الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غافلة عن حقيقتها، ويحجبها الفريق اللامع المصنوع بكثير من المهارة عن النظرة النافذة العميقة التي تقومها التقويم الصحيح.
4-
وليس يعرف في تاريخ الأمم -ماضيها وحاضرها- أن واحدة منها أهملت في نشر ثقافتها، أو تركتها تذوب في ثقافة غيرها، أو تتلاشى في عقول أبنائها؛ لتحل محلها ثقافات أخرى طارئة غريبة..؛ ذلك أن الثقافة -في حقيقتها- هي الصورة الحية للأمة؛ فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادؤها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار..؛ فإذا اهتزت هذه الصورة، أو اضطربت ملامحها، أو طمسها الركام المتكاثف فوقها؛ لم يكن للأمة -بسبب ذلك- شخصية تميزها، أو سمات تنفرد بها؛ بل تصبح تبعًا لغيرها، حتى تنتهي إلى الاضمحلال، وتؤول إلى الزوال، وتلك هي الكارثة التي تخشى كل أمة حية أن تحل بها، فتمحق وجودها، وتطمس حياتها.
الثقافة والتغيرات الطارئة:
1-
إن هذا هو شأن الثقافة في حياة الأمة في أحوالها المعتادة المألوفة، وسيرها مع حركة الحياة في خطاها الرتيبة؛ شأنها في ذلك شأن الجو الطبيعي في صفاء سمائه، وإشراق شمسه، وحركة الرياح فيه، ومستوى درجة حرارته، وفق الفصل الذي يكون.. غير أن الأحوال المعتادة لا تبقى دائمًا في نطاق المألوف؛ بل تتعرض في مناسبات ملحوظة أو غير ملحوظة إلى التغير، وقد يبلغ هذا التغير درجة لا يبقى معها من المعتاد المألوف شيء؛ فتتبدل الأوضاع وتأتي على صورة جديدة غير متوقعة أو معروفة.
وهنا تصبح خطى الحياة الرتيبة خطى متسارعة منتظمة، أو قلقة مضطربة لا توازن فيها ولا انتظام.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا في الذهن لتجلية هذه الحقيقة عن أثر الثقافة وخطرها في حياة الأمة حين تكون في غير الجو المعتاد، والمناخ المألوف: أو في ما يمكن أن نطلق عليه حالة التغيرات العاصفة..؛ فإن علينا أن نتصور هبوب ريح عاتية، وانتشار سحب كثيفة، تتلبد معها السماء، وتحتجب الشمس، وتنهمر الأمطار قوية غزيرة؛ فتشكل سيلًا رابيًا قد يتحول إلى فيضان شديد في فصل ليس مألوفًا فيه أن يقع مثل هذا التغير الكلي الذي يحمل الإنسان على أن يسائل نفسه عن الفصل الذي يعيش فيه بسبب اختلاف ما يرى، وتنافيه تنافيًا تامًّا عن طبيعة المناخ المألوف لديه.
2-
في ضوء هذه الصورة يمكن أن نلحظ التشابه بين الثقافة والمناخ، وأثرهما على الأمة من حيث الجو الطبيعي والإلف المعتاد في سير الحياة وفق الخطى الرتيبة المعروفة، وما يعرض للثقافة والمناخ معًا من تغير وتبدل، وغيبة للمألوف، عندما تختفي رتابة الحركة وتفقد الاتزان والتناسق والانسجام.. ولا يكاد هذا التشابه بين الثقافة والمناخ يختلف إلا في الأمور التالية:
أ- عودة المناخ بعد التغير إلى حالته الطبيعية المألوفة؛ فيتلاشى الضباب، وتهدأ الريح وتشرق الشمس، ويغيض ماء الفيضان، وليس الأمر كذلك في الثقافة؛ فلا بد أن يترك التغيير آثاره العميقة التي يطول مكثها، وقد يعسر التغلب عليها. ولا شك أن ضباب الفكر لا يمكن أن يتلاشى سريعًا من سماء الثقافة، وكذلك الحال في عصف التيارات الغريبة الوافدة، وما يترافق معها من طوفان الانحراف، وما تخلفه من رواسب آسنة مؤذية في مفاهيم الأمة وأخلاقها وطابع حياتها.
ب- تستطيع الأمة أن تعالج على المدى القريب أو البعيد آثار الكوارث الطبيعية
مهما كانت شديدة ثقيلة..؛ فهي تعمل وتبذل وتبادر إلى بناء ما تهدم، وإصلاح ما فسد، وبث الحركة فيما أصابه العطب.. وتقوى إذا حدث وصبرت على إزالة جميع الآثار الضارة وطمس الرواسب المؤذية.
وليس الأمر في الثقافة على هذا النحو تمامًا، فإن بناء ما تصدع، وإصلاح ما فسد، وتحريك ما توقف، وبث روح الحركة السوية المتزنة في الحياة الفكرية والاجتماعية بعد التغير الناجم عن الحركة القلقة الملتوية المضطربة.. إن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير وبذل سخي وعمل متواصل.. ولا بد أن يفوق -أضعافًا مضاعفة- جهد الأمة وبذلها وعملها وكل ما تنفقه من أجل التغلب على نتائج أشد كوارث الطبيعة وأضخمها وأعنفها.
ج- وليس من شك في أن قدرة الأمة على ذلك محفوفة بكثير من الصعاب، بسبب عمق القضايا المعنوية وتعقدها، ووفرة ما تتصل به من شئون وأوضاع، وهي كلها شئون حيوية، وأوضاع أساسية، يعد إهمال أمرها كارثة كبيرة، كما يؤدي خطأ علاجها، في أي جانب أساسي من جوانبها مدعاةً إلى سلسة أطول من الأخطاء؛ ثم إن البون شاسع جدًّا بين علاج المشكلات المادية والمشكلات المعنوية من حيث كنهها الذاتي، وطبيعة كل منها وخصائصها المتمايزة، ومن حيث إمكان الإصلاح ويسره وطواعيته ثم مدى بلوغ نتائجه.
إزاء هذا لا بد من الإلحاح على بيان خطر الثقافة في حياة الأمم، وأثرها البالغ في وجودها، ولا مناص لأي باحث يتصدى لعلاج هذه القضايا من أن يحاول -أقصى ما وسعه الجهد وبكل وسيلة ميسورة لديه- إثارة الإحساس بهذه القضية، ودفعها إلى بؤرة التوتر الذهني والطاقة العملية؛ حتى لا يكون وعي القضية الثقافية، والتصدي لعلاج مشكلاتها دون مستوى ما ينبغي لها -على مختلف فئات الأمة- من تعمق في الفهم، واستيعاب للقضية، وإحاطة بمشكلاتها، وجدٍّ في علاجها، وبحث عن الخطة المثلى في حلها.
3-
وإذا حاولنا أن نتجاوز الإطار العام الذي يصدق على أمم شتى، وأن نضع قضية ثقافتنا في ميزان التحليل، وفق ما سلف لنخرج بتقويم دقيق صحيح..؛ فإنه لا غنى لنا عن الإشارة إلى ملاحظة مهمة ينبغي أن توضع في موضعها الصحيح وهي: أن الهروب من المشكلات لا ينفي وقوعها، ثم إن محاولة العزلة لا يقضي أبدًا تسرب هذه التيارات إلينا..؛ بَلْهَ إن العزلة نفسها ليست ممكنة في هذا العصر، والذي تلاقت الأمم فيه بوسائل كثيرة من الاتصال، والذي أصحبت التيارات الثقافية فيه كالتيارات الهوائية على حد سواء؛ أضف إلى ذلك أن هذا العصر قد فرض علينا أن نتلاقى مع غيرنا من الأمم والشعوب في عدد من ساحات العمل المشترك بتأثير مقتضيات دولية وإنسانية وشئون حيوية كبرى تخص وجودنا وقضيانا نفسها. ثم إن فترة الانطواء التي جرت في العالم الإسلامي حقبة قصيرة من الزمن لم تكن فترة خصب وازدهار، وإن كانت فترة تماسك وصمود؛ لا يوصف بالقوة والحركة إن لم يوسم بالضعف والجمود؛ ولكن لم يكن ينتظر لها أن تستمر وتطول، إزاء حدة ما يحيط بها من عواصف عاتية وتيارات شديدة..
"لقد كانت الفترة التي عاشت فيها بعض الأقطار الإسلامية بعيدة عن الحضارة الحديثة بخيرها وشرها، زاهدة في مرافقها وأساليبها، منطوية على نفسها. لقد كانت هذه الفترة قصيرة مضطربة، مهددة بالغزو الحضاري والثقافي من الخارج، وموجات هذه المدينة العاتية التي تتغلغل إلى الجذور والأعماق، وتذهب بالقيم والمفاهيم ومبادئ الأخلاق، ويشك كل عاقل -عرف قوة نفوذ هذه الحضارة وسعته، وعرف ضعف هذه الأقطار الروحي والمادي، وفقدها ما يقاوم هذه الحضارة من إيمان وقوة شخصية وثقة- يشك في بقاء هذه الأقطار في سلخها وحصارها المدني والثقافي والاجتماعي، ويشك في طول هذه الفترة؛ لأنها -مع وجود هذا الضعف في الشخصية والفقر في القوة