياسية والاقتصادية محنة حقًّا للعالم الإسلامي كله، ولكن المسلمين الذين ينتسبون إلى جميع الأجناس والألوان، ويمتدون في رقاعٍ كبيرةٍ من الأرض، لم يجدوا عصمة لهم من هذه المحنة إلا بالإسلام. فلم يلوذوا بكبرياء الجنس، والعنصر واللون، ولم يعتزوا بالأرض والتراب كما صنعت كثير من الأمم التي تعرضت لنكبات اجتياح عاصف من غزوات الأقوياء.. لقد بقي لهذه الأمة الإسلامية دينها الذي يردها إلى مقومات الحياة الحقة الكريمة3. وهذا الاعتصام بالدين الذي سرى تياره في كيان العالم الإسلامي إثر الغزو الفكري الغربي والهجمات الحاقدة التي رمى فيها أعداء الإسلام هذه الأمة الإسلامية عن قوس واحدة، هو
1 انظر: "واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم" تأليف: أبي الأعلى المودودي ص176، 182.
2 انظر "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" تأليف: الدكتور محمد البهي ص71.
3 انظر "الإسلام في القرن العشرين" تأليف: عباس محمود العقاد ص115.
الذي عمّق في المسلمين فكرة معالجة قضاياهم بروح عقيدتهم الحية الكاملة الشاملة.
4-
وقد لفتت فكرة الاعتصام بالإسلام وحده في مواجهة الغزو الأجنبي -عسكريًّا واقتصاديًّا وفكريًّا- أنظار عدد من القادة السياسيين والمفكرين الإسلاميين إلى ضرورة الإلحاح -في إطار التربية والتوجيه- على تجلية الروابط بين المسلمين، والعوامل المشتركة التي تؤلف بينهم، وظهرت في هذا المجال دراسات وبحوث وافية عميقة، وانطلقت اتجاهات سياسية وفكرية في عدد من الأقطار الإسلامية تدعو إلى مواجهة التحديات بجرأة وثبات، وتضع مناهج في التربية والثقافة، والاجتماع والاقتصاد، على قاعدة الالتزام بالإسلام والولاء له، عقيدة وعبادة، وسلوكًا ونظامًا، وروابط وعلاقات، وكيانًا إسلاميًّا واحدًا يتجاوز منطق التجزئة ورواسب الضعف وآفات التخلف، ويطرح في حركته الجديدة -وهي أصيلة في نشأته ووجوده- كل التيارات الوافدة: من قومية وإقليمية، وغيرها من المذاهب المادية الهدَّامة.. وينطلق في معترك الحياة المعاصرة بعقيدة الإسلام ورسالته في المجتمع البشري، وهي رسالة الحضارة الخيرة المثلى، والسلام الشامل للإنسانية على هذه الأرض.
ويمكن إجمال هذه الروابط والعوامل المشتركة في1:
أ- وحدة العقيدة والمبادئ:
وهي تقوم على تصور واحد للوجود والكون، وتوجز في عبارة جامعة هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله". ويتفرع عن هذه العقيدة مبادئ ومفاهيم وأفكار وعواطف وتتولد عنها نتائج مهمة كان ولا يزال لها أثر في مجرى تاريخ الشعوب الإسلامية وفي حياتها.
1 انظر تفصيل ذلك -تحليلًا وأمثلة: "المجتمع الإسلامي المعاصر" تأليف: محمد المبارك ص28-32.
ب- وحدة القيم الخلقية: ويتميز المجتمع الإسلامي -في هذا الجانب- بالتوافق المبدئي في تقويم الأعمال من الوجهة الأخلاقية وتحديد الخير والشر، والفضائل والرذائل.
ج- العادات: ويشترك أفراد المجتمع الإسلامي -بباعث هذا الاتفاق في التقويم للأعمال والأشياء- في كثير من العادات التي يُحَكِّمون فيها الإسلام تحليلاً وتحريمًا.
د- الثقافة: ويشترك المسلمون في عناصر هذه الثقافة الإسلامية الواحدة وأصولها وعناصرها، فهم يدرسون القرآن الكريم والحديث الشريف والعقيدة وأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق وسائر تعاليم الإسلام. كما يقرءون كثيرًا من آثار الفكر الإسلامي في مختلف الميادين والعصور في الأدب والتاريخ وتراجم الرجال وسائر جوانب الثقافة الإسلامية.
هـ- التاريخ: لما كانت الأحداث التاريخية عاملاً مهمًا في تكوين نفسية الأمة وعواطفها وأفكارها وتوحيد مواقفها؛ فإن المسلمين يشتركون جميعًا في أحداث الإسلام وصفحاته وانتصاراته ونكباته، وتتوحد نظرتهم إلى شخصيات تاريخهم الإسلامي عهوده المختلفة، وفق مقياس الإسلام في ذلك.
و التشريع والأحوال الاجتماعية: لقد طبع التشريع الإسلامي -الذي يرجع في أصوله إلى القرآن والسنة- المجتمع الإسلامي في جميع البلاد بطابع واحد. فتشريع الأسرة وتنظيم العلاقات المالية والتجارية بين الناس هو تشريع واحد، ولم يطرأ الخلل على هذه الوحدة التشريعية إلا في القرن الأخير حين بدأت عدد من البلاد الإسلامية تستبدل بالتشريع الإسلامي التشريع الأجنبي، وبقيت بعض البلاد الإسلامية سائرة في طريقها الأول في تنفيذ التشريع الإسلامي.